تاريخ موجز للاقتصاد في القرن العشرين

517ieuUf6AL.jpg

تأليف: فليب شالمان

عرض: سعيد بوكرامي

مع بداية القرن العشرين، ستبدأ "العولمة" ديناميتها الاقتصادية والثقافية والسياسية، وقد تميزت منذ بدايتها بحرية كاملة تقريبًا لحركة البشر والسلع ورأس المال. ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أي في العام 2001، كان انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية يرمز إلى عصر جديد من العولمة، ربما أكثر محدودية وبالقدر نفسه من الهشاشة. بين هذين الزمنين، شهد العالم حروبًا وأزمات، محاولات للانغلاق المتشدد أو الانفتاح العارم في لعبة شد وجذب تزعمها المعسكر الاشتراكي، والمعسكر الرأسمالي ولكن عرفت أيضا، هذه الفترة تقدمًا كبيرًا وتحديا كبيرا لمعالجة الصدمة الديموغرافية في النصف الثاني من القرن. من عولمة إلى أخرى، تاريخ اقتصادي لهذا القرن العشرين المديد وهو قبل كل شيء تاريخ بحث، لم يكتمل قط، عن تحقيق التوازن بين النمو والعدالة الاجتماعية.

يُشبه كتاب المؤرخ والاقتصادي فليب شالمان دروس ريموند آرون الثمانية عشر عن المجتمع الصناعي، خاصة في بعده البيداغوجي/التعليمي؛ لأن كتاب شالمان عبارة عن دروس جامعية وهي بالتحديد عشرون درسًا عن التاريخ الاقتصادي للقرن العشرين. كانت موجهة إلى طلاب شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والإدارة والرياضيات في جامعة باريس دوفين. لكن الكاتب فضل أن يستهدف القارئ عموما في القرن الحادي والعشرين" (ص:6(يقترح لهذا الغرض معرفة مختصرة وخاليةمن الهوامش والمراجع، ليصبح الكتاب موجزا تاريخيا لا غنى عنه، لأنه لا يهمل المعطيات المعرفية اللازمة لكل طالب وباحث وقارئ شغوف بمعرفة تطورات مفصلية انبثقت من الاقتصاد وانعكست على البنيات الاجتماعية الأخرى.

ويقدم هذا التاريخ الاقتصادي الموجز، المنتظم في عشرين درسًا، تركيبا زمنيًا بشكل أساسي يمتد من عام 1913 إلى عام 2018. كما يشير العنوان الفرعي للكتاب، يتجول المرء خلال هاته العقود بين عولمة وأخرى. هذه الدورة الدراسية المقترحة عن العولمة يحددها الكتاب في العناصر الرئيسية الثلاثة لهذه الظاهرة التي تشترك فيها البلدان كلها، وهي: انفتاح الأسواق، التقدم التقني، على الرغم من أن هاتين الظاهرتين تأثرتا تأثرا كبيرا بظاهرة الهجرة، ثمالتقسيم الدولي للعمل، ونتائجهالمنعكسة على إعادة التوزيع ودور الشركات متعددة الجنسيات والمجال المالي.

وينتقل المؤلف في فصول الكتاب إلى عرض ما يمكن أن يتوقعه القارئ من كتاب عن التاريخ الاقتصادي، يتناول القرن العشرين المديد، بحيث يجول في الفترة التي تمت معالجتها، بدءا من عام 1913، الحرب العظمى، والعشرينيات الصاخبة، وأزمة 1929، وردود الفعل على هذه الأزمة، ظهور "اليوتوبيا الشيوعية"،والحرب العالمية الثانية، وبدايات فترة ما بعد الحرب،والعقود الثلاثة المجيدة، التي بنيت فيها أوروبا، وانتشار "الوهم الشيوعي"، وولادة دول العالم الثالث،وأزمة 1974 التي وقعت في العالم الثالث، والركود الاقتصادي للدول الغربية في 1980، وانتعاش هذه البلدان والثورة الصناعية الثالثة،ودخول الصين إلى عالم المنافسة الاقتصادية وبروز البلدان الناشئة والواعدة، ثم تفجر أزمة الرهن العقاري وما ترتب عنها من نتائج سلبية وأخيرا العالم في عام 2018 وآفاقه المنتظرة.

