تأليف: ليندا بولمان
عرض: سعيد الجريري | باحث زائر في معهد هيغنز للتاريخ الهولندي
جملة "لا أحد يريدهم" الصادمة - التي اختارتها الهولنديةليندا بولمان عنواناً لكتابها عن أوروبا واللاجئين - هي في الأصل ترجمة "Keiner will sie haben"ذلك العنوان البارز لمقال في صحيفة فولكيشر بيوباختر الألمانية - الناطقة باسم الحزب النازي آنذاك - يوم 13 يوليو 1938، إثر انتهاء اجتماع اللجنة الحكومية الدولية المعنية باللاجئين السياسيين(IGCPR)، الذي عادة ما يطلق عليه مؤتمر إيفيان.ويأتي هذا الكتاب بعد ثلاثة كتب اشتغلت فيها على قضاياحساسة متعلقة بالمساعدات الإنسانية والتدخل، أثارت ضجة واهتماماً على نطاق واسع، هي: We Did Nothing - War Games - The Crisis Caravan
تستقصي بولمان في كتابها الجديد تطور الاستراتيجية الأوروبية فيما تسميه الحرب على اللاجئين (والمهاجرين غير الشرعيين)، مبتدئةً منمدينة إيفيان الفرنسية عام 1938حيث أول حملة دولية حول أزمة اللاجئين، إلى معسكرات اللاجئين في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، مروراً بـ"الجيوب الآمنة" في البلقان في التسعينيات،وتأخذ القارئ في رحلة مدهشة خلال الحرب الباردة إلىمخيمات اللاجئين الضخمة في القارة الإفريقية، حيث تنفذ مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أوروبا "سياسة الاحتواء" و"تغليف" مشكلة اللاجئين، و"النازحين داخلياً"، والخوذات الزرقاء في زامبيا، وموظفي الإغاثة، ومحتالي اللجوء والمهرّبين عبر البحر الأبيض المتوسط، لتنهي الرحلة في جزيرة ليسبوس اليونانية التي تعد مركز أكبر أزمة أوروبية للاجئين منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.وتصف بولمان الطاقة والإبداع والموارد المالية التي تستثمرها الدول الأوروبية في حربها ضد المهاجرين - سواء كانوا باحثين عن الثروة أو لاجئين "حسني النية" على حد تعبيرها، وتفند الحجج التي قدمتها حكومات أوروبا الغربية بعدم السماح للاجئين بالدخول حينئذ التي لا تختلف عما هي عليه الآن من حيث إنّ"المهاجرين" لن يكونوا متوافقين مع المعايير والقيم الوطنية، وسيأخذون الوظائف والمنازل، وسيتخفى المجرمون ومثيرو المشاكل بين اللاجئين،وسيهددون، من ثمّ، الأمن القوميوالنسيجالاجتماعي.
يتألف الكتاب من أربعة أقسام رئيسة: الحرب العالمية الثانية - الحرب الباردة - الاتحاد الأوروبي في التسعينيات - الاتحاد الأوروبي الآن.وتتضمن تلك الأقسام عشرة فصول، استقصت فيها المؤلفة موضوع بحثها عن أوربا واللاجئين خلال ثمانين عاماً: إيفيان:"لا أحد يريدهم"- ثفل الحرب -جنيف ومعاهدة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة - مواليد التسول: مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين -حالة البطة الدولية في أمريكا - التغليف - الغسيل الأزرق - الجيوب الآمنة -الإعادة إلى الوطن-صفقات بونجابونجا مع الحلفاء: أوروبا صانعة الصفقة: مع البلدان المغاربية، مع الصومال، مع إثيوبيا، مع القذافي، مع البشير مرتكب الإبادة الجماعية السودانية، مع ملك المغرب، الصفقة الأوروبية التركية.
