تاريخ عاطفي للمعرفة

D6v0eOEWsAUaPGP.jpg

تأليف: فرانسواز فاكيه

عرض: سعيد بوكرامي

يأتي كتاب "تاريخ عاطفي للمعرفة"، للمؤرخة الفرنسية فرانسواز فاكيه، بعد مسار علمي من البحث التاريخي والإنثربولوجيتجلَّى في أكثر من أربعة عشر كتابا مُهمًّا عن أصول اللغة اللاتينينة والأسس المعرفية في أوروبا، وعن طقوس نقل المعرفة في أكاديمية الجمهوريين، ثمَّ عكفتْ بعد ذلك على الوسائل التي تُصاحب البحث المعرفي؛ أي: كيف اشتغل العلماءفي القرن السادس عشر حتى القرن الحادي والعشرين، وأخيرا كرست فرانسواز نشاطها البحثي للعواطف التي تحرك وتنشط وتنتج البحث العلمي. وقد وجدت بدءا من مقدمة الكتاب أن ميكانيزمات وجدانية حاسمة تتحكم في إنتاج المعرفة؛ مثل: المتعة، والملل، والخوف، والأمل، والحماس، واليأس، والسعادة، والمعاناة، سلسلة كاملة من العواطف في الفروق الدقيقة والتوليفات الحاضرة بقوة في الروتين اليومي للعلماء والباحثين سواء بالأمس البعيد في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أو كما هي الحال اليوم، في التخصصات جميعها؛ إذ لم يعد الباحثون اليوم يظهرون كآلات للتفكير أو أشخاص ذوي أفكار خارقة، ولكن ككائنات من لحم ودم تعمل في عالم مترع بالمؤثرات السلبية والإيجابية.

ويتمثل طموح المؤرخة فرانسواز فاكيه في إبراز الافتراض الجليّ، الذي تجاهله البحث زمنا طويلا ومفاده أن "العلم إنتاج إنساني، وبالتالي لن يكون إلا إنسانيا" (ص:32). وبهذا الكتاب الجديد، تقترح المؤرخة تسليط الضوء على الجزء غير القابل للاختزال، وهو الجانب الذاتي لدى العلماء الذي لا يزال حاضرا في المنجزات العلمية، وعلى الأخص الدور الذي تلعبه العواطف في جوهر المعرفة. وبعد دراساتها أيضا حول اللاتينية والشفهية وحول العلاقة بين السيد وتابعيه، تواصل فرانسواز فاكيه مشروعها لتأسيس "بيئة للمعرفة"بمعنى آخر، اعتبار العالَم العلمي "بيئة" تتجسد في الحياة اليومية للعلماء. يتم تعريف مفهوم "البيئة" بإيجاز على أنه مجموعة من "الروابط المتعددة والمتبادلة" بين الناس والأشياء ومؤسسات العالَم العلمي (ص:17-18). من المعلوم أنَّ هذا "الوسط/البيئة" يظل غير مرئي للباحث نفسه طالما لا يهتم به، أي أنه مادام لا يعترض عليه في خطوة انعكاسية. هذا الاعتراض هو الذي تقترحه فرانسواز فاكيه، إذا كان الجانب العاطفي للنشاط العلمي موجودًا بالفعل في أعمالها السابقة، إلا أنه كان يظهر دائمًا بشكل محتشم، لكن في كتابها الأخير استعادته بتركيز كبير، عازمة على توفير الوسائل المعرفية والمنهجية للبرهنة على الوجود الكلي والفاعل للعواطف في العلوم.وفي مقابل التاريخ الفكري "المجرد والزئبقي"، تقترح المؤلفة كتابة تاريخ مادي "ملموس ومجسد"للمعرفة (ص:11). وتحقيقًا لهذه الغاية، وحسب خطة الكتاب، ارتأت المؤرخة أنه من الضروري إجراء "بحث نوعيّ" (ص:10) حول "حيوات وأعمال" محددة ضمنيًّا في الحياة اليومية العادية للباحث، وتتشكل من اللقاءات والاجتماعات وأيام وليالي البحث في المكتبة لتحديد ملفات النتائج أو توقعاتها - على عكس المراحل الاستثناية للمعالجة والاستكشاف (ص:17). وتختار المؤلفة أن تنظر في الوثائق الشخصية -اليوميات والمراسلات والمذكرات...- التي كتبها عدد من العلماء الفرنسيين وغير الفرنسيين في مختلف التخصصات -الطب والتاريخ والأنثروبولوجيا...- خلال فترة "القرن العشرين الطويل حتى يومنا هذا"(ص:13). إذا كان عنوان الكتاب قد أعلن عن فترة زمنية تبدأ من القرن السابع عشر؛ فإنَّ الفصلين 6 و7 يهتمان فقط بالعصر الحديث. ومع تركيزها على تفاصيل الممارسة العلمية التي كشفت عنها هذه النصوص، فإن المؤرخة تعتزم الرجوع إلى ما دون المنشور العلمي للعثور على "البقايا العاطفية" التي تؤشر على ذاتية الباحث وحضور حياته اليومية في منجزه العلمي (ص:11).

