المعجزة الاقتصادية الروسية: لماذا لم تحدث؟

Picture1.jpg

سيرجي أليكساشنكو

محمد نصر الجبالي (أستاذ و رئيس قسم اللغة الروسية بجامعة عين شمس)

يعرف مؤلف "المعجزة الاقتصادية الروسية. لماذا لم تحدث؟" سيرجي اليكساشنكو بكونه أول من طرح فكرة المنظومة الاقتصادية لروسيا الجديدة ولذا يهتم الباحثون برأيه كخبير ويقومون بتحليل أفكاره حول مختلف جوانب الوضع الاقتصادي في روسيا الحديثة. ويعرض المؤلف في هذا الكتاب صورة تفصيلية للاقتصاد الروسي ويتناول كافة التحولات والأحداث والتغيرات التي طرأت على الحياة الاقتصادية والسياسية.

ويعد الكتاب الذي بين أيدينا بمثابة أطلس تشريحي للدولة الروسية يحاول المؤلف أن يمنحنا من خلاله تشخيصا تفصيليا وإن كان لا يهدئ من روع القارئ حيال مستقبل الاقتصاد الروسي. كما يطرح الدواء لعلاج المرض ويؤكد أن الفرصة ما زالت قائمة للإبقاء على الأعضاء السليمة في الجسم الاقتصادي الروسي دون ضرر.

ويرى المؤلف أن روسيا في عهد الرئيس بوتين تبدو ككائن غامض صعب الفهم وأنها تبدو فقط في وسائل الإعلام بلدا منفتحا واضحا في سياساته. ويرى الكاتب أنه في روسيا الاقتصاد ليس اقتصادا بالمعنى المفهوم ولا القضاء قضاء، فالحكومة الروسية لا تحكم في واقع الأمر ووسائل الإعلام لا تقوم بدورها الأساسي في تغذية العقول بقدر ما تقوم بالمبالغة في تقديم صورة كاذبة وفيها الكثير من تجميل الوضع.

ويقترح المؤلف في البداية التفكير بتمعن في المشكلة ومن ثمّ معرفة أن لكل مرض دواء ثم المشاركة مع جميع الأطراف المعنية في بناء مستقبل روسيا بحكمة، ويؤكد أن هناك جيلا يكبر الآن يعيش في بيئة قوامها الأساسي الحرية والمعرفة ولديه القدرة على اكتساب أي معرفة أو معلومة سواء من العالم الواقعي أو الافتراضي؛ ومن ثم تحليلها وتصديرها ونشرها مرة أخرى في الحال. هذا هو الجيل الجديد، أمّا القديم فوضعه ليس ميؤوسا منه تماما بل هو قادر أيضا على اكتساب المعرفة اللازمة ونقلها للآخرين. ويؤكد المؤلف على حقيقة عدم إمكانية منع المعرفة من التنقل وأن سور الصين العظيم ليس بمقدوره أن يعزل الصين عن محيطها ولا أي سور آخر في العالم. كما أنّ روسيا ليس بمقدورها أن تنأى بنفسها عما يحدث في العالم.

وفي معرض حديثه عن رؤيته للوضع الاقتصادي الروسي في الفترة بين عامي 2014-2018 يرى المؤلف أن روسيا في سياساتها الاقتصادية قد حسمت أمرها باستمرار بوتين على رأس الحكومة حتى عام 2024 ولذا فإنّ الاقتصاد الروسي سيتطور بأسلوب الدفع الذاتي دون أية تغيرات راديكالية. وفي الوقت نفسه ستظهر عوامل أخرى جديدة غير مؤثرة على تطور الاقتصاد ككل.