ويُمكن قراءة كتاب يحتوي على أكثر من 260 صفحة بسرعة ودون صعوبة كبيرة، وبالترتيب الذي نريده؛ نظرًا لأن المؤلف متخصص في أسواق السلع، ونلاحظ أن متابعته للتطورات تتميز بالدقة والخصوبة المعرفية، وهذا يشكل مساهمة مهمة. يشعر القارئ باستمرار أن شالمان في حالة تأهب دائم وأحيانًا تكون ملاحظاته لاذعة ومنددة، كما هو الحال عندما يذكر "علماء القياس الذين يجعلون معادلاتهم تقول أي شيء وكيفما اتفق" (ص: 15). ومع ذلك، هناك حاجة لتوضيح ملاحظات عديدة بمجرد الانتهاء من القراءة.

وفي البداية، يميل المؤلف في بعض الأحيان إلى استخدام الصيغ العامة التي تبدو مبالغا فيها. وهكذا يمكن أن نقرأ أن بداية الحرب العظمى تشير إلى "نهاية الاستهتار بمصير خمسة وستين مليون رجل شاركوا في هذا الصراع" (ص: 36)، وأن الثلاثين سنة المجيدة هي بالنسبة للعالم الغربي "تلك الفترة الاستثنائية"(ص: 122)، وأن العقد الأخير من القرن العشرين هو "عصر السعادة الاقتصادية" بالنسبة للبلدان المتقدمة (ص: 292): عندئذ يتساءل القارئ عما إذا كانت بعض الشعوب وبعض الظواهر المهمة قد أهملت خلال هذا التوصيف التاريخي، وسريعا يبرز للقارئ أن تخوفه حقيقي؛ إذ يظهر بالفعل في الصفحةالسابعة عندما يكتب المؤلف أنه بالنسبة للمؤرخ، "لا تكاد توجد أي أحداث بارزة بين عامي 1880 و1913". وهذا قفز متعمد على مجموعة من الأحداث الاقتصادية المهمة.

بعد هذه الهفوات الأولى، يوجه المؤلف القارئ إلى نقاش نقدي بشأن بعض الأحداث والإثباتات. على سبيل المثال، فيما يتعلق بانخفاض البطالة في بداية الرايخ الثالث (الفصل 6)، لم يذكر المؤلف بعض الحلول التي استخدمتها السلطات في ذلك الوقت مثل تقييد عرض العمل، كما أنه لم ينظر بشكل دقيق إلى إحصائيات البطالة أو فعالية الأساليب المستخدمة للتقليل منها.

وبالنظر هذه المر ةإلى "بقية العالم" (التي سميت فيما بعد "العالم الثالث") من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، كتب فيليب شالمان: "عندما لا يستعمر بشكل مباشر فإنه يخضع للهيمنة السياسية والاقتصادية. هذا العالم "العالم الثالث" لم يدخل فعلا تاريخ كوكبنا الاقتصادي "(32-33). وقد بيّن المؤرخون ذلك، أمثال كينيث بوميرانز الذي أظهر كيف استطاعت إنجلترا أن تحرر نفسها من القيود الطبيعية، بخصوص استخدام الفحم، وذلك باستغلال أراضي مستعمراتها في العالم الجديد، مما أسهم مساهمة كبيرة في نموها السريع.

