الثقافة الرقمية

71Dy26WlTUL.jpg

دومينيك كاردون

سعيد بوكرامي

هناك تعريف شائع للثقافة الرقمية يقول إنّها تعبير يشير إلى التغييرات الثقافية الناتجة عن تطوير ونشر التقنيات الرقمية وخاصة الإنترنت والويب.في الواقع، إنّ العوالم الرقمية تسربت بقوة إلى حياتنا اليومية على شكل تطبيقات لم يعد بالإمكان الاستغناء عنها مثل تطبيقات النقل العمومي والخاص، والحجوزات عبر الإنترنت بمختلف أنواعها، وخاصية ارتياد المكتبات الرقمية وتنزيل الكتب والمحتويات الإلكترونية... سواء كان المرتاد مبتدئًا أم لا، فإنّ الثقافة الرقميةتدلل على الصعوبات، وتمنح المرتادين سهولة في استخدام الوسائل الرقمية والشبكات الاجتماعية،التي أصبحت في عصرنا الحالي، من الصعب التحكم في جاذبيتها وإغراءاتها.

يعرض كتاب "الثقافة الرقمية" للبروفيسور دومنيك كاردون تأملافي هذا العالم الرقمي عبر تاريخه وجغرافياته واقتصاده وسياساته، منطلقا من بداية الإنترنت إلى عصر تحديات الذكاء الاصطناعي، متوقفا في كل دراسة من دراسات كتابه عند كل حالة على حدة مع أمثلة ملموسة. نذكر منها: مختبر دوغ إنغلبارت في ستانفورد، والنظام التنظيمي ليوكيبيديا أو أيضا إعلانات المواقع التجارية وتأثيرها على المرتادين ومحتوى الويب وتطوره السريع.

يقترح دومنيك كاردون في كاتبه "الثقافة الرقمية" مساعدة القارئ على تفكيك وتفسير العوالم الرقمية، لأنّ التقنيات موجودة في كل مكان، ونحن نستخدمها كل يوم وبشعور من التعود والألفة. طبعا هذا يحتاج إلى مرجعية معرفية وعلمية. ولعل هذا ما يمثل تحديا حقيقيا لتجاوز هذا الشعور بالألفة والانتقال إلى مرحلة المساءلة عن بعد وبفضول عن كل هذه التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تمارسها التكنولوجيا الرقمية على مجتمعاتنا. لكن الثقافة الرقمية لا تقوم ببساطة بتفكيك قضايا المجتمع الرقمي، ولكنها تعرفنا أيضًا على كيفية استخدام الأدوات الرقمية وممارستها واستكشافها. إن المعرفة والقيام والتحقق هي الأشياء الثلاثة التي يقوم بها دومنيك كاردون في مختلف المواضيع المختلفة لهذا الكتاب، والتي تتضمن نتائج دورات تدريبية عبر الإنترنت، وورشات عملية عن التعلّمات البرمجية، ومجموعة من الإجراءات والاستكشافات الرقمية التي تجمع بين المعرفة والمهارات المكتسبة.غالبًا ما تتم مقارنة إدخال التكنولوجيا الرقمية في مجتمعاتنا بالإنجازات التكنولوجية الرئيسية للثورات الصناعية.في الواقع، مع اختراع المطبعة أصبحت المقارنة ضرورية، لأنّ الثورة الرقمية هي في المقام الأول ثورة معرفية. كما كان الحال مع الثورة الورقية، لقد جاءت لإدخال المعرفة والمعلومات إلى كل جانب من جوانب حياتنا. إذا كنا نصنع الرقمية، فإنّها تصنعنا أيضا. لهذا السبب أصبح من الضروري أن نشكل ثقافة رقمية تساعد الإنسان المعاصر على فهم ما قد يتجاوز إدراكه في يوم من الأيام، خصوصا مع تطور الخوارزميات والذكاء الاصطناعي.