وينتظم الكتاب في ثلاثة أقسام رئيسية؛ القسم الأول: "بيئة عاطفية" وهو "تأريخ خارجي" للمعرفة، وهو مُقسَّم بدوره إلى ثلاثة فصول، تتناول بالتتابع الأشخاص والفضاءات والوسائل العلمية. تهدف لرد الاعتبار إلى شخصية الإنسان الأكاديمي وإزاحة التصور المعقد الذي يحيط به، وتقدم فرانسواز فاكيه في البداية صورة عن العالِم ككائن عاطفي (الفصل الأول)، موضحة ذلك من خلال اعتمادها على الدراسات الاجتماعية وحول ما بعد إنجاز الأطروحة، وكذلك شهادات التوظيف في كوليج دو فرانس التي وجدتها في يوميات موريس هالبواش أو التاريخ الذاتي لجورج دوبي، هذا المؤلف الذي يصف الحياة المهنية الجامعية كسلسلة من الكرب والقلق، تتكلل أحيانا بمتعة النجاح، وفي أحيان أخرى تتنهي إلى الحزن والإحباط.

وفي معرض إشارتها إلى "أبناء سقراط"، تناقش فرانسواز فاكيه الروابط العاطفية التي تتناسج داخل المجتمع العلمي. وهي بالفعل تتجسد في علاقات التأثير أو الانتماء، متوقفة بشكل خاص عند الإعجاب أو الإثارة التي أبداها طلاب بيير بورديو، نحو إنتاجه المعرفي. وتتميز هذه الروابط العاطفية أيضًا بالصدمة والحزن عند استبعاد أحد الأعضاء. وتوضح المراسلات الطويلة التي جرت بين مارك بلوخ ولوسيان فيفر دور الصداقة العلمية؛ إذ تعد هذه العلاقة محركًا أو مصدرًا للتنافس. بعد العالِم، يأتي فضاء المعرفة الذي يصور كمكان عاطفي (الفصل 2)؛ حيث العادات والمعرفة المدمجة، على وجه الخصوص، هي مولدات المسرات والانزعاج. حيث تعطي المؤلفة، في مقطع يبدو أنه يتغذى على تجربتها الشخصية، الذي تتحدث فيه عن نقل المكتبة الوطنية ريشيليو من موقعها الحالي في الدائرة الثالثة عشرة، وما أسفر عنه ذلك من متاعب وإحباطات، بل الغضب، لأن اختلال وظائف هذا الفضاء ربما تَسبب أيضا في إجبار القراء على التكيف مع ظروف جديدة قد تفضي إلى قطيعة عاطفية مع طقوس يومية كانت من قبل خصبة ومنتجة.

وتستحضر المؤلفة أيضًا مذكرات ماري كوري، وأيضا مذكرات فرانسوا جاكوب، وارتباطهما الحميميّ بالمختبر، والإرهاق والتوتر الناجم عن ليال متتالية من البحث والتجارب، وتعبيرهما عن الانزعاج والقلق من فضاء اشتغالهما الذي أخذ يتقلص تدريجيا إلى أن أصبح صغيرا جدا وفوضويا جدا. إن العمل الميداني تتغير ظروفه، وتتباين عواطفه بين الجمال والخشونة والنجاح والإحباط حسب الفضاء؛ مثلا: فضاء المكتب يتأرجح بين الراحة، والعزلة أو الاختلاط وكثرة اللقاءات - هذا الفضاء الذي يفضل العلماء تركه وراءهم، كما يتضح على التوالي من خلال شهادات مختلفة لعلماء الأنثروبولوجيا، بما في ذلكموريس غودلييه، من خلال ما أورده من أوصاف لمكتبي كلود ليفي شتراوس ومارسيل موس اللذين كانا يفضلان العمل الميداني والتنقل.