ولهذه الفترة، يُخصص فيليب شالمان ستة فصول. قام أولاً بتشخيص الوضع العالمي في عام 1913، حيث ربطه بمفهوم العولمة مدرجا بعض الأرقام التي تجعل من الممكن قياس التغييرات الحديثة في ذلك الوقت. نذكر منها أن خط السكك الحديدية انتقل من 350 ألف كيلومتر في عام 1880، إلى 750 ألف كيلومتر في عام 1900 ثم إلى مليون في عام 1920.حينذاك كانت لندن ما تزال تسيطر على العالم بحيث تستثمر ثلث الثروة البريطانية في الخارج. ثم يكرس المؤلف فصلاً للحرب العالمية الأولى وعواقبها، في فصل واضح ومُركب جدًا. لقد شهدت العشرينيات من القرن الماضي تأكيد قوة الولايات المتحدة وخير مثال على ذلك قطاع السيارات. يتناول فيليب شالمان أيضا حالة الكساد الاقتصادي الكبير من خلال التذكير بأن " أزمة البورصة، أصبحت مصرفية منذ بداية عام 1930 وهذا ما زلزل صرح الائتمان كليا ". يمكن قياس حجم الأزمة من خلال الناتج المحلي الإجمالي. في الولايات المتحدة، لم يمثل عام 1933 سوى 69% مقارنة بالعام 1929 وهنا يقتبس المؤلف كلام المؤرخ البريطاني إريك هوبسباون الذي قال: "إن الكساد العظيم دمر الليبرالية الاقتصادية طوال نصف قرن". سيناقش المؤلف الأجوبة عن الأزمة في الفصل التالي وهنا يصر فيليب شالمان على أن الصفقة الجديدة كانت قبل كل شيء "موقفًا أكثر منه سياسة متماسكة فحسب". على الرغم من التحسن الاقتصادي، إلا أن أزمة العطالة فرضت جسامتها بحيث كان هناك 9.4 مليون عاطل عن العمل عشية الحرب العالمية الثانية. أما على الجانب الفرنسي، فنعرف أن الأزمة كانت أكثر ليونة وأطول أمدا. لم ينس المؤلف "العالم الشيوعي" مذكرا بأنه في عام 1913، قدمت روسيا كل المؤشرات على أنها دولة "نامية" وهكذا قدمحصيلة سياستها الاقتصادية الجديدة الإيجابية، لكنه في السياق ذاته يشير إلى فشل الاتحاد السوفياتي في أن يكون نموذجا اقتصاديا.

ويقدم فيليب شالمان عرضا شاملا عن اقتصاديات الحرب، لمناقشة طريقة عمل نظام يعمل على القوى العاملة في معسكرات الاعتقال. يمكن قراءة النتائج الاقتصادية للحرب مرة أخرى من خلال الناتج المحلي الإجمالي: بالنسبة لفرنسا في عام 1944 مقارنة بعام 1938. كانت نتائج الحرب حاسمة مع إنشاء العديد من المؤسسات والمبادئ التي ما زلنا نعيشها إلى اليوم. إنه عصر دولة التعاضد وتقوية الدولة بشكل عام. ثم يتناول "الثلاثين عاما المجيدة" من خلال التذكير، إضافة إلى بعض الأرقام المرجعية، بالعدد الكبير للاختراعات التي اخترعت وتم اختبارها بنجاح. كما يعرج على الإنتاج الزراعي الذي عرفنموا بمعدلات مثيرة للإعجاب. وهنا توقف فيليب شالمان عند النموذج الفرنسي بحيث قال عنه: "كانت فرنسا هي النموذج الوحيد الذي نجح!". في الفصلالحادي عشر يهتم بعملية بناء أوروبا ونتائج توقيع معاهدة روما؛ليخلص إلى أن نسبة الناتج المحلي الإجمالي العالمي بلغت28%في عام 1995، وبذلك كان الاتحاد الأوروبي أكبر اقتصاد في العالم قبل الولايات المتحدة. كما يعرج المؤلف على يوتوبيا الشيوعية التي سبقت عام 1945، وقد اختار المؤلف مصطلح "الوهم الاقتصادي" لوصف الفترة الممتدة حتى عام 1970. إذ بلغت الميزانية العسكرية 20 % من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفياتي. يناقش المؤلف أيضًا الوضع في أوروبا الشرقية، مشددًا على أنه بعد عام 1958 "أصبحت المسارات أكثر تنوعًا". وبخصوص "ولادة العالم الثالث"، يشير فيليب شالمان إلى أهمية الصدمة الديموغرافية التي أعاقت نمو هذه البلدان، وتخبطها في البحث عن نماذج اقتصادية، مما انعكس على مقاييس نموها.