يطور التوليف الهائل لآثار الثورة الرقمية حسب دومينيك كاردون - عالم الاجتماع في وسائل الإعلام وتقنيات المعلومات والاتصالات وعلوم الثقافة الرقمية-  منظورًا جينيالوجيا يحرص الكاتب على شرح كيفية ظهوره في سياق وخيارات الجهات الفاعلة في إنشاء أجهزة الكمبيوتر، وكذلك قيمهم التي أثرت وحددت في كثير من الأحيان، وما زالت، الأداء الحالي لشبكات الإنترنت والاتصالات. يقارن المؤلف الاندفاع الرقمي الساعي إلى إزاحة المطبعة.

ولبلوغ مراميها يعبئ النظام الرقمي العديد من المهارات والأدوات وخدمات تكنولوجيا المعلومات الرقمية.

يقترح كاردون حول موضوع من النادر جدًا فهمه والإحاطة به بشمولية، تحليلًا يتقاطع فيه علم الاجتماع أو العلوم السياسية والاقتصادية وعلوم المعلومات والاتصالات،ليصف الكاتب بدقة القطائع التي تمكنت تكنولوجيا المعلومات من إحداثها فيما يتعلق بممارسات الاتصال والاستهلاك والإنتاج. في كثير من الأحيان، يعتمد المؤلف على أهم - المهندسين والمديرين والعلماء والسياسيين – لخلق دينامية تلبي غرضه في استعادة أدوار الشخصيات العظيمة غير المعروفة غالبًا، التي ساهمت في نشأة الثقافة الرقمية بدءا من أصول الإنترنت، الويب كملكية مشتركة، الثقافة التشاركية والشبكات الاجتماعية، الفضاء العام الرقمي، اقتصاد المنصات، ثم أخيرا البيانات الكبيرة والخوارزميات.

يعرض الفصل التمهيدي المواجهة بين الثقافات المختلفة حول التصميم المعلوماتي. تاريخياً، تطورت شبكة الويب من خلال الجمع بين معرفة المهندسين (المصممين) ومجتمعات (المستخدمين) والعسكريين (المطالبين بالحلول). بالنسبة لكاردون، هذا يفسر إلى حد كبير الفلسفة التحررية المرتبطة بالإنترنت والتوترات تجاه السلطات التي ترغب في السيطرة على شبكة الإنترنت مثل الحكومات والشركات، إلخ. بشكل عام، تستخدم شبكات الكمبيوتر من قبل الجمعيات عبر الإنترنت التي تشترك في الانتماءات أو الاهتمامات أو المصالح في بعض الأحيان: بعض الجهات الفاعلة تهدف بعد ذلك إلى نشر عالم افتراضي يسمح للمجتمع بالتغيير الاجتماعي والسياسي، كنوع من المناطق المستقلة مقابل الدول والمؤسسات السياسية الرسمية، ترغب بعض المجتمعات في تحسين حياة الإنسان من خلال استغلال الآلة أو حتى تشكيل هويات جديدة عن طريق تغيير نوع الجنس أو العمر أو الجنسية، إلخ.

أحد أهم اهتمامات الكتاب هو التذكير بطبيعة الإجابات التكنولوجية عن هذه الاحتياجات والقيم التحررية. في الواقع، غالبًا ما تنتج ابتكارات الكمبيوتر عن عمليات أصلية، يكون المستخدمون هم المبدعون في الغالب. ومن ضمنها الابتكارات الفيروسية التي ترتبط من الناحية النظرية بثقافة المشاركة والانفتاح المتجسد، خاصة في البرامج المجانية، والتي يمكن استخدامها وتعديلها وتوزيعها دون قيود لصالح المستخدمين جميعهم. تؤثر التغيرات الجذرية في استخدامات أجهزة الكمبيوتر على كل من المنتجات والعمليات. وتجسد، موسوعة ويكيبيديا بالنسبة لكاردون، مثالا جليالإعادة تشكيل تبادل المعرفة بين منطق السوق والمؤسسة ذات المنفعة العامة.