أخيرًا.. وفي سياق الترتيب المادي للمعرفة، تُعتبر وسائل العمل العلمي من زاوية الاستثمار العاطفي الذي تمثله للعالم ذات تأثير عاطفي قوي على مسار البحث العلمي (الفصل 3). لا سيما الكتب والوثائق الشخصية والملاحظات الميدانية التي تعالجها المؤلفة: على سبيل المثال يفسر بلوخ، لصديقه فيفر الألم الناجم عن فقدان مكتبته في العام 1942.اثنان من علماء الإنثروبولوجيا الأمريكيين يركزان على شعورهما بالقلق أكثر من إحساسهما بالرضا في ملاحظاتهما الميدانية. وتكشف لنا أعمال هنري جان مارتن أو أنتوني غرافتون حول المطبوعات عن انزعاجهما من القراءة أو الشغف بالملاحظات الهامشية. أخيرًا، تتحدث فرانسواز فاكيه، بمساعدة الأعمال السوسيولوجية عن "القلق من الكمبيوتر" الذي تثيره هذه التكنولوجيا الجديدة لدى العديد من الباحثين. تتيح لها هذه النظرة "الخارجية" أن "تصف" -باستخدام مجموعة واسعة من الأمثلة- المشاعر المتعددة والمتناقضة، التي غالباً ما تكون متضاربة، والتي تستفز الباحثين أو الذين يوظفون فضاءاتهم ووسائلهم في سبيل البحث العلمي.

ويقترح القسم الثاني المعنون بـ"العواطف في العمل" إلقاء نظرة من داخل الحياة العملية اليومية التي تحدثت عنها المؤلفة سابقًا، لتسليط الضوء على المدخرات العاطفية التي تستعمل في المنجزات العلمية -ما تصفه المؤلفة بـ"التاريخ الداخلي"، المشاعر اليقظة، والانفعالات المصاحبة للأبحاث العلمية اليومية.

ويتكون هذا القسم من فصلين يعتمدان على "تقاسم" متعمد وتلقائيّ (ص:155) بين شخصيتين بارزتين في البحث العلمي؛ هما: الباحث والمؤلف. في البداية يتأثر (الفصل 4) الباحث خلال حياته ببعض الأعمال. يذكر دوبي القراءة "الشغوفة" لبلوخ أو التي شكلتها بعض اللقاءات كمايستحضر كذلك بيير شونو وفريدريك مورو اللذين كانا منبهرين ومولعين بالمحاضرات التي كان يقدمها فرناند بروديل. ثم يقود دوبي أبحاثه صوب المنحدرات العاطفية حول الموضوعات التي يحبها. يكتب دانيال روش وكارلو جينزبرج عن المتعة والحماس اللذين يولدهما عملهما أو الغضب من الموضوعات التي تستعصي عليهما، مستشهدا بقلق وانزعاج ميشيل بينسون ومونيك بينسون شارلوت بصفتهما مؤلفين وما يصادفانه في أبحاثهما من عقبات مردها بالأساس إلى اليأس والإحباط والخوف من الإخفاق. إذن، يجد العالِم نفسه مستثارا بالعديد من المشاعر المتناقضة (الفصل 5). وخلال فترة التحرير، التي يسعى خلالها العالِم إلى محو جميع آثاره الشخصية أي حضوره الذاتي (ص:200)، يشهد عالم الاجتماع هوارد بيكر على وجه الخصوص على الخوف من تشوش تأملاته وقلقه من العوائق التي تحول دون مواصلته الكتابة. ويعد النشر أيضًا مصدر توتر، لكنه يبرز مشاعر الحماس، كما نجد عند جان-بيير فيرنا بعد أن قبلت دار ماسبيرو مخطوطته، أو الإحباط كما هي الحال مع فيفر الذي يعبر عن أسفه لأنه توجه إلى دار نشر سيئة لم تحسن التعامل مع كتابه. وأخيرًا، تستحضر المؤلفة لحظة التلقي النقدي لعمل الباحث، وهي لحظة انتظار وقلق من نتائج غير مؤكدة. تتيح وجهة النظر "الخارجية" لفرانسواز فاكيه في هذا القسم صورة عن نسيج الحياة اليومية للباحث المترعة بالتوترات والعواطف المختبرة التي تحرك أو تؤثر أو تعوق البحث بصفة عامة.

