من نحن؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟

220px-Who_We_Are_and_How_We_Got_Here_cover.jpg

تأليف: ديفيد ريتش

عرض: طلال اليزيدي

كتاب يعرضُ المساهمات لبحوث الـDNAالمرتبط باكتشافات أثرية وبحوث جينات المجتمع البشري للكاتب ديفيد ريتش (David Reitch)، وهو يعرضُ في هذا الكتاب أطروحات يصف فيها اكتشافات أظهرها فريقه البحثي أو فرق بحثية أخرى، هذه الأطروحات مبنية على تحليلات ومقارنات بين الـDNAالأثري والـDNAالبشري الحديث من مجتمعات بشرية مختلفة حول العالم.تتمركز النتائج المعروضة في كتاب ديفيد ريتشحول الاستطراد بأنَّ كل المجتمعات البشرية الحالية تتكون من مزيج نتج عن هجرات بشرية متتالية امتزجت على مرار العصور.

العلماء والنقاد أشادوا بالكتاب، ووصفوه بالبحوث الرائدة في مجال جينات المجتمع البشري، لكنه انتُقد أيضا لطريقة كتابته وطريقة تعامله مع العرق البشري، وإن أشار نقاد آخرون إلى أنه لا شيء في الكتاب يمكن اعتباره عنصريا.

ديفيد ريتش عالم جينات، يدرس علوم الجينات المتعلقة بالجينوم البشري المستخلص من اكتشافات أثرية لبقايا بشرية. في بحوثه يقارن تشكيلات الطفرات الوراثية لاكتشاف أي مجموعة بشرية هاجرت وامتزجت في فترة ما قبل التأريخ. ديفيد ريتش في فتره زمنية من حياته الأكاديمية أرشد من قبل العالم المختص في علوم جينات المجتمع البشري لوكا كافالي سفروزا. ومنذ العام 1960، لوكا حاول تطوير دراسة من خلالها يطابق بين دراسة بشر ما قبل التأريخ والاكتشافات الأثرية واللغات التي من الممكن أن يكونوا قد تواصلوا بها في تلك الفترة.

وفي العام 2010، استطاع علماء جينات المجتمع البشري اكتشاف سلسله الحمض النووي الوراثي DNA للبشر القدامى والتعرف على جميع القواعد النيتروجينية المكونة له، كان ذلك إنجازا عظيما مقارنة بالطريقة القديمة التي كانت معتمدة على الـDNAالمستخلص من الميتوكوندريا الموجودة بكثرة وسهلة الاستخلاص، الميتوكوندريا هي العضو الخلوي المسؤول عن التنفس الخلوي وتحتوي أيضا على حمض الـDNAالخاص بها،الميتوكندريا موجودة بنسخ عديدة في كل خلية، وتنقل من جيل إلى آخر فقط عن طريق الجانب الأمومي؛ فجميع الميتوكوندريا الموجودة في خلايا جسمك كلها ورثتها من أمك فقط، الحمض النووي المستخلص من الميتوكوندريا مُتعلق بالاكتشاف المثير الذي ينص على أن كل البشر الحاليين متقاربون عن طريق حمض الـDNAالموجود في الميتوكوندريا، هذا التقارب وصف بميتكوندريا حواء،امرأة عاشت في إفريقيا حوالي 16.000 سنة من الآن تقريبا.

استخلاص الجينوم البشري الأثري بالكامل تم باستخدام عظمة الأذن الداخلية القوية من هيكل بشري اكتشف أثريا، وكذلك عن طريق الجينوم البشري الحديث من مجتمعات بشرية من مناطق مختلفة من العالم، بالأخص الجينوم المستخلص من مجتمعات بشرية منعزلة، كل ذلك كان كفيلا بتشكيل الهجرات والاندماجات بين البشر في ما قبل التاريخ خلال 5000 سنه المنقضية، كذلك هذه البيانات دعمت استدلالات موثوقة عن الاندماجات بين البشر في فترة زمنية أقدم بكثير عن 5000 عام، المعرفة الجديدة من الجينوم الأثري أطاحت بالكثير من التخمينات عن أصول البشر.

