تأليف: فلاديمير بيلياكوف
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا | أكاديمية ومستعربة روسية
من الهزات الاجتماعية التي أحدثتها الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917، والحرب الأهلية التي تلتها، ثمة موجات الهجرة التي تدفقت من روسيا إلى العديد من البلدان المجاورة، ومن هذه البلدان ارتحل المهاجرون الروس مرة أخرى إلى بلدان قصية وأبعد ما يكون عن حدود وطنهم مثل أستراليا وبلدان أمريكا اللاتينية. وبين هذه الموجات التي تنوعت مقاصدها (وإن ظل البحث عن الاستقرار هو دافعها الأكبر) تدفق تياران رقيقان انصبا في شمال إفريقيا وذلك في عام 1920، أحدهما كان بهدف إجلاء الجرحى والمرضى من الجنود البريطانيين ومن رافقهم من مدنيين من مدينة نوفوروسيسك الروسية إلى مدينة الإسكندرية في مصر، والآخر حدث ضمن عملية انسحاب قام بها أسطول البحر الأسود من ميناء سيفاستوبول إلى ولاية بنزرت التونسية. وبالمقارنة مع الأعداد الكبيرة التي تدفقت إلى الغرب وأمريكا الجنوبية وأستراليا، فإنَّ تعداد المهاجرين الروس إلى الشطر الشمالي من إفريقيا انحصر بين أربعة إلى خمسة آلاف شخص.
واجهت المستشرق الروسي فلاديمير بيلياكوفصعوبات جمة في تجميع مادة كتابه عن المهاجرين الروس في مصر وإنشاء بحثه فيوصف الظروف المعيشية التي أحاطت بالمهاجرينواستقراء وضعهم في المُجتمع المصري ورصد مساهماتهم في مد الجسور بين البلدين، ذلك لأنّ الشرذمة والانقطاع صفتان لازمتا "الجالية" الروسية في مصر؛ فبعض المهاجرين لم يطل مقامه، حيث عاد إلى روسيا في نفس العام بعد أن تلقى العلاج في المستشفيات البريطانية هناك. مهاجرون آخرون، وبعد قضاء عامين في مُخيمات اللاجئين، آثروا السفر إلى بلغاريا وصربيا، وفي الأخير بقي الرهط من المهاجرين الذين تمكنوا من الانفصال عن مراكز اللجوء وتلمس الطريق داخل المجتمع المصري المختلف. اليوم، ولو بحثنا عن أحفاد المهاجرين الروس إلى مصر، سنجدهم متفرقين في الأرض وموزعين على جهاتها الأربع.
يركز المؤلف على مسألة تكيف المهاجرين الروس التي شابتها الصعوبات الناتجة عن اختلاف البيئة الثقافية والدينية في مصر، بعكس ما جرى للمهاجرين إلى الجانب الأوروبي أو حتى إلى قبرص القريبة من مصر، حيث سهل الاندماج بين المهاجرين والبلدان المستقبلة بسبب القواسم المشتركة فيما بينهم.
ويتناول الكتاب مصير المهاجرين الروس إلى مصر من خلال منظور التاريخ المضطرب للبلد المضيف والذي كان بحسب وصف المؤلف "نعمة ونقمة على الروس" (ص 38).كما يرصد المؤلف عملية تشكل النمط الحياتي للمهاجرين الروس عبر ربطهم بالحلقات المجتمعية التي تماسوا وتداخلوا معها في مصر، ويجد أن أولى هذه الحلقات وأقربها إليهم كانت حلقة المواطنين الأوروبيين المقيمين في مصر قبل وفود المهاجرين الروس إليها (وكانت أعدادهم غير قليلة آنذاك)، حيث ساهموا كثيرا في تحديد مصير القادمين الجُدد. فإلى جانب القواسم الثقافية المشتركة بين الجانبين، الروسي والأوروبي، يرجع الكاتب سبب اجتذاب الروس إلى الأوروبيين، إمكانية الحصول على عمللدى أقرانهم الأوروبيين وما وجدوه لديهم من تجاوب إيجابي في هذا الشأن. من ناحية أخرى، فإنّ المجتمع العربي، مع بعض الاستثناءات القليلة، كان ينسب الروس إلى الكتلة الأوروبية العامة، وكان يقاطعهم بسبب ذلك، أو، في أحسن الأحوال، يعاملهم معاملة باردة. ووفقاً لرئيسة لجنة مساعدة اللاجئين الروس في مصر الليدي سيسيلي كونجريف فإن المهاجرين الروس وجدوا أنفسهم في محيط يتسم بالاستنفار العام ضد الأجنبي المُهيمن وفي مرحلة نضال للمصريين للتخلص من هذه الهيمنة، فكان من الطبيعي أن يقع الروس في أتون الاحتقان والضغط وإن كان ذلك بلا نية تتقصدهم.