أخيرًا.. ومن منظور مقارن، يتناول القسم الثالث من الكتاب والمعنون بـ"شرط العواطف"، القرنين السابع عشر والثامن عشر، مستعيدا مواضيع الفصول الخمسة الأولى -العلماء، والفضاءات، والوسائل، والحياة العملية عند الباحث، ثم عند المؤلف- تهتم فرانسواز فاكيه ببعض الوثائق الشخصية التي أنتجها المثقفون الجمهوريون في عصر الأنوار. من أجل إثبات "ما يلزم تغييره" وأن "النظام العاطفي" (مفهوم غير محدد) في العصر الحديث.

وقد اعتمدت المؤلفة في هذا السياق على عملها السابق عن إيطاليا العلمية، لتُظهر أنه يمكن أن نجد علاقات صداقة في مراسلات جان مابيلون، أو شكاوى حول المكتبة في مذكرات لودوفيكو أنطونيو موراتوري أو علامات عن الإعجاب في مديح فونتونيل. وأخيرًا، اهتمت المؤلفة بالخطابات التي ألقاها هؤلاء المثقفون الجمهوريون -خاصة مراسلات موراتوري وأحكام أسرافانس أدريان بيليت- حول العواطف وتأثيرها على الممارسة العلمية (الفصل 7). وتذهب فرانسواز إلى أنه من خلال تاريخ الموضوعية -من العصر الحديث إلى اليوم، خاصة من خلال مؤلفات القرن التاسع عشر- بنيت الثقافة العلمية باعتبارها "ثقافة بلا عواطف"(ص:318)؛ بحيث وجب على العالِم أن يتحكم في عواطفه وأن لا يجعلها تؤثر على أبحاثه، وبالتالي يُمحى كل أثر لما هو ذاتي.

وفي خاتمة الكتاب، تستحضر فرانسواز كيه ما تسميه "عودة المكبوت" (ص:304) من هذه الثقافة المشهورة أنها بدون عواطف. وهكذا تفتح بعض المسالك للتفكير في الظروف النفسية والاجتماعية للاستحقاقات العلمية والتي عرفت الكثير من المعاناة التي تجاهلها المجتمع العلمي الأكاديمي منذ فترة طويلة (ص:321 وص:323). وبعيدا عن "مثال أعلى للموضوعية" الذي تتبناه "ثقافة بدون عواطف"، تمنح المؤلفة نفسها فسحة لتخيل عودة العواطف إلى العمل العلمي بفضل "الاعتراف بقيمته المعرفية" (324) - وهذا ما سيجعل "العلم أكثر إنسانية".

ولا بد في الأخير من التأكيد على أن الكتاب لافت للاهتمام ومثير للإشكالات؛ لأنه يقف على قضايا جديدة مرتبطة بالإنتاج العلمي عبر مراحل حاسمة من تاريخ أوروبا. وبذلك؛ فهو يعيد الاعتبار للعواطف من خلال إعادة ترميمأبعادالعلم وطقوسه، من خلال التذكير بتأثير العواطف على وتيرة البحث العلمي، والالتزام بالمهمة، والتعايش والتعاون وبناء مستقبل واعد داخل المجتمعات، وبطبيعة الحال، من خلال إنتاج ونشر الأبحاث والمؤلفات. وبذلك تمكنت المؤرخة فرانسواز واكت من تفكيك أسطورة العالِم/ الباحث الذي تحول إلى فكر خالص، لأن الباحثين كائنات بشرية قادرة على الانفعال، لا أحد ينكر ذلك. ومع ذلك، فإننا نضع في اعتبارنا صورة غامضةعن علم بدون مشاعر وملامح،وكأن العلماء ينتهجون بروتوكولات موحدة، وبالتالي تختفي كل المؤثرات الذاتية. سواء كان الباحث داخل المختبر أو في مكتبه الشخصي، لا يمكن أن يخفي أو يقمع أفراحه وقلقه ولا يمكن في كل حال من الأحول أن يتحول إلى آلة لإنتاج المعرفة.

-----------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "تاريخ عاطفي للمعرفةمن القرن 17 إلى القرن 21".

- المؤلفة: فرانسواز فاكيه.

- الناشر: CNRS المركز الوطني للبحث العلمي، باللغة الفرنسية، 2019.

- عدد الصفحات: 348 صفحة.

أخبار ذات صلة