ما الذي حدث في القرن العشرين؟

9781509518388.jpg

تأليف: بيترسلوتردايك

عرض: علي الرواحي

من الواضح أننا لا نستطيع التوقف عن الاستفادة وتعلم الكثير من الدروس التاريخية والفكرية من القرن العشرين، وهذا يتضح بشكلٍ كبير في عدد الأعمال والكتب في هذا الشأن، غير أن الفيلسوف الألماني الشهير بيتر سلوتردايك صاحب الكثير من المؤلفات في حقول مختلفة: فلسفية، وسياسية، وجمالية، واجتماعية وغيرها، له خارطة مختلفة في تتبع مسار هذا القرن وأحداثه المختلفة؛ فهذا القرن حافل بالكثير من الأحداث والمآسي التاريخية كالحروب، والأزمات الاقتصادية، وصعود وانحسار الديمقراطية بشكل دراماتيكي، وصعود الأنظمة الشمولية وغيرها الكثير. غير أن سلوتردايك يذهب في نفس اتجاه الفيلسوف الفرنسي الآن باديو في مفهوم الشغف بالواقع، من حيث أن العنصر البارز والهام لهذا القرن هو الاتجاه لموضعة الحقيقة والواقع كما هي الآن، وذلك من خلال النزوع الكبير نحو الاستهلاك والمواد التكنولوجية المتزايدة.

في هذا العمل المكون من 12 فصلا، تتوزع خارطة القرن العشرين لدى سلوتردايكإلى مواضيع شتى، قد تبدوأنها مشتتة أو لا علاقة بينها من الوهلة الأولى، غير أن هناك خيطًا ناظما يجعلها مترابطة. حيث نجدها متوزعة بين وجه هايدغر السياسي وتعليق مقولة نهاية التاريخ، وتأويل جاك دريدا للأحلام من جهة، وإلى علاقة الرواية الإيطالية والحداثة الجديدة بوصفها تواصلا لعصر النهضة، إلى الاهتمام بالعولمة البحرية وعلاقتها بالبيئة من الجهة الأخرى، وغيرها الكثير من الخطوط العريضة.

في الفصل الأول يتحدث سلوتردايك عن حقبة الانثروبوسين والتي اختلف حولها علماء الجيولوجيا كثيرا، وحول وجاهة التقسيم، وصلاحيته العلمية، وتأثير ذلك على مكانة الإنسان في الكون، ففي العام 2000م أعاد عالم الكيمياء الهولندي بول كروتزن والحائز على جائزة نوبل في هذا المجال في عام 1995م، أعاد إحياء فكرة ضرورة تسمية هذه الحقبة بالانثروبوسين وذلك بعد اقتراح القس الإيطالي أنطونيو ستوباني في عام 1873م، والذي يشير إلى تأثير الفعل البشري على الطبيعة بشكل ٍ أكبر من السابق، خاصة في العقود الأخيرة بما يستتبع ذلك من التأثير على المناخ، حيث تشير مقترحات الفترة الزمنية لهذا العصر من بداية الثورة الزراعية 12000 إلى 15000 سنه، كما تذهب تبعات هذه الحقبة إلى ظهور الإنسان العاقل بكل ما تعنيه من إمكانيات كثيرة تقوم على الإنتاج، واستخدام الموارد الطبيعية من جهة، وتدمير هذه الإمكانيات المتوفرة في سبيل السيطرة وزيادة الاستهلاك من الجهة الأخرى، حيث استوجب ذلك إنشاء سياسة جديدة للتعامل مع الأرض بالمعنى الواسع للكلمة، وذلك للحفاظ على الموارد البشرية للأجيال القادمة.

