تأليف: بريش بيربجلو
عرض: فينان نبيل
تُعد النظرية الاجتماعية مكوناً أساسياً اعتمده علماء الاجتماع لتحليل المجتمع والعلاقات الاجتماعية ودليلا لفهم الواقع الاجتماعي، ترجع أصول النظرية الاجتماعية الحديثة إلى الفلاسفة اليونانيين الكلاسيكيين أرسطو وسقراط وأفلاطون الذين كان لهم تأثير هام على الأجيال اللاحقة من المنظرين الاجتماعيين منذ "عصر التنوير" وحتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. طور المفكرون العظماء مثل "جان جاك روسو"- الذي يُعد أحد أبرز منظري عصر التنوير- أفكارهم حول أسس الأنماط العقلانية والتجريبية للفكر السائد في القرن السابع عشر، " وولدت أفكارهم المتفردة في القرن الثامن عشر عن مفهوم المجتمع والعلاقات الاجتماعية من خلال دمج الاكتشافات العلمية للمفكرين، الذين أحدثوا ثورة في دراسة الطبيعة ووضع معيار جديد في البحث العلمي. مثل"إسحاق نيوتن.
عززت الثورة الفرنسية المناخ الفكري في هذه الفترة، مما أدى إلى تفاؤل متزايد بتحسن الظروف الحياتية للإنسان، كما انعكست تطورات القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر على تحول في اتجاه الفكر الاجتماعي، وأنتجت تيارا جديدا من المنظرين الاجتماعيين مثل "ديفيد هيوم، وإيمانويل كانط، وأدموند بيرك، وجورج ويلهلم، وفريدريش هيجل" .أدت فترة ما بعد الثورة إلى ظهور رد فعل مُحافظ بدافع العودة للنظام الاجتماعي في القرون الوسطى ظهر في نظرية "لويس دي بونالد، وجوزيف دي ميستري".
ظهر خطان فكريان آخران، أحدهما يلتزم بالحفاظ على النظام القائم، والآخر يتخطى الوضع الراهن في اتجاه نظام اجتماعي قائم على المساواة، اعتنق ما أطلق عليه " كارل ماركس" فيما بعد "الاشتراكية الطوباوية". كما يتضح من "تفكير "هنري كونت" و"دي سان سيمون"، تأسس هذان الخطان بحلول منتصف القرن التاسع عشر بالتزامن مع مسارات الليبرالية /الردايكالية المحافظة التي جاءت لتحدد معالم التقاليد المتنافسة في تشكيل النظرية الاجتماعية الحديثة.
ظهرت نظريات اجتماعية متطورة لمفكرين كبار في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مثل (أميل دوركايم، وماكس فيبر، وكارل ماركس) والتي ينظر إليها معظم علماء الاجتماع على أنها نقطة تحول رئيسة في النظرية الاجتماعية الكلاسيكية. طور هؤلاء المفكرون العمالقة الثلاثة أنفسهم في استجابة للتحولات الاجتماعية العظيمة التي حدثت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وهي الفترة التي اتضحت فيها الآثار والنتائج الكاملة للحياة في المجتمع الرأسمالي بجميع أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
توسع "كارل ماركس" في تقديم تحليل مقارن للتناقضات الرأسمالية الأساسية، ووضع معايير للنقاش حول طبيعة المجتمع والنظام الاجتماعي الذي تناوله آخرون من بينهم "دوركايم، وفيبر، وجيتانو، وموسكا، وجورج هربرت ميد،،وسيجموند فرويد "،وقد أشار "ستالين" في مؤلفه" الأيديولوجية وتطور النظرية السوسيولوجية،" إلى أن عمل ماركس استحث ردود أفعال تفسر الجدل الذي طور النظرية الاجتماعية عند كثير من المفكرين في تلك الفترة، أو على -على حد تعبيره- "الجدل الحاد مع شبح ماركس شكل إلى حد كبير شخصية علم الاجتماع الغربي".
قدم الكاتب ثلاث مقاربات نظرية مختلفة جوهرياً في النظرية الاجتماعية المعاصرة استنادا لتحليل التفسيرات المختلفة التي قدمها المنظرون الاجتماعيون الكلاسيكون فيما يتعلق بطبيعة المجتمع، وهو ما أطلق عليه "توماس كوهن" النماذج، وهي النهج العضوي، والنهج الفردي، والنهج التنظيمي.
يؤكد النهج العضوي الذي تبناه "دوركايم"على دراسة النظام الاجتماعي على أنه" كائن حي يعمل كجسم الإنسان"، حيث تسهم جميع أجزائه في الحفاظ على الكائن الحي ككل، وعلى هذا فإنِّه من أجل الأداء السلس في المجتمع يجب أن يعمل كل جزء منه على اتساق المجتمع وانسجامه، وتوازنه، والحفاظ على استقراره.
