تأليف ثيودوربورتر
عرض: طلال اليزيدي
في بدايات القرن التَّاسع عشر الميلادي تقريباً قبل تكوين مفاهيم الجينات وعلوم الوراثة، أقدم الأطباء المختصون في مصحات المجانين على تسجيل تقارير عن أسباب الجنون في بعض من مذكراتهم. تقريبًا منذ الوهلة الأولى لتسجيلهم لهذه التقارير أشاروا إلى الوراثة كسبب رئيسي مسبب لهذه الأمراض العقلية، لكن في فترة من الفترات رأى بعض المختصين العاملين في هذه المصحات وبعض المسؤولين السياسيين تزايد أعداد المصابين بالأمراض العقلية، ولذلك بدأوا بتأكيد الحاجة الملحة إلى تحديد تكاثر الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية. ومن هنا أصبح المختصون والمسؤولون مهووسين بالتَّعرف على العائلات المُعتلة بمرض عقلي وتوقع نتيجة التزاوج من هذه العائلات.
كتاب جينات بيوت الجنون يعرض القصص غير المقصوصة عن البيانات المستقصاة والمنظمة للتوارث من مستشفيات الأمراض العقلية ومدارس الأطفال وكيف كانت بمثابة العلم الجديد للتوارث البشري. في هذا الكتاب المقنع، يُقدِم ثيودور بورتر(Theodore Porter) على جلب الانتباه إلى التاريخ المخبئ لعلوم الجينات والتوارث باستخدام دلائل أرشيفية من أوروبا وأمريكا الشمالية، يتمعن الكاتب في كتابه في استخدام شجرة التوارث، وتعداد المصابين بالأمراض العقلية، واستبانات إحصائية للطب المجتمعي، وبعض البيانات الأخرى من قبل المؤسسات المعنية بالعناية بالمصابين بالأمراض العقلية، وكذلك يستقصي أيضًا الممارسات المبتكرة للعناية بالمصابين القانطين في هذه المؤسسات. ثيودور يجادل أن المختصين في هذه المؤسسات طوروا العديد من الممارسات والأفكار التي أصبحت في الوقت الراهن تتمحور في مجال علوم تحديد النسل المجتمعي. بالإضافة إلى أنَّ المختصين هؤلاء عمقوا من تقديرنا لأخلاقيات العمل في المواقف الخطرة معتمدين على بيانات مستقصاة جعلتهم على حاجز ما بين الانحيازية لأخلاقيات العمل أو تطبيق علم تحديد النسل.
هذا الكتاب بالفعل يجعلنا نتساءل من هو بالفعل الذي اكتشف علوم الجينات؟ في الغالب عند طرح هذا السؤال، الأنظار تتوجه إلى الأشخاص الأربعة، ويليم بتايسون الذي بدوره وضع مفهوم الجينات، وويلهيهم جونسون الذي حدد مفهوم الجين، وتوماس هانت مورجان الذي أيضاًفيبداياتالقرنالعشرينقامبأول تجربة علمية في مجال علوم الجينات والتوارث باستخدام ذبابة الفاكهة. ولكن على الأرجح من بين هؤلاء جريجور مندل يعتبر المكتشف الحقيقي لعلوم الجينات والتوارث وذلك لدوره في تجربة زاوج نبات البازلاء ليكتشف القواعد الرئيسية للتوارث. يعتبر الكاتب أن هذه الأحداث هي في الحقيقة بمثابة الظل الذي يعيقنا عن التعرف على المصدر الأعمق؛ يرى ثيودور أن أول دراسة حقيقية لعلوم الجينات والتوارث كانت تلك الدراسات والتسجيلات الإحصائية في مصحات العناية بالمصابين بالأمراض العقلية في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر ببريطانيا وأجزاء واسعة من أوروبا وأمريكا. في هذه المستشفيات في وسط الأنين والروائح والعشوائيات جمعت البيانات، وسجلت وصنفت إلى مجموعات وجداول وتوضيحات بيانية، وكانت بمثابة أول تسجيل منظم للأمراض العقلية، ومنه ظهر ما يعرف اليوم بالوراثة. يجادل ثيودور في كتابه "جينات بيت الجنون" أنه خلال 200 سنة لم نتمكن حتى الآن من الاعتراف بالغزارة المعرفية لهذا الجانب وذلك بدوره في تعزيز فهمنا لهذا الجانب، الذي مازال مسيطرا على حياة بعض الأفراد والمجتمعات المتأثرين بالأمراض العقلية.