بالإضافة لذلك يطرح سلوتردايك سؤالا مهما حول الإشكاليات الكثيرة المصاحبة لعملية الترويض أو التدجين البشري عن طريق الجانب الثقافي، ففي هذا الجانب توصل علماء الانثروبولوجيا إلى الإمكانية الكبيرة التي يمتلكها الإنسان وقدرته على التأقلم، والتي تستخدم لوصفها الكثير من المفردات كالترويض، والتدجين، والتربية، والميول وغيرها، حيث اخترعها الإنسان بشكل ٍ عام لكبح جماح الفردانية والاختلاف البشري الطبيعي. ذلك أن هذه العمليات المختلفة – كما يقول سلوتردايك –وجدت لدى أفلاطون والتي سعى من خلالها عن طريق التعليم الأكاديمي الذي اتبعه إلى تربية رجل الدولة أو تنشئة رجال السياسة، وهذا يتطلب للخروج من حالة الطبيعة الأصلية التي يعيشها الإنسان ضرورة الانتقال إلى الحُكم العقلاني والأخذ بالحسبان الكثير من المحددات الثقافية والإنسانية المختلفة. فالتعليم والسياسة هما الجانبان الأكبر والأبرز لهذا التدجين والترويض، فهما يُعبران عن الجزء الكبير من ضرورة الالتزام الذاتي دونما الحاجة لوجود رقيب أو قائد يراقب التصرفات الفردية، ويقف خلفها، أو كما هو التعبير القديم: لا حاجة لاتباع طبيعتنا الخاصة بنا. تستند هذه النظرة لدى أفلاطون بشكل ٍ رئيسي إلى نظرية الرعوية السياسية، أو الرعوية الميتافيزيقية، والتي من خلالها يتم التدجين ووضع كل التصرفات البشرية بهدف عقلنتها وإنتاج ما عُرف لاحقا بالإنسان العاقل.

ولكن قبل مرحلة التدجين، ثمة مرحلة تستوجب العودة إليها لضرورتها وأهميتها الكبيرة في هذا الشأن، حيث نجد أنّه في القرن العشرين - موضوع هذا العمل - قد تحقق إنجاز مهم في تعريف الشرط الإنساني أو الوضع الإنساني الذي لا يمكن البدء به من نظرية التطور، بل تبدأ على الأرجح من التلاقي بين الشرط الطبيعي والفعل البشري، والتي على الأرجح لم تكن بالضرورة السبب المحفز على البقاء والاستمرارية، فالقدرة على التعلم وتزايدها جعلتهم يرتبطون فيما بينهم من الناحية الاجتماعية وذلك عن طريق الجماليات الحيوية أو ما يمكن وصفه بطب التجميل، أو العناية بالإنسان وكل ما يتصل به.

في الحديث عن التاريخ البشري لا يمكن تجاهل العولمة بكل تعقيداتها، وتموجاتها المختلفة، فإذا كانت بدايتها من الجانب البحري والتجاري فإنّها اتخذت مسارات مختلفة تصل إلى الجانب الأيكولوجي أو المتعلق بالبيئة والمناخ وتأثير ذلك على الجانب البشري، ففي العودة للجانب الاصطلاحي لمفردة العولمة نجد أنها – وحسب سلوتردايك – مسجلة باسم الاقتصادي الألماني الأصل والأمريكي الجنسية ثيودروليفيت (1925م-2006م) وذلك في مقالة له في مجلة هارفارد بزنس ريفيو في عام 1983م، حيث تحدث عن عولمة الأسواق، الأمر الذي جعل هذه المفردة تجتاح المراجع، والتحليلات الصحفية ونشرات الأخبار و الدراسات الأكاديمية وغيرها الكثير. تشير هذه المفردة التي أصبحت لاحقا بمثابة مصطلح إلى حدوث تحولات جذرية في العلاقات العالمية ليس على مستوى الأسواق فقط، بل على المستويات الإنسانية أيضا. يعود هذا التحول بنسبة كبيرة منه وبشكل ٍ خاص في هذه الفترة الزمنية إلى تزايد وسائل التواصل الرقمي بين البشر أو ذلك التحالف الوثيق بين العلوم الرقمية والعلوم الحاسوبية، مما انعكس على الأنشطة المصاحبة لذلك، بما فيه التقارب والتداخل والتأثير الكبير بين الحضارات والأفراد. ففي السابق كان التواصل كما هو معلوم يتسم بالبطء الشديد وبشكل خاص فيما يتعلق بالمسافات والتبادل الثقافي. ولكي نفهم أو نقترب من جوهر العولمة وتأثيراتها المختلفة ينبغي ألا ننبهر بأثر الثورة الرقمية وسطحها اللامع. فمن منظور الأنظمة والإجراءات نجد أن البطء مازال كبيرا، في حين أنه من الناحية التاريخية نجد أن التحولات المتسارعة لها نصيب كبير من الصحة والواقعية، فالعولمة لا يقتصر تفاعلها على الأسواق والعالم الرقمي.