ووفقا لهذه الرؤية، فإنه وحتى عام 2025 يمكن للمشكلات الاقتصادية في روسيا أن تضعف الدولة إلا أنها لن تؤدي بأي حال إلى انهيارها لعدد من الأسباب أهمها أن كل اقتصاد هو بمثابة جسم ثابت راسخ وليس من السهل خلخلته. والاقتصاد الروسي ينمو بفعل عوامل مبدئية تتمثل في غلبة نسبة تصدير المواد الخام في حجم الاقتصاد ككل 85% أما السبب الثاني فيتمثل في تبعية الاقتصاد الروسي لأسعار النفط العالمية وأنه ورغم ذلك فلا يبدو في الأفق القريب حدوث انخفاض شديد لأسعار النفط العالمية عن مستواها الحالي. فضلا عن ذلك هناك توقعات مؤكدة بأن حجم الإنتاج النفطي الروسي في نمو مستمر حتى أن ربع النفط الروسي سيتم إنتاجه من حقول جديدة في عام 2025م.كما أنّه ورغم كون وضع الأقاليم الروسية في تدهور مستمر بسبب أن دخولها ومواردها تعتمد في أغلبها على الضرائب المحلية سواء على الأرباح أو الدخول إلا أنها رغم ذلك لا يمكن أن تؤثر بالسلب على الوضع العام للاقتصاد الروسي أو التأثير على حجم الضرائب العامة المحصلة. كما أنه من المستبعد أن يتفاعل المواطنون الروس بغضب أو استياء مع تنامي معدلات التضخم حيث لم يشهد لهم بذلك خلال عشرين عاما مضت. فضلا عن ذلك فإن المشكلة الديمغرافية لن تمثل أي خطر اقتصادي أو تؤثر على الحكومة. ربما ستبطئ من معدلات نمو قطاعات التكنولوجيا المتقدمة بعض الشيء ولكن لن يتعدى الأمر حدود ذلك.

ثم يعرض المؤلف لسيناريوهات أخرى لمستقبل الاقتصاد الروسي منها اختياره الانعزال عن النظام الاقتصادي العالمي غير أنه وحسب رأيه يمكن للتحولات الاقتصادية السلبية أن تؤدي إلى حدوث تحولات سياسية خلال الفترة المذكورة في حال حدوث تقلبات مؤثرة.

ثم يورد المؤلف بعض المؤشرات الاقتصادية الروسية خلال الأعوام 2015-2017 مدعومة برسومات بيانية تظهر مدى رسوخ أو تذبذب مؤشرات الاقتصاد الروسي وارتباط ذلك بأسعار النفط العالمية وعن نمو أو انخفاض حجم تجاره الجملة والتجزئة ومؤشرات قوة الروبل الروسي وكذا مؤشر أسعار النفط خلال الفترة بين عامي 2011-2018.

ويشير الكاتب إلى مشكلة التضخم ويقوم بتناول جوانبها بالتفصيل ويخلص إلى أن وتيرة نمو معدلات التضخم قد تباطأت كثيرا ولكنها في ارتفاع مستمر ويرجع ذلك إلى تأثير العقوبات الدولية المفروضة على روسيا.

ثم يعرض المؤلف للتهديدات الواقعية للأمن الاقتصادي الروسي، ويذكر أن الرئيس بوتين قد صاغ استراتيجية الأمن الاقتصادي الروسي حتى 2030. وتتضمن هذه الوثيقة أكثر من 25 بندا إلا أنها لا توضح بجلاء ودقة كيفية التغلب على هذه التهديدات. ويقترح المؤلف من هذا المنطلق وللتغلب على كامل هذه التحديات البدء بتحقيق هدف رفع مستوى معيشة السكان. وهنا يذكر الكاتب بمشكلة حقيقية تتمثل في تخلف الاقتصاد الروسي في مجال التكنولوجيا ويقول إنه لا الاتحاد السوفيتي السابق ولا روسيا استطاعا يوما ما تحقيق الريادة في الذكاء الصناعي مضيفا أنّ المستثمرين الأجانب لا يتعجلون في ضخ أموالهم في مجال اقتسام التقنيات الخاصة بهم مع روسيا ويرجعون السبب في ذلك إلى المشكلة الروسية الأوكرانية وإلى فرض عقوبات اقتصادية دولية على روسيا وهو ما أدى إلى تعاظم المخاطر السياسية وتباطؤ الاستثمارات الغربية في روسيا.