تبنى "ماكس فيبر" المنهج الفردي" كتعبير نظري للنظام الرأسمالي الناشئ حديثا، والمؤسس على مبدأ المنافسة، والقطاع الخاص، والتصنيع، وإعطاء الأولوية للفرد كقوة دافعة للتنمية الاجتماعية، والفردية وهي الخصائص المميزة للمجتمع الرأسمالي الجديد. يركز هذا النهج على الفرد كوحدة لتحليل المجتمع، مع التأكيد على أهمية مفاهيم مثل مفهوم الشخصية، والذات، والتحفيز، والتكيف، على الرغم من أن "فيبر" وقليلين آخرين من أنصار هذا النهج يتعاملون مع ظواهر هيكلية أكبر مثل السلطة، والبيروقراطية، إلا أن الاعتماد الأكبر لهذا النهج كان على الطبيعة البشرية كقوة دافعة ومحرك للمجتمع، والعلاقات الاجتماعية تأتي لديهم في المقام الأول، حيث يتم تحديد المشاكل التي تؤثر على المجتمع مثل الانحراف الفردي، وسوء التكيف، وغيرها من المشاكل التي لا يُمكن حلها إلا من خلال النجاح في إعادة إدماج الفرد في النظام الاجتماعي القائم.
يؤكد النهج التنظيمي الذي صاغه" كارل ماركس" على أهمية التنظيم الاجتماعي، ويركز على العلاقات والصراعات الطبقية كقوة محركة للتغير والتحول الاجتماعي، هذا النهج يسلط الضوء على "العمل" باعتباره أهم مشكلات المجتمع، ومركزية المجتمع الرأسمالي مما يفسر ظهور الصراع الطبقى.
يتم النظر إلى طبيعة المجتمع والنظام الاجتماعي في ظل الرأسمالية من خلال الأسلوب المهيمن على الإنتاج الذي يحدد العلاقات الاجتماعية والتي تحدد بدورها العلاقات الاجتماعية الأوسع في المجتمع، بدلاً من دمج الفرد في الثقافة والأخلاق، كماهو الحال في الموقف العضوي المحافظ، أو تكيف الفرد في المجتمع من خلال التحكم في الانحراف الشخصي عن الأعراف الاجتماعية، كما هو الحال في الموقف الفردي الليبرالي، فإن التنظيم الماركسي يدعي أن المجتمع يقوم على "عدم المساواة الطبقية" كمصدر للتوترات الاجتماعية ما ينتج عنه عدم الاستقرار، فإن الصراعات الطبقية والنضال هي تعبير جماعي للأفراد المتضررين في المجتمع. (هنا) يمكن تحديد الآثار السياسية للمناهج الثلاثة بوضوح إذا ما وضعناها في سياقاتها التاريخية الصحيحة، حيث تطورت المدارس الفكرية الثلاث كاستجابة مباشرة للأوضاع الاجتماعية،الاقتصادية، والسياسية المتغيرة في القرنين الثامن والتاسع عشر، مثلت هذه المدارس مصالح الطبقات المختلفة التي جاءت لتحديد السياق الاجتماعي في الفترة الأكثر أهمية من التحول الاجتماعي التاريخي- الانتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية وتوطيد الحكم الرأسمالي في القرن التاسع عشر.
جاء النهج (الوضعي) الرجعي كرد فعل محافظ على النظام الرأسمالي الناشئ حديثا، ودفاعا عن النظام الاقطاعي القديم، حيث كان المجتمع يعمل حول المباديء الثقافية التقليدية التي رسختها الكنيسة، وارتبط الفرد بالقيم الأخلاقية لنظام العصور الوسطى، بينما لاحظ أنصار الاتجاه العضوي ارتباطا واضحا بين صعود النظام الرأسمالي والانحطاط الأخلاقي، والانحدار الاجتماعي، والأخلاقي. فسعى أنصار النهج العضوي أن يعملوا لصالح التماسك، والتضامن الاجتماعي، على النقيض، قدم النهج الفردي دعما للنظام الرأسمالي المتصاعد، حيث كانت التقاليد القديمة تفسح المجال أمام تقدم الفرد لتحقيق اقتصاد السوق القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، المنافسة، الفردية، نظرت المدرسة الفردية إلى انحسار النظام القديم كخطوة إلى الأمام في حرية الإنسان، حرية من عبودية الكنيسة، أو أي سلطة أخلاقية أخرى تملي شروطاً على الحياة الاجتماعية، وحرية تراكم رأس المال الخاص وفقا لقوانين السوق، على هذا دافع النهج الفردي عن مصالح الطبقة الرأسمالية ضد أصحاب الأراضي الإقطاعيين من جهة، والطبقة العاملة من جهة أخرى.
وأخيراً، انتقد النهج التنظيمي، رغم دعمه للحريات المحدودة التي تحققت في النظام الجديد، تكديس الثروات التي تحققت في ظل النظام الاجتماعي الجديد القائم على استغلال العمالة، التي أعتقدت أنها ستُصبح في نهاية المطاف واعية لمصالحها الطبقية وستكافح من أجل إلغاء الملكية الخاصة والربح الخاص من خلال التحول الثوري للمجتمع الرأسمالي، وتأسيس نظام اجتماعي جديد قائم على المساواة مكانها.