علاوة على ذلك يستحوذ الإرهاب على مساحة واسعة في هذا العمل، فالحضارة البشرية بحسب سلوتردايك تكتسب سماتها بشكل ٍ مستمر من جدلية الصراع بين التذكر والنسيان، فالتذكر في الكثير من الحالات يقوم على العودة للماضي، حيث تسيطر عليه رغبة العودة للأحداث السابقة عن طريق تشكيل قطع كثيرة، وصور مختلفة عن تلك الفترات التي تساهم في إيقاظ الوعي المعاصر، وربطه بالأحداث القديمة. غير أن هذه الموازنة بين الماضي الذي يقبع في النصوص والذاكرة والحنين إليها، قد أحدثت نقلة نوعية كبيرة لعودة الكثير من السلوكيات التي لا تنتمي للعصر الحاضر. حيث نجد أن تزايد وانتصار السلوكيات الاستهلاكية للكثير من الصور والمتخيلات الماضية قد انتعش بسبب سيطرة العقيدة النيوليبرالية وانتصارها الظافر. كما يشير هذا أيضا في المقام الثاني إلى ضعف الثقافة اليسارية وتقاليدها المختلفة، بل وتراجعها الذي من الممكن أن يؤدي إلى الغرق في الخوف، الأمر الذي يزيد من الثقافة الاستهلاكية ويضاعف الرغبة في اللجوء إلى الرأسمالية بكل ما تعنيه من هلع وعدم الرغبة في التجديد. يشير الخوف في هذا السياق إلى أعراض قلق محافظ، غير تقدمي، لم يلتزم بالنظرة السياسية التقدمية. فهذا العصر الذي وصفه المؤرخ البريطاني الشهير أريك هوبزباوم بأنه عصر التطرف، يجد صداه في الكثير من السلوكيات المختلفة، منها التطرف الديني، وتطرف الذاكرة بالعودة للرموز المختلفة.

تنتشر في هذا العمل الكثير من المرجعيات المتضادة التي تذهب إلى انتعاش الذاكرة وبأنها السبب الأساسي للتطرف، في حين أن بعضها يشير إلى أن هذا العصر عن طريق الكثير من أحداثه ساهم في انبثاق وتشكل الإنسان الحديث والعصر الحديث بشكلٍ مواز لذلك. من أهم هذه المرجعيات اعتماد سلوتردايك على كتاب الفيلسوف الفرنسي الآن باديو في تحليلاته المختلفة في كتابه القرن والذي صدر عام 2007م، حيث يسعى باديوإلى استنطاق أحداثه وليس عن طريق الأيديولوجيات المختلفة، بل عن طريق الأفعال التي انتشرت فيه، وتم طبعه بطابعها.

في الجانب الفلسفي لهذا العمل، يتطرق المؤلف إلى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والذي يصفه بأنه فيلسوف القلعة المسكونة، وذلك في سياق تفسير دريدا للأحلام، حيث نجد أن التصور القديم للفيلسوف كان موازيا للموت، والذي أثر بدوره على التقاليد الأوروبية القديمة ما قبل المعاصرة، أو تلك التي استمدها الكثير من الفلاسفة لاحقا من أفلاطون مؤسس الفلسفة حسب سلوتردايك، مرورا بهايدغر الذي نحت مصطلح الدزاين الذي يشير إلى ذلك الفرد الذي يسعى إلى موته الخاص به، أو تلك المقولة التي تذهب إلى أن الوجود يتضمن الموت، حيث نجد أن هذه الأفكار والتصورات قد تأثرت بأجواء الحربين العالميتين كما يذهب إلى ذلك سلوتردايك.

في مقابل ذلك، فإن دريدا الذي يعتبر فيلسوف الإسقاطات الطيفية كما في كتابه عن أطياف ماركس، والذي تحدث عن نهاية حياته بعيدا عن النموذج الأصلي أو المتعارف عليه، وذلك في سياق مقابلته في عام 2004م، قبل أشهر من وفاته الفعلية، حين اعترف الفيلسوف الفرنسي بأنه لم يتعلم كيف يتقبل الموت، وبأنه لا يزال منيعا لمعرفته عندما يأتي، فهو لم يتعلم طوال حياته الفلسفية المديدة فيما يتعلق بموضوع الموت تحديدا. فهو بهذه الطريقة يعترض على التاريخ الفلسفي الكلاسيكي والمعاصر للفلسفة، متجاهلا بذلك الأبعاد الوجودية المختلفة له، وفي نفس الوقت لم يتفق مع الكثير من الفلاسفة الذين أشاروا إلى أي درجة بفهم أو بدون فهم، بإيمان أو بدون إيمان، قد ورثوا تقاليد فلسفية عميقة من أفلاطون، هيجل وحتى هايدغر، الذين تحدثوا عن تجاربهم الوجودية.