في مدخل يشرّح موقف أوروبا من اللاجئين ترىبولمان أنّ الأوروبيين يحبون التظاهر بالبراءة، وأنّهم يعيشون في حصن ضعيف، ويدافعون عن أنفسهم باستمرار ضد جحافل اللاجئين المزيفين الجشعين الذين يحاولون فتح ثغرة في الجدار، لكن هناك من يتجاهل أدوار الدول الأوروبية في الحروب، والأوضاع البائسة التي يهرب منها الناس، وفي التلوث البيئي الذي تتسبب فيه الشركات الأوروبية، فعندما انتهت الحرب الباردة، كان هناك ستة وثلاثون صراعًا مسلحًاكان للدول الأوروبية (والولايات المتحدة الأمريكية)أدوار فيها جميعاً، فقد دعمت، من الناحية العملية،تلك الحروب سياسيًا أو ماليًا، وباعت الأسلحة للأطراف المتحاربة، وساعدت الحكام الديكتاتوريين على البقاء في السلطة، وشاركت في السياسات التي أفقرت الشعوب،وانتهكت حقوقها السياسية والإنسانية.لكن الزعماء السياسيين الأوروبيين (والأمريكيين) يقدمون اللاجئين الخارجين من الفوضى، دائماً،باعتبارهم مشكلة معزولة، وليسوانتيجة طبيعية لسياستهم الخارجية.
من عام 1938 إلى الآن ثمانون عاماً من سياسة الهجرة الأوروبية، نصل بشكل عام إلى الاستنتاج نفسه – تقول أولمان – فغالباً ما كان التمييز بين المهاجرين واللاجئين صعباً منذ أوائل التسعينيات، قبل عامين من نشوء الاتحاد الأوروبي، في عام 1991 كانت الدول الأوروبية أكثر تقييداً للهجرة مما فعلت بالفعل: بدون تأشيرة دخول، لم يعد يُسمح للعمال الموسميين من المغرب والجزائر وتونس في الأراضي الأوروبية على سبتة ومليلية المغربيتين، فأصبح الوصول القانوني إلى أوروبا أكثر صعوبة، بل مستحيل تقريباً بالنسبة لجزء كبير من سكان العالم. الأمر الذي نشّط حركة تهريب المهاجرين واللاجئين بمغامرات بحرية خطيرة، أو عبر الجو بوثائق مزوّرة، وبدون تأشيرة، في تشابك لا ينفصم. إنّها (هجرة) مختلطة ناجمة عن الفقر وأنظمة الحكم الفاشلة وانتهاكات حقوق الإنسان والصراعات المسلحة، ولذلك فالكاتبة تستخدم مصطلح "اللاجئين والمهاجرين" في كتابها في كثير من الأحيان، لإنصاف هذا المزيج: الأمل في حياة أفضل و/ أو أكثر أماناً في أوروبا. لكن إجابة أوروبا - تقول أولمان - بسيطة للغاية: فقط أبقِ الجميع خارجاً قدر الإمكان.
لم يحدث في تاريخ الاتحاد الأوروبي توزيع نسبي لأعباء اللاجئين وفق السياسة الأوروبية المشتركة، وكل دولة تراقب عن كثب ما تحصل عليه جيرانها، قلةً أو كثرةً، فمنطقياً ينبغي أن يكون من شأن سياسة اللجوء الأوروبية أن تجعل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مسؤولة بشكل مشترك عن الوافدين. لكن بالكاد يمكن تخيل مستوى أكبر للرعبفي الدول الأعضاء الواقعة في الشمال، لأنّ معظم اللاجئين يصلون إلى أوروبا عبر الدول الواقعة في الجنوب. تشير الكاتبة، على سبيل المثال، إلى مارك روتهرئيس الوزراء الهولندي وتعليقه، في برنامج تلفزيوني، على تهديد معمر القذافي عند بدء الانتفاضة الليبية في فبراير2011"بملايين" اللاجئين الذين سيعبرون إلى إيطاليا إذا تخلت عنه أوروبا ووقعت ليبيا في الفوضى. سأله المذيع بول ويتمان عما ينبغي أن تفعله أوروبا إذا كان "كل هؤلاء اللاجئين يريدون أن يسلكوا الطريق إلينا"، فقال: محاولة منع ذلك، من خلال ضمان وجود أكبر قد ممكن من مراكز الاستقبال في المنطقة.فسأله المذيع: وإذا لم ينجح ذلك، وكان هؤلاء الأشخاص يحاولون الوصول إلى أوروبا. فماذا إذاً؟ فأجاب: تلك هي مسؤولية البلد الذي يصلون إليه أولاً. فتساءل المذيع: أليس هذا غير عادل بعض الشيء؟ لأنّ هذا البلد هو الأقرب، وهو في الغالب إيطاليا. فأجاب مارك روته: حسناً، هذا من سوء حظها، لكن مواقع البلدان لها مزايا وعيوب.وجزيرة لامبيدوسا في البحر الأبيض المتوسط هي في الغالب الموقع الأول الذي يذهب إليه الناس.