أفرد المؤلف فصلاً من دراسته لشخصيات بارزة من المجتمع الروسي ساهمت في إثراء الثقافتين الروسية والمصرية. فمن بين الروس الذين استقروا على ضفاف النيل كان الدبلوماسيون والضباط والأرستقراطيون وشخصيات ثقافية عامة وعلماء وأطباء ومهندسون. ويورد المؤلف أسماء لبعض الشخصيات الروسية التي كانت معروفة في بلادها مثل الطبيب والفيزيائي أنريب (1889- 1955) وممثلة المسرح الإمبراطوري الأميرة ناديجدا لانسكايا (1892 – 1937)، وعالم المصريات غولينيشيف، وهو أول أمين للآثار المصرية في متحف الإرميتاج، وقد تم تعيينه كأول رئيس قسم لعلم المصريات في جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة). وفي عام 2006 وضع له تمثال نصفي في باحة المتحف المصري باعتباره أحد أبرز علماء المصريات في العصور قاطبة. ومن الشخصيات الأخرى التي تركت أثرا في تاريخ العلاقات الروسية المصرية سكرتير القنصلية الروسية في الإسكندرية، إيفان أوموف (1883 – 1961) الذي ألف الكثير من المقالات عن الأدب العربي وقام بترجمة طيف منه إلى اللغة الروسية.
شخصية أخرى أحاطها المؤلف بقسط وافر من التعريف تتمثل في الفنان الروسي بوريس فريدمان – كليوزيل (1878 – 1959) الذي حط رحاله في القاهرة عام 1929. ومن مآثره هناك تأسيسه لقسم النحت في كلية الفنون الجميلة في جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة) التي كانت قد أنشئت حديثاً. وخلال إقامته في القاهرة بعد ذلك قام بإنشاء مدرسة فنون النحت الحديث، ومن بين الطلبة الذين تخرجوا على يديه هناك الفنان المصري المعروف محمد بهجوري وزميله حسين بيكار. ومن بين آثار هذا الفنان الماثلة للعيان ثمةالمنحوتة التي تزين درج كنيسة الروم الأرثوذكس (مارجرجس) وتمثال مؤسس المتحف القبطي مرقس باشا سميكة.
