تأليف: لويدجي بيرزانو
عرض: محمد الشيخ
يقوم مفهوم "الدنونة" في تقابل مع مفهوم "الدينونة". ويقصد بالمفهوم الأول دلالة الإقبال بالهمة وبالكلية على الدُنيا، وذلك تلقاء الإقبال بالعزم نفسه على الدين وعلى الآخرة. وتُعد سمة "الدنونة" تلك إحدى أبرز سمات الحداثة، وذلك من حيث صير إلى ملاحظة أنَّ المجتمعات الغربية أمست أكثر فأكثر إقبالاً على الدنيا، وأكثر فأكثر إدبارا عن الدين. وفي العقود الأخيرة، أمسى موضوع "الدنونة" هذا يحظى باهتمام كبير، سواء من لدن أهل العلوم الاجتماعية أو من طرف أصحاب العلوم الإنسانية. وقد دار نقاش عميق، في العقود القليلة الأخيرة، بين أولئك الذين يرون أنَّ المجتمعات الفائقة الحداثة أمست تشهد ـ في تمرد ضد الدنونة المتطرفة ـ على "عودة المُقدس"؛ وبالتالي على عودة "المجتمع الدينوني"، وأولئك الذين يرون، بالضد، أنها مجتمعات سائرة إلى مزيد من الدنونة؛ أي أنها "مجتمعات مدنونة" أو "دنيوية". ترى، ما حقيقة مجتمعات الحداثة الفائقة هذه: أهي مجتمعات الإقبال على الدين؟ أم هي مجتمعات الإقبال على الدنيا؟ هو ذا السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الكتاب. ومؤلفه أميل إلى الطرح الثاني. لكنه لا يرى أنَّ الدين من الآفلين، وإنما هو لا محالة من المتحولين. كما أنه لا يرى أن هذا هو أول عهد للمجتمعات الغربية بالدنونة، وإنما هو عهدها الرابع بها.
المدخل:
ينطلق المؤلف ـ وهو عالم اجتماع وقس كاثوليكي إيطالي (1939- ) ـ من ملاحظة تمتح من عالم العمران والبنيان: ظل طراز بناء العوالم الحضرية والقروية الغربية المسيحية، لردح طويل من الزمن، دائرا على مركز وسط هو الكنيسة؛ وذلك بما كان يشي عن الهوية الدينية لهذا العالم. وهي تلك الهوية القائمة على الممارسة المنتظمة لشعائر الجماعة المؤمنة. لكن،ومنذ عقود من الزمن، حدثت تحولات كان من شأنها أن غيَّرت هي هذا الطراز الأوربي التقليدي. وقد تمثلت في أمرين اثنين: أولهما؛ حركة الدنونة. وثانيهما؛ التعددية الدينية. فأما الأولى، فقد ميزت بين "المقدس" و"الدنيوي"، وبين "الديني" و"الروحي"، وأحدثت وسائل جديدة للاعتراف بالفرد وللشرعنة لخياراته في الحياة. وأما الثانية، فقدهجّنت الديانات التقليدية الأوربية بالتقاليد والحركات الدينية الشرقية، أولاً، ثم بالإسلامية، ثانياً. والأثر العام لهذا الأمر هو ما أمسى يسميه علماء الاجتماع ـ وقد استعاروا تعبيرا مستلا من علم الاقتصاد ـ "السوق الدينية".
على أنَّها ليوم، ما عاد مجال من مجالات الحياة الحديثة ـ أكان اقتصاديا أم اجتماعيا أم ثقافيا أم دينيا ـ لا يوجد في قلب تطور شديد التعقيد؛ أكان يهم ذلك الفرد أم الجماعة. وإلى هذا التعقيد يحيل أولئك الذين يسميهم المؤلف "مؤولي المجتمع الحاضر" من كبار علماء الاجتماع في زمننا ـ بومان، بيك، جيدنز، داهرندورف ـ الذين باتوا يَسِمُون المجتمع الحالي بمياسم جوهرية: أكان ميسم "الحرية" أم "الاختيار" أم "انعدام اليقين" أم "الخطر" أم "السيلان".