منذ نشوء الاتحاد الأوروبي غرق أو توفي أكثر من 25000 إنساناً من جراء العطش والجوع في البحر الأبيض المتوسط. لكن السياسيين يصدرون عن خطاب تبريري، ففي مقابلة،عام 2016 ، مع كاتي بيري عضو البرلمان الأوروبي، قالت: "الكثير من العابرين الغارقين قذفهم البحر إلى لامبيدوسا، أو تمّ العثور على جثثهم في شباك الصيد، ولكن هذه كانت دائمًا مشكلة إيطاليا. لامبيدوسا أقرب إلى إفريقيا من البر الأوروبي. لم نر صور الأشخاص الغارقين في بروكسل".
ولكن ماذا عن مركز الاستقبال المحلي لطالبي اللجوء في لامبيدوسا؟ تشير الكاتبة إلى زيارة رئيس المفوضية الأوروبية مع رئيس الوزراء الإيطالي على إثر حادثة غرق قارب ليبي في أكتوبر 2013 قبالة ساحل لامبيدوسا وعلى متنه خمسمائة لاجئ ومهاجر، فالمساحة تتسع لـ 850 شخصاً، في حين يكون هناك دائماً حوالي 4000 شخص، في ظروف مهينة. غير أن هناك من لا يزال يقول: إنه من سوء حظ الموتى، ومن سوء حظ إيطاليا. لكن بعد ذلك كان صيف 2015 الذي أغرق الاتحاد الأوروبي تماماً بأمواج اللاجئين، ولاسيما بعد الحرب الكارثية في سوريا، وكان من المفترض أن يخلو الوضع - تقول أولمان - من المشاكل لو كانت هناك سياسات مشتركة.
ترسم الكاتبة صورة مقلقة عن تعاملات أوروبا مع اللاجئين، فهي لم تؤلف كتابها لتجعل الأوروبيين يشعرون بالرضا بأن كل شيء على مايرام، إذ ترى أن وعد عام 1951 الذي استندت إليه اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين الناص على أن "لن يحدث ذلك مرة أخرى" لم يترتب عليه شيء، فمازال الحال على ما هو عليه، وما زال صدى عبارة الصحيفة النازية "لا أحد يريدهم" يتردد، بشكل أو بآخر، ومازالت صورة اللاجئ النمطية سيئة تماماً مثلما كانت في عام 1938.
ثمة مشهد سوريالي تسرده أولمان من معايناتها الميدانية في جزيرة ليسبوس اليونانية عام 2015 عندما شاهدت المهاجرين واللاجئين وهم يقفزون من قوارب مطاطية: "كان ملح البحر في لحاهم وشعورهم، وكانت حقائبهم تقطر ماءً، وكانت الأمهات تبحثن عن مكان يقضي فيه أطفالهن حاجاتهم". تستطيع أولمان أن تتخيل شيئاً من هذا في مخيم للاجئين في أفريقيا، لكن ما حدث كان هنا أوروبا، فلماذا يُمنع هؤلاء الناس، والجزيرة بأكملها تغص بالسياح، وعلى بعد عشرين متراً يتناولون البيتزا، ويضعون زيتاً واقياً من الشمس؟ أردت أن أفهم ما كنت أراه - تقول الكاتبة - وأن أفهم كيف حدث هذا في أوروبا؟
تحاول أوروبا، بكل الوسائل الممكنة، وضع أو حجز اللاجئين في أماكن أخرى منذ عقود، كالمخيمات الضخمة التي بها مئات الآلاف من الأشخاص، في غينيا على سبيل المثال أو أوغندا أو الأردن، الذين يمكن أن يظلوا لأجيال عديدة دون أن يدركوا أي شيء، وأنّهم غير مؤهلين أبداً للجوء، وغالباً لا يسمح لهم بمغادرة مخيّمات مفوضيّة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. هؤلاء الناس عالقون ولا أحد يفكر فيهم