إضاءة أخرى يقدمها كتاب المهاجرين الروس إلى مصر تتمثل في الفنان الروسي إيفان بيليبين (1876 – 1942). يرسم المؤف، بادئ ذي بدئ، صورة عامة عن هذا الفنان واصفا مكانته الإبداعية في روسيا، ثم يأتي بعدئذ ليتتبع سيرته الحياتية والإبداعية في مهجره المصري. وفي هذا الجانب، يقدم لنا الكاتب هذا الفنان بصفته الصوت المشبع بالطاقة والروح الطافحة بالأمل وذلك برغم الظروف الصعبة وحياة الشتات التي يعيشها مع بني جلدته. كما يقوم المؤلف بنقل انطباعاته عن مصر وحياته فيها من خلال استشهاده بكتاب ألفه الفنان نفسه حمل عنوان "مصيري" ومن أجوائه ما يلي: "في عام 1920 ألج إلى عالم جديد وغريب، لكنه ثمين بالنسبة لفنان، هنا في مصر حيث أعيش وأعمل منذ خمسة أعوام. لن أنسى أبدا ذلك الانطباع المذهل عندما دخلت إلى الأحياء الإسلامية القديمة في القاهرة، بمساجدها المدهشة التي تعود إلى بدايات الزمن الهجري، بأسواقها وحشودها. لقد بدا لي أن إحدى صفحات ألف ليلة وليلة قدانفتحت أمامي، حتى أنني لم أتمكن من تصديق أن كل هذا يحدث حقيقة، وأن العصور الإسلامية، إن شئتم، مازالت حية حتى اليوم، وأن الحياة بقيت على حالها تقريبا. إن الأحياء الإسلامية في القاهرة تمتلك خصوصية كبيرة، هندستها المعمارية رائعة، وهناك الكثير من الآثار، والكثير من البازارات، والمحلات التجارية، والتجار،والمتسولون، والبدو، والزنوج، والجِمال، والحمير المزيّنة، والسجاد، والحلويات، والفاكهة، في كلمة واحدة، بإمكانك أن تجلس هنا وترسم لوحة من الحكايات الشرقية الخرافية!" (ص 92).
عاش بيليبين في القاهرة حيث قام بإنشاء أرشيف صور فريد من نوعه، وهو محفوظ اليوم في روسيا، وقد كان بيليبين متحمسا بشدة للفن القبطي، ويعتبره الأب المباشر وليس الجانبي للفن الروسي، وكان يتهيأ لإثبات فرضيتههذه عبر أرشيف الصور خاصته ولكن الوقت لم يسعفه لذلك. ومن الأعمال الفنية التي مازالت شاهدة على حياة هذا الفنان العاشق لمصر هناك إيقونات كنيسة القديسة بنتيليمون الملحقة بالمستشفى اليوناني في حي العباسيةبالإضافة إلى اللوحات التي أصبحت مقتنيات خاصة.
يتوصل الكاتب إلى استنتاج مفاده أن الشتات الروسي ترك أثرا كبيرا في مصر ولا يقارن بعدد المهاجرين. لقد كان معظمهم من المتعلمين وكانوا يكسبون خبز يومهم من حرفة التعليم، وبالنتيجة تكونت مجموعات من الموسيقيين والأطباء وعلماء المصريات والنحاتين المصريين ممن أصابوا تعليما لدى المهاجرين الروس. لذلك فليس من قبيل المصادفة أن تكون النخبة المثقفة المصرية حاضرة في الاحتفالات الخيرية السنوية التي كانت تقيمها الجالية الروسية في القاهرة ويعمدها الملك نفسه وذلك تكريما للدور الثقافي لهذه الجالية في مصر. من جانب آخر يشير الباحث إلى طبيعة الإنسان الروسي الميالة إلى المجال الثقافي منه إلى المجال التجاري وعالم المال، ويضرب مثالا على ذلك مشاريع الجالية الروسية في مصر كمصنع الحلويات في القاهرة والمطاعم الروسية وأكشاك التبغ ومحلات الوجبات السريعة على الشواطئ التي أغلقت أبوابها بعد أشهر قليلة من افتتاحها.
يسلط فلاديمير بيلياكوف الضوء على نجاح استراتيجي في العلاقات بين الدولتين، الروسية والمصرية، لم يكن ليتحقق لولا وجود المهاجرين الروس في مصر. فبعد قيام الثورة البلشفية عام 1917 وحتى شهر أغسطس من عام 1943، كانت العلاقات بين الاتحاد السوفيتي ومصر، كما هو معروف، شبه معدومة، وكانت الروابط التجارية وغيرها من الروابط منقطعة. وخلال الفترة الموالية قام المهاجرون الروس بملئ الفراغ وعقد الروابط بين الشعبين الروسي والمصري، فوفقا لتواجد المهاجرين في مصر، استطاع المصريون أن يحددوا نظرتهم من الروس ويضعوا تصورا مكتملا عنهم، الأمر الذي دعم الصورة الإيجابية للروس لقرون لاحقة. يقول الكاتب في هذا الصدد: "أعتقد أن هذه الصورة كانت أحد العوامل في تطور العلاقات الروسية المصرية، وإن بقي التطور الرئيسي والسريع هو ذاك الذي حدث بعد ثورة عام 1952" (ص 6)
وبحسب المؤلف فإن الدور الذي قام به المهاجرون الروس في مصر شكل دافعالأن يتجه المصريون إلى الخبراء السوفيت، وليس الغربيين، لإنشاء المدارس الوطنية المصرية للموسيقى الكلاسيكية والبالية والسينما والسيرك، مع عدم إهمال الاعتبارات السياسية التي لعبت دورها المحوري في هذا الاتجاه.