قدم "دور كايم"، " فيبر"، وماركس ثلاث استجابات بديلة للمسائل ذات الأولوية في وقتهم، ووضعوا معالم هذه النظريات المتنافسة على المستوى النظري الأوسع، لقد لعبت هذه النظريات دورا مركزيا في تطوير النظرية الاجتماعية على مدى القرن الماضي وأكثر، وينظر إليها مُعظم علماء الاجتماع اليوم على أنَّها تمثل أفضل عناصر النظرية الاجتماعية الكلاسيكية، رغم أن هؤلاء الثلاثة حددوا معالم الفكر المتنافسة في علم الاجتماع المعاصر، إلا أن هناك منظرون آخرون قدموا مساهمات مهمة لتطوير النظرية الاجتماعية وإن كانوا أقل تأثيرا منهم"تالكوت بارسونز، ميتون، ميلز، فيلفريدو، باريتو،، أنطونيو جرامشي، "وضعوا بصماتهم ضمن المعايير الأوسع للنظرية الاجتماعية المعاصرة.
أدى تراكم مصادر المعرفة على مدى القرن والنصف الماضيين، والتطورات التي طرأت على النظرية الاجتماعية إلى ظهور مناهج متنوعة تنتج العديد من النظريات المركبة الجديدة (على سبيل المثال "الماركسيين الجدد، والفروديين الجدد"، كما نبتت مدارس فكرية كاملة في ظل ذلك الزخم الفكري، على سبيل المثال "مدرسة فرانكفورت النقدية، والوظيفية البنيوية، والتفاعل الرمزي، النظرية النسوية.
ظهرت في الآونة الأخيرة أساليب تفكير "ما بعد الحداثة"، والتي تحاول شرح معالم النظام الاجتماعي" لما بعد الرأسمالية "، إن المنظرين الذين أختاروا هذا الاتجاه الأحدث في التنظير الاجتماعي النقدي رفضوا تحليلات التيارات السائدة، والماركسية للمجتمع المعاصر على حد سواء، فقد أدخلوا في تحليلاتهم الثقافية "النظرية والتطبيق لما بعد الحداثة"، تعرض هؤلاء لانتقادات قوية من أجل الترويج لفكرة أخرى في النظرية الاجتماعية المغرقة في التشاؤم الذي نتج عن تراجع وتضاؤل مركز الرأسمالية العالمية في العقود الختامية للقرن العشرين وعقود الافتتاح في القرن الحادي والعشرين.
ولَد النقد المعاصر للأزمة الرأسمالية العالمية المعاصرة جدالاً حادا بين المدارس الفكرية الرائدة وداخلها، وأدت إلى مجموعة متنوعة من المواقف النظرية البديلة، لايمكن فيها فصل النظرية الاجتماعية عن السياق الاجتماعي والظروف المادية السائدة في المجتمع،هذه الشروط غالبا ما تؤدي إلى مجموعة متنوعة من الاستجابات الفكرية التي تتطور إلى مواقف نظرية مختلفة تحاول معالجة التحولات الاجتماعية التي نمر بها اليوم .
طور العلماء على مر العصور نظريات اجتماعية لإرشادهم من خلال عملية تحقيق المعرفة لفهم المجتمع، الظواهر الاجتماعية، والتحديات والافتراضات التي تحيط بهم، اعتمادا على منهج نظري في التحليل الاجتماعي، وهو منهج ضروري، وخطوة مهمة في تحقيق فهم مستنير للمجتمع والعلاقات، والقضايا الاجتماعية التي طال أمدها حول العالم.
طرح الكتاب عدة مشكلات محورية للدراسة، التفكك الأسري، وانهيار النظام الأخلاقي (خاصة في الجانب الديني"، وانحدار القيم الثقافية التقليدية، حيث يُنظر إلى الثقافة والتقاليد والقيم الاجتماعية الراسخة كقوة دافعة أساسية للحياة الاجتماعية، تحدد مصدر ومنطق العلاقات الاجتماعية ضمن المفهوم المحافظ للمجتمع والنظام الاجتماعي، حيث ينظر إلى المجتمع على أنه كيان أكبر من الأفراد التي تكونه.
يكشف تحليل تراث النظرية السوسيولوجية ليس فقط عن معنى النظرية، بل يوضح أيضًا طبيعة التطور الذي طرأ على هذه النظريات منذ نشأة علم الاجتماع وأصبح علمًا له شرعية في الأوساط العلمية والأكاديمية. كما يكشف تطور النظرية السوسيولوجية عن مضمونها العام الذي وضعت من أجله والهدف منها في توجيه البحث والباحثين للسعي لدراسة الواقع وجمع المعلومات اللازمة حول دراسة المعرفة الإنسانية.
---------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب: النظرية الاجتماعية: الكلاسيكية والمعاصرة" منظور نقدي"
المؤلف: بريش بيربجلو
الناشر: روتليدج، نيويورك، 2018.