ثيودور يجادل أن علم الوراثة لم يظهر كعلم مستقصى من البيانات المجمعة فقط، لكنه ظهر كمجهود دولي لجمع واستقصاء بيانات مرتبطة بالأمراض العقلية للمساعدة على تفسيرها. معظم القادة في هذا المجال أمثال الطبيب النفسي إيتين إسكويرول (Étienne Esquirol) والطبيب جون ثيرنام (JohnThurnam) جعلوا من المصحة العقلية في يورك بإنجلترا مرجعًا لكيفية تسجيل البيانات الإحصائية.
حتميا طرق الدراسة في مصحات الأمراض العقلية تغيرت مع الوقت، فالكتابات اليدوية والشرح باستخدام الجداول والشجرة الجينية للمرضى أعطت إلى حد ما مجالا للأدوات الإحصائية، والنظريات الجينية، وكذلك فتحت مجالا إلى الدراسات الضخمة المرتبطة بالجينات في وقتنا الحاضر. يفترض ثيودور أن الكثير من التوقعات والضروريات للشبكة المبعثرة من المعلومات القديمة المتعلقة بالأمراض العقلية، ما زالت موجودة اليوم في البيانات الجينية الضخمة للطب التخصصي الدقيق، ومن وجهة نظرهفإنَّ هذه التوقعات والضروريات المبنية على البيانات المستقصاة ما زالت تستخدم اليوم. سواء في عام 1820 أو عام 2018، هذا النهج دائما يقدم البيولوجيا على الثقافات والإحصاء على السياق المستقصى من فكر المجتمع، ليفتح أبواباً إلى عالم جديد من علوم تحديد النسل.
ذكر ثيودور بورتر في كتابه كيف لموقف مهم جداً لولادة علم جديد كعلوم الجينات والوراثة أن يبقى مخبأً طوال هذه الفترة.والجواب على هذا السؤال في ثلاثة محاور رئيسية، أولا بعد الحرب العالمية الثانية ابتعد الأخصائيون في علوم الجينات كل البعد عن علوم تحديد النسل ومستشفيات الأمراض العقلية بسبب الأسى الذي تزامن مع فترة الحرب، ثانياً تأثير نظام مستشفيات الأمراض العقلية بقي جزئيا غير مكتشف بسبب الوحشية والإهمال للمتعالجين من قبل هذه المؤسسات، لكن يجب النظر خارج هذا الإطار لنتمكن من ملاحظة التصميم من قبل هذه المؤسسات لاستخدام الإحصاء للبيانات المستقصاة لتحديد الأشخاص الذين من الممكن أن يكونوا مصابينبأمراض عقلية، ثالثا كان من السهل عدم الاكتراث إلى شبكة هذه المؤسسات لأنها كانت غير مترابطة وفاقدة للمركزية.
هذه المؤسسات لعلاج الأمراض العقلية بدأت بنية صافية وخالصة، فالعديد من مؤسسي مصحات رعاية الأمراض العقلية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كانوا يأملون في علاج الناس من الأمراض العقلية من خلال ممارسات إنسانية وأخلاقية، لكن لم تمكث هذه المؤسسات لفترة زمنية طويلةقبل أن تتعرض الى انتقادات مؤثرة وجذرية، ففي عام 1788 بعد تقليد الملك جورج الثالث في إنجلترا ملكا أبدى في بعض الأحيان بعضًا من الأعراض التي ترجح إصابته بمرض عقلي، في ذلك الوقت فهم الأمراض العقلية بشكل عام أصبح الى حد ما قضية أمن وطني، والتشخيص العقلي السيكولوجي المدعوم من قبل كتاب المتخصص ويليام بلاك (William Black) وهو كتاب متخصص بالإحصاء المستقصى من أحد مراكز العناية بالأمراض العقلية في لندن، كان دليلا كافيا لإعطاء الحكومة قوة لاستبدال الملك بابنه الوصي على العرش الملك جورج الرابع.
في عدة عقود من السنوات كان التزايد في مراكز الرعاية بالمرضى العقليين مبنياً بشكل أساسي على الإحصاء والأرقام وكذلك باستخدام تعداد السكان لقياس ما بدأ وكأنه نوع من الأوبئة؛ففي ذلك الوقت مفهوم الأمراض العقلية كان بمثابة المظلة التي تتضمن مدى واسعا من التصرفات التي كانت تعتبر أيضا نوعا من الخلل العقلي، ونفس هذه الممارسات لتشخيص الأمراض العقلية في أنحاء أخرى ساعدت على انتشار وتطوير هذه الممارسات في معظم الجانب المتطور من العالم الغربي في ذلك الوقت، من لندن إلى باريس، وألمانيا، وماساتشوستس.ومصحات العناية بالأمراض العقلية تزايدت وتكاثرت، وربط بينها جانب فعال من التواصل، والسفر، والمؤتمرات، والأطروحات العلمية كالمجلة المتخصصة في هذا المجال المجلة الأمريكية لأمراض الجنون.