الكثير من العمل المذكور في الكتاب ركَّز على غرب قارة أوراسيا (أوروبا وآسيا، مجتمعتين)؛ حيث في العام 1786 اكتشف السيد ويليم جونزأن اللغة السنسكريتية الهندية القديمة -التي تعد اللغة الرسمية للديانة الهندية، واللغة المستخدمة في الكثير من المنشورات الفلسفية الهندية القديمة- واللغة اليونانية القديمة لغتان متقاربتان. علماء اللغات الحاليين يعرفون عائلة اللغات الهندوأوروبية، بأنها عائلة اللغات الشاملة للغات الألمانية، والسلتية، والإيطالية، والايرانية، ولغات الهند الشمالية الشاملة للغات الأوردو، والبنجابي، والبجالي، والمراثي...إلخ، دون أي تفسير لكيفية اجتماع هذه اللغات لتشكل عائلة واحدة. ريتش أوضح في كتابه أن المجتمعات البشرية الحديثة في أوروبا وشمال الهند نتجت عن اندماج الشعوب الأصلية في كلا المنطقتين بشعوب اليامناياYamnayaفي مناطق السهوب، المناطق المستوية الممتدة المغطاة بالعشب وقلة الشجر إلا في مناطق الجبال والأنهار. تعرف هذه المنطق بالستيب بالروسية، ومناطق هذه الشعوب تقع تحديدا شمال البحر الأسود وبحر قزوين. هذا الاندماج حدث قبل 5000 سنه في هجرتين منفصلتين للغرب وللشرق. شعوب مناطق السهوب كانت من البدو المتنقلين، شعوب استخدمت عربات، وألفت ركوب الخيل، وبدأت في استخدام مشتقات الحليب، كل ذلك سمح لهذه الشعوب بالسيطرة على أي مكان حطت رحالها فيه. هجراتهم كانت المحرك الأساسي للعصر البرونزي، ورجال الحروب في هذه الشعوب اكتسبت الرفعة والغنى من خلال النهب والاغتصاب. الهجرات لم تقتصر فقط على شعوب اليامنايا فقط، لكنها شملت أيضا الهجرات من مجتمعات أخرى ذات سطوة رجولية مطلقه. ريتش علق على هذه المسألة: "الذكور من المجتمعات القوية في العادة تميل للارتباط بنساء من مجتمعات بقوة أقل".

نفس عملية الهجرة والاندماج فيما قبل التاريخ حدثتْ بين البشر في جميع القارات. ريتش أوضح في كتابه أن البشر في اليابان وكوريا يشتركون فيما نسبته 80% من حمضهم النووي الوراثي بسبب الهجرة، لكن البولينيزيين سكان جزر المحيط الهادي هاجروا نسبيا حديثا، هاجروا في آلاف السنوات الماضية من منطقه تايوان، الدلائل أيضا قد تزعج الكثير؛ فالهيكل العظمي لبشر من سكان أمريكا الأصليين عمره أكثر من 10000 سنة لا يبدو أنه مرتبط من ناحية القرابة من سكان القبائل القاطنين في جزر المحيط الهادئ حاليا، الذين يطالبون بتلك العظام البشرية لدفنها.

النانديرثالس مجموعة من البشر الأوائل انقرضوا، لكنَّ جزءًا من الجينوم العائد للنانديرثالس لا يزال موجودا؛ فكل البشر الحاليين الغير أفريقيين يملكون علىالأقل 2% من الحمض النووي العائد للنانديرثالس. ريتش أوضح أن ما بين 100,000 و50,000سنة من الآن، تزاوج البشر الحديثون مع البشر الأوائل النانديرثالس، وحملت ذريتهم تلك الجينات العائدة للنانديرثالس كل مكان حول الأرض. في هيكل أثري قديم من رومانيا بعد تحليل حمضه النووي تبيَّن أنه يمتلك 9% من DNA النانديرثالس؛ فالعلماء رجحوا أن الاصطفاء الطبيعي عمل على إزاله جينات النانديرثالس منذ ذلك التزاوج بين البشر الحديثين والنانديرثالس.

الفكرة الأساسية المهيمنة التي من الممكن أن تستخلص من الكتاب هي أنَّ أي مجتمع في بقعة أرض معينة تغير جذريا مرات عديدة منذ انتشار البشرية ما بعد العصر الجليدي؛ وذلك بحد ذاته اعتراف بأنَّ الطبيعة البشرية الهجينة الممتزجة من مجتمعات مختلفةيجب أن تتغلب على أي أفكار معنية بتأصيل جماعة معينة من البشر بأرض ما، فبالنسبة للمملكة المتحدة رجال البيكر The Brakes استبدلوا 90% من البشر في بريطانيا حوالي 4500 سنة من الآن.

