جوزيف ستيجليتز
محمد السالمي
منذ أن اعتلى دونالد ترامب كرسي الرئاسة الأمريكية تولد لدى أغلبنا شعور بأن الاقتصاد الأمريكي والحكومة يميلان نحو الأعمال التجارية الكبرى وقد أظهرتها المؤشرات الاقتصادية بالإيجاب، ولكن في مكان ما فقدت أمريكا طريقها. تتحكم مجموعات اللوبي خلف الكواليس في تنظيم الاقتصاد وتطويره لأغراضها الخاصة؛ والصفقات التجارية قد تتطور ويكون ضحيتها العمال. إجمالاً، يمكن القول إنّ الديمقراطية تخاطر بأن تصبح أكثر من مجرد مسابقة مزيفة بين القلة. هذه الصورة القاتمة للولايات المتحدة رسمها الاقتصادي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل. في هذا الكتاب، يضع أجندة تقدمية يأمل منها أن تنقذ الرأسمالية من نفسها حسب وصفه. وكما يوضح جوزيف ستيجليتز في كتابه الجديد "الناس، والسلطة، والأرباح"، فإن الوضع سيء للغاية. لقد سيطر عدد قليل من الشركات على قطاعات الاقتصاد بأكملها، مما ساهم في زيادة عدم المساواة والبطء في النمو. هذه هي الطريقة التي مكنت الشركات من كتابة لوائحها الخاصة، وقد استطاعت شركات التكنولوجيامن جمعالبيانات الشخصية وترسيخها لأهدافهم الربحية، وقد تفاوضت الحكومة الأمريكية على صفقات تجارية تفشل في تمثيل المصالح الفضلى للعمال. لقد حقق الكثيرون ثرواتهم من خلال استغلال الآخرين بدلاً من خلق الثروة. وإذا لم يتم القيام بشيء ما، فإن التقنيات الجديدة قد تزيد الأمور سوءًا وتزيد من عدم المساواة والبطالة.
وكما أشار الكاتب ليس فقط الاقتصاد هو الذي فشل، ولكن أيضًا سياساتنا. فقد أدت الفجوة الاقتصادية لدينا إلى انقسام سياسي. يحدد ستيجليتز المصادر الحقيقية للثروة والزيادات في مستويات المعيشة، بناءً على التعلم والتقدم في العلوم والتكنولوجيا وسيادة القانون. إنه يظهر أن الاعتداء على القضاء والجامعات ووسائل الإعلام يقوض المؤسسات ذاتها التي طالما كانت أساس القوة الاقتصادية الأمريكية وديمقراطيتها.
جوزيف ستيجليتز خبير اقتصادي حائز على جائزة نوبل، وهو مؤلف للعديد من الكتب الأكثر مبيعًا من ضمنها إنجاح العولمة، والاستقرار مع النمو، وإلى أين الاشتراكية؟ وغيرها من الكتب. كما كان رئيسًا لمجلس المستشارين الاقتصاديين في عهد الرئيس كلينتون، وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي، وقد صنفتهالتايم من المؤثرين الـ ١٠٠، ويعمل الآن أستاذا في جامعة كولومبيا وهو كبير الاقتصاديين في معهد روزفلت.
يتناول النصف الأول من الكتاب أربعة اتجاهات يعتقد المؤلف أنها قادت الولايات المتحدة الى اقتصاد كئيب متمثل في القوة الاحتكارية، وسوء إدارة العولمة، وسوء التنظيم المالي والتكنولوجيات الجديدة التي تتيح مزيدًا من الاستغلال والتلاعب النفسي.أما في الجزء الثاني فيحدد الكاتب ما يجب القيام به بعد ذلك.