فبالعودة إلى دريدا نجد أنه عارض بشكل ٍ كبير الكثير من الحكم الماضية عن طريق تنظيراته المختلفة، وبشكل ٍ محدد في تفرقته الميتافيزيقية بين الحداد والحزن أو الكآبة او المالنخوليا، لأن هذه الأخيرة كانت حاضرة وبكثرة في الأعمال الفلسفية القديمة والتي تشير إلى اكتئاب نفسي أو حالة نفسية سوداوية تجعل المزاج الشخصي كئيبا ونكوصيا، كما أنها في السابق رُبطت بالعبقرية والإبداع، حيث توجت هذه التنظيرات في نصه "عمل في الحداد" والذي نُشر عام 2001م، والذي اتخذ من المقولة الفرويدية مسارا موجها له.ولأجل فهم هذه العلاقة الفلسفية المعقدة والمنتشرة في نصوص الفلاسفة يعود بنا سلوتردايكإلى كتاب الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي في عمله الذي يتقاطع بشكلٍ كبير مع دريدا، حيث طورا استراتيجية شخصية للتعامل مع القلعة الأوروبية المسكونة وذلك من خلال رسالة لرورتي يكشف من خلالها إصابته بنفس مرض درديدا ألا وهو سرطان البنكرياس، حيث أضاف في هذه الرسالة وبشكل ٍ ساخر بأن ابنته اعتقدت بأنه أصيب بهذا المرض بسبب قراءته الكبيرة لهايدغر.

في جانب آخر من هذا العمل يتطرق سلوتردايك لقضية جدالية، أثارت الكثير من النقاشات الفلسفية المختلفة، حيث إن الحضور الكبير للفيلسوف الألماني هايدغر في القرن العشرين لا يمكن أن يمر مرورا عاديا على الفلاسفة أو المشتغلين في الحقل الفلسفي، وربما مسألة نهاية التاريخ التي ابتدأت مع هيغل واستؤنفت لاحقا مع هايدغر تحتاج لقول إضافي، وبشكل ٍ خاص ما حدث في عام 1933م، والتأويلات المختلفة لأحداث حياة الأستاذ كما يطلق على هايدغر في الكثير من السياقات، حيث أصبح الحديث عنه شبه ضروري للكثير من الفلاسفة المعاصرين. ففي الحديث عن "سياسة هايدغر" وهو عنوان أحد فصول هذا العمل، يورد سلوتردايك اعتراضه على المصطلح لأنه يشير إلى عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى، والذي طبع بالكثير من الأحداث ودراسة تاريخ العقليات التي تشير إلى نهاية الواقع أو تراجعه.

فيما يتعلق بمقولة نهاية التاريخ ثمة تاريخ متداخل ومتماوج في هذا السياق، فمن دوستويفسكي إلى كوجيف الشارح الأكبر لهيغل، مرورا بهايدغر، ثمة حاجة لمعاودة التفكير في هذا الموضوع من حيث مفاهيم مركزية كالقراءة الحرفية للمفهوم، والتفريق بين النهاية والأهداف المستقبلية القادمة،حيث نجد أن مفهوم "ما بعد التاريخ" يحمل بين طياته بُعدا ثيولوجيا يرى أن ثمة قوى تتدخل في التاريخ فجأة ودون تقديم مسبق. في حين أن الترجمة الدنيوية لهذا المصطلح تذهب إلى متابعة الاحداث حتى النهاية أو الوصول إلى النبع في استعارة ضرورية في هذا السياق.

في نهاية هذا العمل، يتطرق سلوتردايكإلى الكثير من القضايا الراهنة، منها ما هو سياسي اجتماعي كما هو الحال في الدستور، حيث يصفه بأنه النص المقدس الذي يعبر عن العقد الاجتماعي، وسيادة الدولة، بحيث أن الاتفاق على نصوصه، ومواده، أو تغييرها يستوجب جهدا كبيرا، وأغلبية ضرورية.

-------------------------------------------------------

التفاصيل

الكتاب: ما الذي حدث في القرن العشرين؟

المؤلف: بيتر سلوتردايك

Polity, 2018الناشر:

 صفحة.280 عدد الصفحات:

لغة الكتاب: الإنجليزية.

 

 

 

 

 

أخبار ذات صلة