غير أنَّ المؤلف يقف على سمة صارت أكثر حضورا في المجتمعات الحديثة: ما عادت مواقف الفرد وسلوكاته ترتبط بوضعه داخل البنيان الاجتماعي، وإنما أمسى الأمر دائرا أكثر فأكثر على اشتغال الفرد بنفسه لنفسه على نفسه لإقامة مشروعه [الفردي] في الحياة بمعزل عمَّا ورثه عن أسلافه؛ بما في ذلك ما تعلق بحياته الدينية. ومن هنا، كان المفهوم الجوهري في الكتاب هو مفهوم "الأفقية التدينية" الذي ينهض ضد مفهوم "العمودية [أو الشاقولية] التدينية"؛ بمعنى أن الحداثة الفائقة شاهدة على أفول نمط التدين بالوهب، حيث صار التدين بالكسب، وما عاد هو تدينا خطيا يورث أبا عن جد، وإنما صار التدين اختيارا أفقيا. وهو مفهوم يمتح من تقابل أكبر في الكتاب هو التقابل بين "المجتمع العمودي"؛ أي المجتمع التقليدي القائم على توارث القيم والسلوكات والأديان والمعتقدات، و"المجتمع الأفقي" القائم لا على التوارث ولا على الوهب، وإنما على اجتهاد المرء في إدارة أسلوب عيشه كما يريد؛ أي بما كسبت يداه.
الفصل الأول:
من أسلوب عيش واحد إلى أساليب عيش متعددة
مدار هذا الفصل على مفهوم" أساليب العيش". وقد فهم منها أنها أنماط ينظم تبعا لها الأفراد وجودهم. وأساليب العيش هذه نماذج عيش اختيارية يصطنعها الفرد لنفسه يعبر من خلالها لذاته ولغيره عمن يكون، ويوصل إلى الغير من هو، ومن يشبه أو لا يشبه، وعم يرغب أن يميز ذاته؛ وذلك بما يمنح معنى موحَّدا لحياته ولسلوكه. أساليب العيش تلك أمر مرتبط بمجتمع اليوم، حيث ما بات سلوكك الأفراد يفسر باستخدام تعابير القيم والإيديولوجيات والعقائد، بل وحتى الوضع الاجتماعي، بقدر ما أضحى يفسر بالأذواق الشخصية وبالحساسيات الفردية وبالاهتمامات الذاتية. وهو ما يسميه المؤلف: "إضفاء طابع إستتيقي [جمالي] على العيش": كل واحد يحاول أن يصنع بعيشه ما يحلو له، عن جماعته بمعزل، وعن ديانته بمنأى، وعن هويته بمعزل.
والحال أن هذا الأمر المستجد يخالف ما دأبت عليه المجتمعات التقليدية؛ حيث كانت "الخيارات" المتاحة للأفراد في اتباع "أساليب عيش" معينة خيارات محدودة جدا؛ وذلك لأن الحياة كانت عوائد ومألوفات واتباعات.
هي ذي السيرورة التي يركز عليها الفصل الأول. وصاحبه يختمه بالتساؤل التالي: ما الذي سوف يتطور، يا ترى، عن هذه الروابط والأشكال الاجتماعية ونماذج الفعل داخل سياقات هكذا أمسى حالها؟
الفصل الثاني:
الثورة الروحية
تنويع أساليب العيش
لئن كان الفصل الأول دار على "أساليب العيش" في المجتمعات غير التقليدية، فعمم ولم يخصص، فإن الفصل الثاني ركز على "الهويات الدينية" وما ينتج عنها من "أساليب عيش" متعددة. ذلك أن الأديان والكنائس وأهل الديانات أنفسهم، في ممارساتهم واعتقاداتهم، ما عادوا بمنأى عن هذه السيرورة. وكل البحوث الدائرة على "الظواهر الدينية المعاصرة" تتفق على أنه على "عهد الحداثة المتقدمة"، لم تُلْغَ"الأنساق القيمية" المتنوعة إلغاء، وإنما صارت تُدرك على أنها موضع خيار. ذلك أن تأثير التحولات الاقتصادية والتقاليد الدينية الكبرى لا يزال مستمرا في فرض سطوته على الفرد، إلا أن أثر هذه التحولات صار ينكفئ شيئا فشيئا. وقد لاحظ أحد الباحثين الاجتماعيين الكبار، بعد أن تتبع تحول "نسق القيم" لعقود، أن ثمة "ثورة صامتة" في مجال الأخلاق، حيث انتُزعت من الأخلاق العامة الكثير من المحاذير والمحرمات والممنوعات، واختُزلت إلى صلبها الأصيل: احترام الأغيار. والأمر أولى أن ينطبق على "الدين" الذي جرِّد من كل مفاهيمه الحرفية التي لا يمكن أن تخضع إلى التأويل. وقس على ذلك السياسة التي جرّدت من كل ما لا يحترم كرامة المواطن ... وكل هذه سيرورات تحيل على مفهوم "كرامة الشخص" وتقود إلى حرية للفرد واستقلال أكبرين وأوسع مدى.