استنتاجات ريتش في كتابه لها أيضا تأثير في المجال الطبي؛ فعلى سبيل المثال بحوثه في الهند أشارت إلى العواقب الوخيمة من تزاوج الأقارب من نفس الطائفة؛ فهنالك الكثير من الأمراض المتنحية، وفي بعض الأحيان كلا الزوجين يحمل طفرة وراثية لجينات من نسب قديم جدًّا، وفي الحقيقة طوائف كهذه تجعل طريقة تقصي الجين المسبب سهلة لأن الجين المسبب من الممكن تحديده بعلامة مميزة.

فالصورة التي طرحها ريتش في كتابه، مع الوقت سوف تستجمع العديد من البيانات الدقيقة، مثلما كانت دراسات تشارلز داروين بداية وليست نهاية، ولكن يجب علينا أن نكون ممتنين له ولفريقه ولمساعديهلوضعهم هذه الصورة الحية لواقع الكوكب قبل عصرنا الحديث، هذا الكتاب جدا مثير لوضوحه ولمحتواه.

العلماء والنقاد أبدوا إعجابهم بالكتاب والعمل الرائد من قبل الكاتب في هذا المجال، الكتاب كذلك تعرَّض للانتقاد لطريقة كتابته وتعامله مع الأعراق المختلفة للبشر، لكنَّ الكثير من النقاد لم يلاحظوا أي شيء في الكتاب من الممكن أن يعبر عن آراء عنصرية.

العديد من النقاد اعتبروا الكتاب عملا رائعا، ومنهم جارد دايمونفي مجله نيويورك تايمز، الذي أشار إلى أنه بمقدور المختصين في علوم الجينات أن يبحثوا بشكل معمق جدا لأسلاف شخص ما من خلال الأبحاث الرائدة المذكورة في الكتاب، وأشار إلى مشروع الناشيونال جيوجرافيك الذي ركز على قطع من جينوم آبائهم، بالتحديد جينوم المايتوكوندريا من الأم والكروموسوم الذكوري Y من الأب، للمقدرة على تحديد أسلاف شخصٍ ما، والآن بعد التمكن من الحصول على الجينوم الكامل من عظام أثريه مثلما فعل ريتش، سنتمكن بسهولة من معرفة أصول أسلاف شخص ما عن طريق مقارنة جينوم الشخص بالجينوم المستخلص من العظام الأثرية.

الناقد بيتر فوربسمن جريدة الجارديان البريطانية، اعتبر الكتاب رائعا جدا في وضوحه وفي محتواه أيضا، فمن وجهة نظر بيتر استطاع ريتش في كتابه التعامل مع الانتهاكات العنصرية المستمدة من أصول مجموعه من البشر، كبعض القضايا العنصرية مثل أيديولوجيات النازية. فوربس يقول في نقده إن كتاب ريتش يعرض لنا درسا مهما على أن المجتمع البشري في منطقة معينة من الكوكب تبدلت بشكل مستمر منذ آخر عصر جليدي.

كتاب ريتش أول كتاب يطرح التأثير الجذري الذي أحدثه سلسلة حمض نووي لشخص ما قبل التأريخ في مجال علوم جينات المجتمع البشري، وتعامل ريتش بطريقة سردية رائعة على اعتبار أنه أحد الرائدين والمختصين في هذا المجال. ريتش في كتابه تجاهل القلق المولد للعنصرية من أن الاختلاف بين المجتمعات والأعراق يكون في ثوب الجينات، لكنه عرض المقابل أن كل الأعراق تعرضت لدرجة كبيرة من الامتزاج مع بعضها البعض في كل فترات التاريخ جاعلا من الأفكار التاريخية القديمة بنقاء عرق معين من البشر فكرة حمقاء بناء على الأدلة العلمية.

مختبر وأبحاث ريتش طورت بعض من الإحصاءات المعقدة، والعديد من طرق البيولوجيا المعلوماتية الموجودة حاليا. باستخدام الكمبيوتر استطاعوا تشكيل ومعرفة البيانات المتعلقة بالجينوم لأشخاص ما قبل التاريخمن قطع DNA استخلصت من عظام أثرية، ومن بعد ذلك توصلوا لفهم جديد للتاريخ البشري، فبحوث ريتش هي التي أشارت إلى وجود بقايا من جينوم النانديرثالس في كل البشر الحاليين غير الإفريقيين. أعمال وبحوث ريتش أشارت إلى أن سكان الكوكب مختلطون بشكل متكرر على مر الأجيال. هذا الكتاب بالفعل كتاب رائع، جميل الاستطراد، ومليء بالمعلومات.

------------------------------

التفاصيل :

الكتاب: "من نحن؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟".

- المؤلف: ديفيد ريتش.

-الناشر: Oxford University press، 2018م.

 

أخبار ذات صلة