أبداً، وهذه المخيّمات نسيان حقيقي، فبعد نشوء الاتحاد الأوروبي - تقول أولمان - تمت عسكرة الحدود الخارجية، ودفع ملايين اليوروهات لإيقاف اللاجئين، وأبرمت من أجل ذلك اتفاقات مع إثيوبيا والصومال والجزائر وتونس والمغرب وتركيا، وجوهر معظم تلك الاتفاقات أو الصفقاتهو أن تدفع أوروبا للمراقبة الحدودية، في مقابل وقف المهاجرين بغض النظر عما إذا كان هؤلاء الأشخاص ممن يحق لهم الحصول على وضع لاجئ أو ممن هم من طالبي الحظ، فعند صياغة معاهدة اللاجئين حاول القادة الأوربيون منح وضع لاجئ لأصغر مجموعة ممكنة، فالأشخاص الذين تتعرض حياتهم للخطر بسبب الحرب، أو يتعرضون للاضطهاد بسبب أفكارهم الدينية أو السياسية، يحق لهم الحصول على هذا الوضع، لكن بشرط أن يصلوا إلى الأراضي الأوروبية، بينما ينظر إلى الآخرين على أنّهم باحثون عن حظ.
وإذ تنتقد أولمان هذه السياسة بشدة - فالناس قد يفرون من الفقر والجوع لأسباب وجيهة أيضاً - فإنها ترى أنّه من غير الممكن مثلاً استيعاب اللاجئينفي المناطق غير المستقرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فاللاجئون والمهاجرون الأفارقة الذين تدفع أوروبا بأمراء الحرب الليبيين لإيقافهم في مراكز الاحتجاز، يتعرّضون للتعذيب أو الاغتصاب أو الإعدام أو يتم بيعهم عبيداً. وكذلك يفعل الديكتاتور السوداني المتهم بارتكاب جرائم حرب إذ يعيق حركة اللاجئين والمهاجرين باتفاق، فضلاً عن الاتفاق الأوروبي التركي الذي أقام جداراً في وجه الباحثين عن أمان حقيقي.
إنّ السؤال الكبير في ما يتعلق الأمر بـ"تسونامي اللاجئين" في أوروبا هو كيف يتم الوصول إلى انتهاج سياسة إنسانية للاجئين في أوروبا؟ لذلك فأولمان تضع الحقائق مجردة، بشفافية، وبمعطيات استقصائية موثقة، ما يجعل كتابها وثيقة إنسانية في مواجهة السياسات والإجراءات التي تمارسها الدول الأوروبية، في التعامل مع مشكلة اللاجئين، من جهة، و في دورها في تأجيج بؤر الصراع في المناطق التي يفر منها الناس بحثاً عن الأمان والأوضاع الإنسانية.
كتاب "لا أحد يريدهم.. أوروبا واللاجئون" مقاربة واقعية استقصائية لأزمة لم يتم حسمها إنسانياً منذ ثمانين عاماً، تعتمد فيه الصحفية الهولندية المستقلة ليندا أولمان اتجاهاً يغاير خطاب الخوف على الهوية الثقافية والدينية والوطنية أو التخويف من اللاجئين باتباع سياسة الاحتواء خارج أوروبا، كشكل من أشكال ترحيل الأزمة وخلق أزمات موازية، وترى في سياق الجدل حول هذه الأزمة أن الحل الحقيقي لا يمكن الوصول إليه بإجراءات من قبيل صفقات "الاحتواء"، وإنما يكمن في سياسة إنسانية معقولة باتت ضرورة ليس من أجل اللاجئين والمهاجرين، وإنما من أجل أوروبا نفسها.
------------------------------------------
التفاصيل :
الكتاب:لا أحد يريدهم.. أوروبا واللاجئون
المؤلف:ليندا بولمان
الناشر: يورخن ماس، أمستردام 2019
اللغة: الهولندية
عدد الصفحات:279