فأية روابط وأشكال اجتماعية وأساليب عيش سوف تتطور داخل ديانات المستقبل؟ وهل سوف تُضعف أساليب العيش الأفقية من شأن الأشكال التقليدية للانتماءات الدينية المستندة إلى إعادة الإنتاج "العمودية" للهويات والعقائد والممارسات الدينية؟ وهل ستنتشر أكثر فأكثر أشكال الانتماء المختارة من لدن الأفراد أنفسهم لا تلك التي اختيرت لهم وما كانت لهم الخيرة من أمرهم؟ وهل ستصير الانتماءات غير المختارة ولا الطوعية أشد فأشد ضعفا واشتكالا في المستقبل؟ أم هل، يا ترى، سوف تصدق على "الدين" نفسه نبوءة عالم الاجتماع الألماني الشهير جورج زيمل (1858-1918) القائلة بأن المجتمع المبني على أسلوب واحد من العيش سوف يتطور،بأثر من الحداثة، إلى مجتمع ينهض على تعدد أساليب العيش؟ هي ذي الإشكالات التي يطرحها الانتقال من "المجتمعات الشاقولية" إلى "المجتمعات الأفقية".
الفصل الثالث:
الدنونة الرابعة
هنا نأتي إلى كبد المسألة في الكتاب. وهي: ما المقصود بهذه التسمية العجيبة الغريبة: "الدنونة الرابعة"؟ القصد بها ما ذكرناه سابقا ـ وهو استقلال وتنوع "أساليب العيش" الديني في المجتمعات الفائقة الحداثة. لكن، لِمَ كانت هي دنونة رابعة؟ يرى المؤلف أن "الدنونة الأولى" حدثت في عالم الإغريق القدامى، حين تم الانتقال من الأسطورة [الميتوس] إلى العقل [اللوغوس]. لكن هذا العقل الإغريقي بقي مجردا، فاحتاج الأمر إلى "الدنونة الثانية" ـ وهي تلك التي حدثت بالانتقال من اللوغوس المجرد ـ الكلمة ـ إلى المسيحية من حيث هي ديانة التجسد والتشخص، ومن حيث أن اللوغوس فيها يمسي شخصا ويكتسي لحما ودما وعظاما، ومن حيث أن كل الناس أمسوا بالعقيدة متساوين يطمحون إلى تحقيق حياة طيبة وإلى النجاة بأنفسهم. ثم كانت "الدنونة الثالثة" ـ وهي الدنونة التي حدثت في فجر العصر الحديث؛ حيث تم الانتقال من هيمنة الدين على سائر مناحي الحياة إلى نجاح العلم في تعزيز طريقه واستقلاله. وأما "الدنونة الرابعة" ـ وهي القائمة حاليا ـ فتتعلق بدنونة أساليب العيش الفرديةبالانتقال من "المجتمع العمودي" إلى "المجتمع الأفقي". ذلك أن استقلال العلم، الذي قال به ماكس فيبر، امتد ليشمل أيضا استقلال ممارسات الفرد "من المهد إلى اللحد"؛ بحيث باتت دائرة حاجات الفرد وانتظاراته تطالب بحقها في أن تصير مقبولة ومعترفا بها عموميا، باعتبارها حقا أساسيا من حقوق الإنسان: حقي في أن أصنع بحياتي ما أشاء بما أشاء وفق ما أشاء، بصرف النظر عن ماضي أسرتي وعن ملتي وعن قبيلتي وعن وضعي الاجتماعي ...
والحال أن تدنون أساليب العيش إنما يقتضي أن هذه الأساليب ما عادت مرتهنة ومشدودة إلى الديانة التي ينتمي إليها الفرد، بل صارت أكثر فأكثر ارتباطا باختيار هذا الفرد عن كل ارتباط شاقولي بمنأى ومبعد. وفي هذه السيرورة، ما يلاحظه المؤلف هو تنامي النزوع إلى إضفاء الأفراد طابعا شخصيا خاصا على أساليب عيشهم، وتنامي وعيهم الذاتي بهذه الأساليب في العيش المتنوعة المتعددة، واعتماد روحانيات وديانات فردية بمعزل عن إطار تقليد ديني معتمد رسميا.