في البداية مصحات الأمراض العقلية استقبلت بغرابة نسبة هائلة من الملتحقين، فالزيادة كانت روتينية بنسبة 50%. أحد المستشفيات في كونيتيكت بالولايات المتحدة أفاد باستقباله نسبه 91.6% خلال أربع سنوات متتالية.وخلال أوساط القرن التاسع عشر أدرك المسؤولون في هذه المؤسسات (ما من الممكن أن يدركه المختصون في البيانات الضخمة لسيكولوجيي الجينات) أنه على الرغم من أن علاج هذه الأمراض يبدو بعيد المنال. لكن بعض الأشكال الإحصائية المكتشفة من عدد كبير من الناس قد يؤدي في أحد الأيام إلى إظهار المسبب لهذه الأمراض والعلاج سيعقب ذلك،. المسؤولون لهذه المؤسسات اقتنعوا بهذه النظرية وبناءً على ذلك تزايدت المصحات لعلاج الأمراض العقلية.
في النهاية بعد استقصاء بعض الممارسات التي كانت تعتبر نوعا من المسببات للخلل العقلي كالحماس الديني، والأزمة المادية، ثبت الأخصائيون في هذه المصحات على المسبب الرئيسي الذي بقي وهو الشجرة الوراثية للمريض، فالوراثة كانت هي السبب المسبب لكل الأسباب، فالعلماء في هذه المصحات دون أي انتظار وضعوا خطة كانت أشبه بالكارثة، فإذا كان المسبب الأول للأمراض الوراثية هو الوراثة بشكل واضح، إذا فالعلاج والحل كان واضحا أيضًا، وهو منع المصابين بالأمراض العقلية من التكاثر.
في الفصل الأخير من الكتاب بدأ عنوان الفصل بكل وضوح "المختصون في جينات السيكولوجيا تمكنوا من جمع بيانات ضخمة، بعضها لأهداف مخيفه، 1920-1939”. في هذه الفترة تحديد النسل طبق بشكل كبير، وبعد عام 1927 قررت المحكمة العليا البرنامج الأمريكي للعقم الإجباري على عشرات الآلاف من الناس الذين اعتبروا إلى حد كبير ناقصين ومختلين عقليا.والألمانيون النازيون بناءً على المثال الأمريكي في ثلاثينات القرن العشرين 1930 أجبروا ما يقرب 400 ألف شخص على العقم الإجباري. هؤلاء الأشخاص حددوا من قبل النازيين بأنهم معطوبون وراثيا، وفي 1940 أطلقوا برنامجاأشبه بالمذبحة حيث أنهم جمعوا أكثر من 10 آلاف شخص من المصحات العقلية من كل أنحاء جنوب ألمانيا وسمموا في قلعة جرافنيك (Grafeneck castle).
بورتر ألح أن قصص مصحات الأمراض العقلية هي في الحقيقة قصة العصر، وهي ليست مثل ما يزعم البعض أنها عملية فشل مستقلة لبعض العلماء السيئين؛ فكل المعلومات الجينية المتعلقة بمصحات الأمراض العقلية ساعدت على تطور ونمو ذلك المجال، فالعديد من العلماء وخبراء الجينات والمختصين في هذه المصحات استثمروا العديد من الوقت والجهد في هذا المجال. في الحقيقة لم تكن محض الصدفة أن محارق الهولوكوست وصلت إلى العديد من الضحايا من خلال المصحات العقلية، فهذا المجال البحثي في المصحات العقلية احتوى على العديد من المعلومات والتسجيلات التي ساعدت على ارتكاب حوادث إجرامية كالهولوكوست.
بالنسبة إلى بورتر، فإنَّ الإسهامات المتعلقة بعلوم الوراثة والجينات لمصحات الأمراض العقلية في الحقيقة هي الجذور، والعلوم الحالية في هذا المجال هي الشجرة التي نبتت من هذه الجذور. حاليا العديد من الجهات التجارية في مجال علوم الجينات تتاجر بوعود التمكن من التعرف على جينات تتحكم بالمهارات والأمراض والصفات الشخصية، هذه الجهات عادت إلى الطريقة التقليدية في استقصاء البيانات الجينية من التوارث، بنفس الطريقة الموجودة في المصحات العقلية قبل 200 سنه.
الكثير من المختصين سوف يرفضون الأفكار التي اقترحها الكاتب بقوة لكن قراءتهم لهذا الكتاب الشيق الموثق توثيقا جيدا لممارسات طبية في حقبه معينة من الزمن سوف يثبت لهم خلاف ما كانوا يعتقدون.
-------------------------------
التفاصيل :
الكتاب : Genetics in the madhouse: unknown history of human inheritance
اسم الكاتب: Theodore Porter
تاريخ الإصدار: 2018
جهة الإصدار: Princeton University Press