من بين الدول الكبيرة والغنية، تظل الولايات المتحدة في طليعة التقدم التكنولوجي، ولازالت المؤشرات الاقتصادية تقدم واحدة من أفضل العروض منذ الأزمة المالية في عام 2008. في المقابل، فإن الاقتصادات الأوروبية ذات التنظيم الأقوى، والمستويات الأعلى من التدخل الحكومي، والنهج الأكثر عدوانية تجاه الاحتكار، لم تكن على حالها كما كانت في السابق. أظهرت ورقة عمل أصدرها مؤخراً المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية من روبرت جوردون وحسن سيد أن معظم النمو السريع لأوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين جاء على الأرجح من اللحاق بالولايات المتحدة. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، شهدت أوروبا الغربية نفس التباطؤ، في نفس الصناعات بالضبط، مثل الولايات المتحدة. في حين أن أمريكا لا تتفوق في النمو، فإنها تفعل ذلك في حالة عدم المساواة،ويؤكد ستيجليتزأنه قد ينظر الكثيرون في أوروبا بحسد إلى ثروات أمريكا وديناميتها؛ إلا أنالقلة يريدون نموذجها الاجتماعي وعدم المساواة. بشكل عام،فإن أمريكا أغنى من فرنسا، لكن من المرجح أن يتمتع الرجل الفرنسي النموذجي بمستوى معيشي أعلى. يمكن للولايات المتحدة، بل ويجب عليها، أن تفعل ما هو أفضل لمواطنيها الفقراء، ويمكن لدولة تدخل أن تساعد معظم الأمريكيين على طول الطريق، ولكن هذا وحده لن يعيدنا إلى "العصر الذهبي للرأسمالية".
إن تشخيص ستيجليتز لما يعانيه الاقتصاد الأمريكي سيكون له حلقة مألوفة لكل من تابع هذه النقاشات. لقد تم تكديس قواعد اللعبة لصالح من يملكون ضد من لا يملكون. وقد أدى ذلك إلى زيادة عدم المساواة الاقتصادية وزيادة تركيز القوة السوقية بين الشركات الرائدة في كل قطاع، مما أدى إلى إبطاء نمو الإنتاجية على نطاق واسع. تقوم هذه الشركات والأفراد الأثرياء بتحويل ثرواتهم إلى سلطة سياسية، مما يراجع القواعد لترسيخ مكانتهم في القمة. إنهم يدافعون عن التخفيضات الضريبية وإلغاء الضوابط التنظيمية لكل شيء باستثناء حقوق الملكية الفكرية. أي شخص يعتمد على المؤسسات التعويضية، مثل التعليم العام أو النقابات العمالية أو شبكات الأمان الاجتماعي،يخسر!
يشير الكاتب إلى تباطؤ النمو الاقتصادي باعتباره أحد إخفاقات الرأسمالية الأمريكية. ويذكر أن النمو الاقتصادي الأمريكي السنوي مابين 1947 إلى 1980قد تباطأ من 3.7 ٪إلى 2.7 ٪ ما بعد 1980. والملاحظ أيضا، أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ليس في المرتبة الأولى عالميا. حيث ذكرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أنه بناءً على نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي على أساس تعادل القوة الشرائية، تحتل الولايات المتحدة المرتبة 19 في العالم.
تشمل الإخفاقات الاقتصادية الأخرى للرأسمالية الأمريكية الفشل في التعامل بشكل جيد مع الانتقال من الاقتصاد التصنيعي إلى اقتصاد قطاع الخدمات، وترويض القطاع المالي، وإدارة العولمة بشكل صحيح وفهم عواقبها، والأهم من ذلك،الاستجابة لعدم المساواة المتزايد. ما هي أسباب هذه الإخفاقات؟ يشعر الكاتب بأن أهم الأسباب هي "الاستغلال"، بدءًا من قوة السوق، ويقدم ستيجليتز بيانات توضح زيادة التركيز،حيثإننا نراها في الخيارات المحدودة التي نواجهها للتلفزيون الكيبلي أو الإنترنت أو الخدمات الهاتفية. تمتلك ثلاث شركات حصة سوقية تبلغ 89 بالمائة في مواقع الشبكات الاجتماعية، و87 بالمائة في متاجر تحسين المنازل، وما إلى ذلك. بالإضافة، تسبب التمويل في مشاكل خطيرة فالتمويل كان محوريًا في خلق ضائقة اقتصادية واجتماعية وسياسية في الوقت الحالي.
يقدم الكاتب بيانًا واسع النطاق حول إخفاقات الرأسمالية الأمريكية، ويقدم مجموعة من السياسات لمعالجة تلك الإخفاقات. على سبيل المثال، يوصي ستيجليتز بأن "نستبعد الرأي القائل إن سبب فوز الولايات المتحدة بالحرب الباردة، يتمثل في انتصار النظام الاقتصادي الأمريكي والمتمثل برأسمالية السوق الحرة فهو يجادل بأنه لم تكن رأسمالية السوق الحرة التي أثبتت تفوقها، ولكن الشيوعية هي التي فشلت. والأكثر إثارة للدهشة هو أن اقتصاد السوق "الاشتراكي الصيني ذي الخصائص الصينية" قد وفر رؤية بديلة وديناميكية ويخلص إلى حاجتنالدفن غطرستنا بشأن نظامنا الاقتصادي.