على أن هذه التحولات ما كانت هي بالمنبئة عن "موت الفرد الديني"، وإنما أضحت تشي بنزوع فردي إلى أن يشيد الفرد مشروع حياته الدينية الخاصة به. كما أن "مجتمعات الجماهير" هذه، وعلى خلاف ما يذهب إليه العديد من الباحثين الاجتماعيين، ما كانت فقط مجتمعات "التطابق الرمادي"، بحيث إن البشر تشابه علينا، وإنما هي أيضا مجتمعات "التمايز والاختلاف".
وهكذا، باتت اليوم تشكل في الحقل الديني طرازات روحية. وهي طرازات جذابة بفعل طبيعتها الحرة وأفق ممارساتها المشخصنة. وقد أدى ذلك إلى بروز أساليب حياة دينية مختلطة ممتزجة وانتقائية يختارها الفرد لنفسه الخيرة، كجمعه، مثلا، بين البوذية والمسيحية ... وقد لعبت وسائل الاتصال الجماهيري والشبكة العنكبوتية دورا أساسيا في هذا الأمر؛ بحيث أضعفت هي أكثر فأكثر الممارسات والسلوكات الدينية المكتسبة بالولادة. وبالجملة، تمثل أساليب العيش الجديدة هذه ديانة شكلها الناس الذين اختاروها على أساس حاجاتهم واهتماماتهم وحساسياتهم الشخصية ...
الفصل الرابع:
معنى الدين في العصر المدنون
يحلل هذا الفصل الأشكال الدينية في سياق عصر الدنونة. وهو العصر الذي يعتبره البعض عصر التخلي عن التبعية الدينية لصالح الاستقلالية الروحية. ويعد هذا الفصل بمثابة محاولة للإجابة عن تساؤل الفيلسوف السياسي الفرنسي الشهير مارسيل غوشيه (1946- ): ما الذي، يا ترى، سوف يحدث عندما تهجر الأرباب العالم، عندما تتوقف عن أن تزوره لتعلن "غيريتها" عنه؟ أفهل، يا ترى، العالم نفسه هو الذي سوف يتوقف عن أن يتجلى لنا بوسمه "غيرا" غريبا عنا، وسوف يبدي لنا عن عمق متخيَّل سيمسي مجالا لاستقصائنا واستكشافنا؟
هذا عصر الدنونة، وهذه أعماله. وهو عصر يشهد على تدنون الثقافة وتبدي الحياة الروحية الجديدة؛ وذلك بسبب من التعالق الذي حدث بين "الدنونة" نفسها و"الدين" وقد اكتسى حلة جديدة. ذلك أن مختلف أشكال الدنونة لم تفرغ الدين من التجارب الدينية، وإنما غيرت طبيعة ترابطاته مع تعدد العوالم المدنونة. وبالجملة، تحول جزء من المقدس التقليدي إلى أشكال جديدة مفردنة ومستقلة عن كل مضمون عَقَدي محدد، كما صارت الحياة الروحية تحيا على تخوم الأديان التاريخية. وها هي ديانة المستقبل تسير نحو بلورة السمات الأربع التالية:
-
ضعف الهويات الدينية الإثنية والموروثة؛
-
استقلال التجربة الدينية عن كل انتماء ديني تقليدي؛
-
العيش في إطار من التعددية الدينية؛ إذ أمست التعددية سمة العصر الدنيوي البارزة؛ وذلك بحيث أضحى بعض علماء الاجتماع يفضلون الحديث عن "العصر التعددي" (بيرجر) بدل الحديث عن "العصر الدنيوي" (تايلور). فما عادت ثمة ديانة مطلقة بالمرة.
-
الانتقال من "الأديان" إلى "الروحانيات". لقد بات "التدين" يتخذ شكل "تروحن"؛ أي شكل اتباع سبيل الحكمة الإشراقية القائمة على مفاهيم "النجاح المادي" و"التناغم الأصلي" و"الثقة في النفس" و"طلب رغد العيش" و"نشدان الاكتمال للنفس"... وهو ما صار يطلبه بشر أمسينا نسميهم اليوم باسم "المستهلِكين الروحيين". هو ذا الشكل الأخير لتحول المقدس في زمن الحداثة الفائقة.
---------------------------------------
التفاصيل :
عنوان الكتاب : الدنونة الرابعة: استقلال أساليب العيش الفردية
المؤلف : لويدجي بيرزانو
دار النشر : راوليدج فوكيس
سنة النشر : 2019
لغة النشر : الإنجليزية