يتناول الفصلان التاليان المشاركة الرقمية في المناقشات العامة وعمليات الاتصالات الرقمية الجديدة - وهذا يتوافق على وجه الخصوص مع أعمال المؤلف السابقة، ويتعلق الأمر بوصف الشبكات الاجتماعية وتصنيفها وفقًا لنموذج يأخذ بعين الاعتبار رؤية الجهات الفاعلة وطرائق خطابها: من جهة يميز كاردون الهوية الحقيقية عبر الإنترنت من الهوية الافتراضية، للتأكد من مدى مصداقيتها مع الواقع، ومن جهة أخرى، يأخذ بعين الاعتبار، من حيث الهوية المكتسبة أو النشطة، ميل مستخدمي الإنترنت إلى إظهار ما هم عليه فعلا أو ماذا يفعلون. نتيجة لذلك، هناك العديد من التصنيفات، مثل الهوية المدنية التي تشير، إلى إخضاع الأفراد الذين يعلنون عن خصائصهم الحقيقية على الشبكات الاجتماعية، في حين تنتج الهوية المذكورة من خلال عملية عرض المعلومات المنشورة على الإنترنت. وبالتالي ، تحدد هذه الأنواع من الهوية عدة أشكال من تمظهر العناصر الفاعلة على المنصات التواصلية: لإظهارها أو إخفائها. في الواقع، إن الشبكات الاجتماعية لديها أنظمة علائقية محددة تشكل جزءًا لا يتجزأ من نشر الهويات التي تكون في بعض الأحيان رقمية حصرية. إنها تسمح للجميع باختيار ما يبثه وإضفاء الطابع الديمقراطي على الممارسات الإبداعية مثل الموسيقى أو الكتابة - حتى وإن كانوا يعيدون مطابقة معينة ويطرحون قضايا تنظيمية واضحة للغاية.

يصر المؤلف على أنّ هناك تأثيرا واضحا لهذا الفضاء الرقمي الجديد على الممارسات الديمقراطية، لأنه يعمل على تنمية أساليب جديدة للتعبير والاحتجاج، لأن العالم الرقمي يعطي الانطباع بأنه لا مركزي وتشاركي، ولكنّه لا يؤدي إلى شكل سياسي مستقر وعملي. وحتى وإن ظهر حراك ديمقراطي عبر الإنترنت دون المرور عبر السياسة أو وسائل الإعلام،فإنّه لميسفر إلى حدود اليوم عن بديل للديمقراطية التمثيلية. وفي السياق ذاته يتعرض الصحفيون والقنوات الإخبارية للخطر بسبب هذه الأشكال الجديدة من النقاش والتعبير، ومنها تخفيض جمهورها أو إيراداتها في بعض الأحيان، في المقابل فإن وسائل الإعلام التقليدية تحتفظ بسلطتها، وفي المقام الأول قدرتها على إثبات حقيقة واقعية.

يناقش المؤلف في الفصلين الأخيرين آخر المستجدات الرقمية. ويبدأ أولاً بالدور الاقتصادي لكبار مشغلي تقنية المعلومات مثل محركات البحث، والتجارة الإلكترونية، والشبكات الاجتماعية، ومصنعي الإلكترونيات، إلخ. لقد تمكنت هذه الشركات الفتية من تحويل العناصر الأساسية للثقافة الرقمية إلى رؤوس أموال ضخمة ومؤثرة. ويشير كاردون في هذا الصدد إلى المعارضة التقليدية بين تقاسم الاقتصاد واقتصاد المنصات. تعتمد المنصات الرقمية بشكل متناقض على الحلول التقنية الموثوقة بين مقدمي العرض والطلب، لكنها أسست نجاحها على توظيف الإعلانات عبر الإنترنت التي أحدثت ثورة في التسويق، لأنها منحت العالم الرقمي إمكانية الوصول إلى معلومات أكثر دقة عن سلوك المستهلكين المحتملين في الحاضر والمستقبل.