ثم ينتقل الكاتب إلى الحلول التي اقترحها الرئيس بوتين في برنامجه الاقتصادي ويشير إلى المبادئ التي يتمسك بها الرئيس الروسي في كل سياساته الاقتصادية والتي تتلخص في التمسك باقتصاد السوق والأسعار الحرة وعدم الوثوق في حوافز السوق والاعتماد على برامج واستراتيجيات الخطط الحكومية. كما لا يفضل بوتين اتخاذ إجراءات استباقية عندما يبدو ذلك ضروريا بفعل التهديدات المستقبلية في الاقتصاد. كما يشجع بوتين على الاعتماد على الشركات الحكومية والوثوق بها وأحيانا يرفض إجراء إصلاحات في الشركات الحكومية مثلما فعل مع غاز بروم ورفض تحويلها إلى شركة ربحية طبيعية. كما لا يثق الرئيس بوتين حسب رأي الكاتب بالقطاع الخاص، ويؤمن بأنه من الممكن عزل الاقتصاد الروسي من جانب واحد وأن الدولة يمكنها وقف التعاون مع العالم المحيط عندما ترى ذلك ضروريا. ومن المبادئ الثابتة والتي لا يتنازل عنها بوتين أيضا إيمانه بقدرة المجمع الصناعي العسكري الذي يعتبره مصدرا للتقدم التكنولوجي الروسي وقاطرة للتنمية الاقتصادية فيها كما يدعو دائما إلى الهيكلة الصارمة للاقتصاد بما يكبح كباح التضخم ويقلص الدين الحكومي.

ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن العقوبات المفروضة على روسيا وما إذا كان ممن الممكن التعايش معها أم لا. يؤكد أنه يمكن التعامل معها وعقد اتفاقات مختلفة مع كونسورتيوم دوليه تضم شركات كبرى عالمية وأورد مثالا على ذلك توقيع اتفاقيه منح الدولة الأولى بالرعاية في التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي.

ويتحدث المؤلف بشكل علمي وأكاديمي عن النظام البنكي ونظام التقاعد في روسيا حيث يرى أن الرجوع للسياسة القديمة في إدارة البنوك الروسية ربما يكون الحل المناسب و يتحدث عن الأخطاء التي ترتكب حاليا والمتمثلة في هدر الأموال والسيطرة الكبيرة من قبل الحكومة على البنوك وتأثير الأزمات المالية التي عاشتها روسيا على البنوك.

وفي معرض حديثه عن نظام التقاعد تطرق المؤلف إلى الطريقة الأمثل لإدارة الأصول الحكومية ويرى أنه من الضروري توقف صندوق التقاعد الروسي عن تحصيل الأموال من الموظفين بل يجب عليه أن يتحول إلى مدير كفء للأصول بهدف تنمية موارده يمكنه أيضا عقد اتفاقيات مع صناديق الاستثمار المختلفة أو البنوك ويمنحها جزءا من أصوله لإدارتها.

كما ينصح المؤلف بالتوقف عن افتتاح البنوك الاستثمارية. والعمل على توفير مناخ استثماري جاذب حيث يرى أنّ روسيا تعاني من مشكلة في هذا المحور، ويرتبط ذلك بعاملين مهمين أولهما تغول الدولة في السيطرة على الاقتصاد وتدخل الكرملين في جميع الصفقات الكبرى التي توقع بين الشركات الروسية ونظيراتها الأجنبية.

أما العامل الثاني فيتمثل في العزلة المتزايدة للاقتصاد الروسي عن السوق العالمي وهو الأمر الذي يعد نتيجة للسياسة الخارجية الروسية.