خلافا لذلك يثير المؤلف سؤالا دقيقا ومثيرا للاهتمام حول طبيعة المساهمة التي قدمها المهاجرون الروس للثقافتين المصرية والروسية، وهل يمكن اعتبارها منجزا حضاريا بالمعني الكوني للكلمة؟ يجيب الباحث بالقول إن الأمر يتوقف على طبيعة النشاط، فإذا كنا نتحدث عن إنتاج المواد الثقافية وخدمات التعليم، ففي هذه الحالة يصح التأكيد على أن المهاجرين الروس من مهندسين وأطباء ومعلمين قد ساهموا بشكل خاص في الثقافة المصرية، أي في المكان العيني الذي أقاموا فيه وليس في أي مكان آخر. بيد أنه،وعند تناول إسهامات العلماء والفنانين الكبار، فالحديث هنا يدور عن مساهماتهم في الثقافة العالمية ككل ومنها الثقافة الروسية نفسها، وليس في الثقافة المصرية عينيا وحصريا.
يربط المؤلف مسار بحثه بصفحات من مذكرات بعض المهاجرين الذين دفعتهم الظروف القسرية إلى مغادرة بلادهم والسفر إلى مصر، وهي صفحات تحمل قيمة فنية إلى جانب قيمتها التاريخية وتنقل لنا قبسا من الأجواء الاستثنائية التي أحاطت بعض المهاجرين مثلما يرد في هذه الكلمات المؤثرة: "دفن موتانا هنا من غير توابيت، ولسبب ما، لم يدفنوا في المقابر العامة حيث النخيل وأزهار الدلفى، وإنما في مكان منفصل. في صحراء صفراء، بمعزل عن مخيمنا، ثمة ساحة مسيجة بسلك شائك، تلك كانت مقبرتنا. إليها جلب الموتى الروس بنقالات المستشفى وهي ملفوفة ببطانيات قديمة ودفنت في الرمال... كومة من حصى البحر الأبيض كانت تعبرفوق القبور أما أسماءالموتى فنقشت على العلب وشبكت بصلبان خشبية... لقد كانت أفقر ما يمكن رؤيته من مقابر وأكثرها حزنا. لا أضرحة، ولا أكاليل، ولا شواهد للقبور، فقط مشهد البحر ولانهائية الرمال، فوقهم السماء والغيوم السارحة والسلام الأبدي والصمت المطلق للصحراء" (ص 19).
احتوى الكتاب على مجموعة كبيرة من الوثائق، وجزء كبير منها يقدم للمرة الأولى، إلى جانب الصور الفوتوغرافية ووصف للمقبرة الأرثوذكسية الروسية في مصر.
أخيرا تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب هو الأحدث من بين سلسلة دراسات بين العلاقات الروسية المصرية يقوم بها الصحفي والمؤرخ الروسي، الأستاذ في الجامعة العسكرية بموسكو فلاديمير بيلياكوف، مؤلف أكثر من اثني عشر كتابا في هذا المجال يُذكر منها كتاب "إلى ضفاف النيل المقدس" وكتاب "مصر الروسية" وكتاب "الجنود الروس في شمال إفريقيا 1940 – 1945.. العلمين.. صفحات تاريخ مجهول".
----------------------
التفاصيل :
الكتاب: الهجرة الروسية إلى مصر 1920 - 1980
المؤلف: فلاديمير بيلياكوف.
الناشر: أليتيا/ موسكو 2018 باللغة الروسية.
عدد الصفحات: 264