في الفصل الأخير، يعود الكتاب إلى البيانات الكبيرة والخوارزميات الطموحة إلى تجاوز الذكاء البشريوالتي سبق أن ناقشها الكاتب في أعماله السابقة. في خضم متاهة العالم الرقمي، يعتبر تقييم البيانات رهانا رئيسيا على الإنترنت، يذكر كاردون أربعة معايير تحدد قيمة البيانات وهي: شعبيتها وسلطتها وسمعتها وقدرتها على التنبؤ بالسلوك. لكنه، علاوة على هذه المعايير، يؤكد الكاتب أنّاستغلالها يأتي من طرف الآلات. ومادام الأمر يتعلق بآلات وتقنيات، فيجب التشكيك في معنى ونتائج هذا الاستغلال للبيانات. على سبيل المثال لا الحصر: لتأسيس تنبؤات خوارزمية تمكن من جرد انتقالات المتصفحين عبر الانترنيت وتوقع نتائجها، فإنّها حاليايمكن أن يعطي معلومات صحيحة أو مغلوطة عن المتصفح أو الباحث عبر محركات البحث. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تحديات المراقبةالرقمية دفعت كاردون إلى إنهاء تحليله بالإشارة بذكاء إلى أن كتابه، الذي ينفتح على الوعود بعالم أفضل كما تخيله رواد الإعلاميات يحذر أيضا من: السيطرة على الحياة الخاصة بفضل التقنيات الجديدة. وتمثل الخاتمة تلخيصا لروح الكتاب التي تسعىإلى تنوير القارئ بالإمكانيات والمخاطر المرتبطة بالتأثير الرقمي على الحياة الاجتماعية للإنسان المعاصر.

وقبل الختم نذكر بأن كتاب كاردون يقدم عددا من المفاتيح المفيدة، لفهم الثقافة الرقمية دون الإغراق في التعقيدات التقنية والاصطلاحية، ومن الأشياء التي يفسرها بطريقة جيدة العوامل التي تسبب الإدمان على الثقافة الرقمية. تتميز كتابة كاردون بأسلوب سائغ، يجعل الكتاب في المتناول رغم الموضوعات المعقدة للتكنولوجيا. ويظهر ذلك على وجه الخصوص، عند تفكيكه لشفرة الخوارزميات والذكاء الاصطناعي وبعبارات بسيطة، ولكن دون التقليل من أهمية القضايا الأساسية. يستند كتاب كاردون، من جهة، على منهج تعليمي، اكتسبه من خلال سنوات من الدورات التدريبية والمحاضرات ذات الطابع والهيكل التربوي، لهذا يتيح للقارئ استفادة منهجية من محتويات الكتاب. ومن جهة أخرى، فإنّ هذا الوضوح يكون مصحوبًا في معظم مظان الكتاب بصرامة علمية كبيرة. كما تذكرنا الإحالات الببليوغرافية التي تنهي فصول الكتاب، بالمجهودالأكاديمي الاستشرافي الذي يسعى إلى التعميم والتحقيق في موضوع راهن محفوف بالمفاجآت والمستجدات وقابل لأن تتغير أسسه العلمية ومضامينه الرقمية بسرعة مذهلة.

في الختام نشير إلى أنّدومينيك كاردون هو عالم اجتماع وباحث مشارك في مركز دراسة الحركات الاجتماعية (EHESS). ويعد من أفضل المتخصصين في مجال الثقافة الرقمية. بحيث ساهم في دراسة استخدامات تكنولوجيات الاتصال، وتحولات مواقف العمل تحت تأثير التقنيات الرقمية، والعمل عن بُعد، والعلاقات بين التواصل الاجتماعي والممارسات الثقافية منذ أوائل العقد الأول من القرن العشرين،كما ركز في بحثه على استخدامات الإنترنت في سياقات مختلفة: مثل برمجيات ويكيبيديا، والعلاقة بين الممارسات التعبيرية والشبكة الاجتماعية على مدونات الإنترنت، وممارسات الشبكة للخدمات الاجتماعية عبر الإنترنت، إلخ. يسعى عمله إلى تحليل التحولات في الفضاء العام والديناميكيات التعبيرية والعلائقية. يهدف بشكل خاص إلى توضيح الأساليب الرقمية لاستجواب العلوم الاجتماعية حول أشكال الالتزام السياسي والممارسات الثقافية والتواصل الاجتماعي. ومنذ عام 2010، شرع في إجراء تحليل اجتماعي لخوارزميات الويب والبيانات الضخمة التي تهدف إلى فهم كل من الشكل الداخلي للحسابات والعالم الذي تتوقعه الآلات الحاسبة في مجتمعاتنا.

-----------------------------------------------------

التفاصيل :

عنوان الكتاب: الثقافة الرقمية

المؤلف: دومينيك كاردون

الناشر: Les Presses de Sciences Po

البلد: باريس، فرنسا.

سنة النشر: 2019

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: 430 ص.

 

 

أخبار ذات صلة