الفصول الستة التالية ستمكننا من مسح للأربعين سنة الماضية. وخلالها يصر المؤلف علىالتحول الكبير الذي عرفته فترة السبعينيات، ويظهر في السيطرة على النفط، بحيث "غيرت القوة معسكرها"، كما يقول فيليب شالمان.أما العالم الثالث، فلا يزال يعيش مأزق تزايد الديون حتى وهو على مشارف نهاية القرن العشرين. ثم يتحدث المؤلف عن "تحول كبير في السياسات الاقتصادية" ويرمز إليه غالبًافي عالم الاقتصاد ب "أولاد شيكاغو" وينتهي الفصل بتفتت مفهوم العالم الثالث وعدم جدواه؛لأنه بالنسبة للمؤلف، هناك بلدان تحتوي من جهة على مواد خام مهمة غالباً ما يكون تدبيرها سيئا بل كارثيا في بعض الحالات، وهناك من جهة أخرى بلدان نامية سابقا لم يتحرك نموها وبدأت تتراجع على مستويات عديدة. أما على صعيد الدول الغربية، يشير المؤلف إلى ضرورة تذكر ثلاث أفكار قوية، هي تجديد الليبرالية الاقتصادية وأزمة الاقتصادات المختلطة واختفاء البديل الشيوعي.

هناك أيضا انتعاش اقتصادي قدم غالبا على أنه ثورة صناعية ثالثة. في حين أن المصطلح لا يبدو الأنسب بالنسبة للمؤلف، إلا أنه يسلط الضوء على بعض النقاط البارزة التي تظهر التحول نحو عصر جديد يتميز بالحضور الهائل لاستخدامات الكمبيوتر والبرامج والتطبيقات. في عام 1983 كان هناك 13 مليون جهاز فقط في العالم، ثم صار أكثر من 60 مليون جهاز في بداية التسعينيات. ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الصين والدول الناشئة، ويختار فيليب شالمان الرجوع إلى الوراء، للحديث عن "عودة الصين" إذا فكرنا في الوزن الذي احتلته خلال ثلاثة قرون. كما يشير إلى الأهمية الاقتصادية البالغة التي لعبها النموذج الصيني في انتشار ظاهرة العولمة. كما يذكر، على سبيل المثال، الرهان الصيني الصعب كي تحافظ على مستوى النمو الكافي، لتوفير الوظائف اللازمة لاستيعاب عشرين مليون مهاجر ريفي يصلون إلى المدن الكبرى كل عام. يركز الفصل قبل الأخير على أزمة عام 2008 حيث كان الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي حادًا في العديد من البلدان، لكن المؤلف اختار بدلاً من ذلك التأكيد على أن ذكرى هذه الأزمة ستتلاشى شيئًا فشيئًا كما حدث مع عشرات الأزمات التي أصابت نهاية القرن التاسع عشر. يحاول الفصل الأخير استخلاص بعض وجهات النظر، والممارسات المعقدة دائمًا: لقد تراجع الفقر المدقع، لكن تبقى مظاهر عدم المساواة مذهلة وفي كل أنحاء العالم.

وتتسم قراءة هذا الكتاب البيداغوجي المهم بسهولة ومتعة، كما يقدم مقاربة بانورامية ناجحة جدا، يعطي من خلالها فيليب شالمان مفاتيح مهمة لفهم عالمنا الاقتصادي والتفكير في آليات العولمة ونظم اشتغالها ومحاولة توقع الأزمات الاقتصادية قبل حدوثها.

-----------------------

التفاصيل :

- الكتاب: "تاريخ موجز للاقتصاد في القرن العشرين المديد: من عولمة إلى أخرى (1913-2018)"

- المؤلف: فليب شالمان

- الناشر: دار فرانسوا بوران، باريس، فرنسا، 2019، باللغةالفرنسية

- عدد الصفحات: 272 صفحة

أخبار ذات صلة