وينتقد الكاتب عدم وجود أهداف واضحة لدى روسيا في عمليات الإقراض. كما يرى أن معدلات منح القروض في العالم كله في انخفاض مستمر نظرا لصعوبة استرداد الأموال وغياب أدوات الضغط لدى الدول الدائنة. ويرى أن ذلك يمكن أن يتم ولكن من خلال جمعيات صداقة أو بنك يمنح القروض على غرار صندوق النقد الدولي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والبنك الآسيوي للاستثمارات في البنية الأساسية بالنسبة لصين. ويقترح أن تمنح روسيا قروضها للأخرين من خلال بنك الاتحاد الأوراسي. ويصف الكاتب السياسة الروسية في الإقراض بالشفافة وأنها قلصت كثيرا من حجم عمليات الإقراض الخارجية.

ويرى الكاتب أن منح القروض للدول الأخرى يمكن أن يكون أداة مقبولة تستفيد منها السياسة الخارجية الروسية وتدعم الاقتصاد الروسي. ولكن ولكي يتم تقييم فعالية هذه القروض يجب أن تكون السياسة الخارجية وظروف منح هذه القروض مفهومة وشفافة.

ويطرح المؤلف السؤال الذي يقلق الجميع وهو الموعد المتوقع لانهيار الاقتصاد الروسي ويخلص إلى أنه لا يمكن وضع سيناريو واضح لحدوث ذلك، ولا يمكن توقع ما سيحدث خلال العامين أو الأعوام الثلاثة القادمة، ويرجع ذلك لكون روسيا قد فوتت فرصة الاستفادة من ثورة النفط الصخري وفي طريقها لتفويت فرصة الاستفادة من القفزات التي تحققت في مجال التكنولوجيا البيولوجية وصناعة السيارات.

ويرى الكاتب أن الاقتصاد الروسي يتمتع حاليا بنمو بطيء وثابت في الوقت نفسه ويرجع ذلك للاستقرار السياسي ويخلص إلى ارتفاع مستوى معيشة الروس اليوم مقارنة بعشر سنوات مضت ويرى أن التهديد الوحيد حاليا يتمثل في العقوبات المفروضة على روسيا وخاصة ما يتعلق بوقف تصدير التكنولوجيا الجديدة إلى روسيا إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن ذلك التأثير سيكون بطيئا وسيؤدي فقط إلى تخلف روسيا تكنولوجيا عن الدول المتقدمة لبضع خطوات.

وأخيرا يرى الكاتب أن أزمة القرم التي اندلعت منذ خمس سنوات سيكون لها تأثير بالإيجاب والسلب على الاقتصاد الروسي. ويعود بالتاريخ إلى أحداث 2014 عندما قررت روسيا ضم شبه الجزيرة إلى روسيا. ويرى الكاتب أن الثمار الإيجابية لهذا القرار أقل من السلبية. ويتمثل الأثر الإيجابي بالتأكيد في توسع مساحة روسيا وزيادة عدد سكانها في ظل أزمتها الديمغرافية غير أن الموازنة الروسية ستتحمل تكاليف ضخمة إضافية بلغت في العام الماضي 900 مليار روبل روسي. وقد أدى قرار ضم القرم إلى حدوث ركود اقتصادي نسبي حيث بلغ معدل النمو السنوي في السنوات الخمس الأخيرة إلى 2.5 % فقط في حين بلغ المتوسط العالمي 19% واحتلت روسيا المرتبة 173 عالميا. كما أنه انخفضت دخول المواطنين الروس بمعدل 11% وحتى أكثر المتفائلين لا يستطيع التنبؤ بالفترة الزمنية التي تحتاجها روسيا للعودة إلى معدلات ما قبل ضم القرم.

-----------------------------------------------------

التفاصيل :

الكتاب: المعجزة الاقتصادية الروسية: لماذا لم تحدث؟

المؤلف: سيرجي اليكساشنكو

الناشر: دار نشر "آست"، موسكو 2019

اللغة: الروسية

 

أخبار ذات صلة