هذا الكتاب يتجاوز التشخيص إلى العلاج. في صلب خطة ستيجليتز في تعزيز تدخل الدولة. إن الرأي القائل إن الحكومة هي المشكلة وليست الحل، هو ببساطة مخطئ. على العكس من ذلك، فإن العديد من مشاكل مجتمعنا، إن لم يكن معظمها، من تجاوزات التلوث إلى عدم الاستقرار المالي وعدم المساواة الاقتصادية، تم إنشاؤها بواسطة الأسواق. يقترح الكاتب مجموعة كاملة من الإصلاحات، بما في ذلك الاستثمارات الكبيرة في المنافع العامة مثل البحوث الأساسية، وتنظيم أكثر صرامة للشركات، وتدابير لحماية حق العمال.
هناك ستة تغييرات محددة تحفز دعوة الكاتب لمزيد من تدخل الحكومة: الحاجة إلى الاستثمار في المعرفة، والتخطيط للتحضر، ومكافحة تغير المناخ العالمي؛ والتعامل مع الاقتصاد المتزايد التعقيد، ومعالجة التغيير الاقتصادي؛ وإدارة العولمة.على سبيل المثال، يذكر أن "المشكلة في العقود الأخيرة هي أنه لا توجد مشاركة جيدة في القوى العاملة أو الإنتاجية. وبالنسبة للمشاركة في العمل، يقترح المزيد من "السياسات الصديقة للأسرة" مثل "سياسة أفضل للإجازة العائلية".
أما بالنسبة للإنتاجية، فإن "الاحتكارات لديها حافز أقل للابتكار"، وبالتالي فإن "كبح قوة السوق" جزء من جدول الأعمال. يناقش ستيجليتز سياسة مكافحة الاحتكار التي تستهدف الاحتكارات في عدة نقاط. وتجدر الإشارة إلى أننا لا نريد السماح للشركات العملاقةأن تركز "بإحباط المنافسة" من خلال عمليات الاستحواذ. في هذا السياق، يقترح أن تنظر الحكومة فيالفيسبوك بعناية أكبر ويطلب منها تجريد نفسها منالانستجرام والواتس أب.
وفيما يتعلق بإصلاح عدم المساواة، يستشهدالكاتببسياسات مثل الحد الأدنى للأجور وضريبة الدخل المكتسب الأعلى "أي ضريبة نسبية لذوي الدخل المرتفع"،كماتنشئ الحكومة برنامجًا أساسيًا بديلًا لتوفير منتجات مثل التأمين الصحي أو المعاشات التقاعدية أو القروض العقارية.في نهاية المطاف، يعتقد ستيجليتز أن الاستثمار في "المعرفة والتعلم ودعم التقدم في العلوم والتكنولوجيا" هو المصدر الحقيقي لثروة البلد. إنه يختتم ملاحظة إيجابية نادرة خلصت إلى أنه "لم يفت الأوان بعد لإنقاذ الرأسمالية من نفسها".
لاريب أننا نواجه تحديات عالميةمن الهجرة إلى تغير المناخ وغيرها. هذه التحديات تتطلب تغييرا جذريا في مجتمعنا. قد يرى البعض أنه فات الأوان بالفعل لتجنب هذه الكارثة، ولكن مع السياسات الصحيحة يمكننا أن نأمل في احتواء الأضرار وتصحيح المسار. النقطة ليست في تحويل الولايات المتحدة إلى الدنمارك أو النرويج. يعرف ستيجليتز أنه لن ينجح هذا التوجه أبدًا.في هذا الكتاب، يشيرالكاتب أنه غالباً ما تكون الحلول الاقتصادية واضحة تمامًا. وما نحتاجه إلى استغلال فوائد الأسواق أثناء ترويض تجاوزاتها، والتأكد من أن الأسواق تعمل من أجلنا. إذا احتشد عدد كاف من المواطنين وراء أجندة التغيير المبينة في هذا الكتاب، فربما لم يفت الأوان لإنشاء رأسمالية تقدمية من شأنها إعادة بناء ازدهار مشترك.فهذا الكتاب تشخيص لمشاكلنا ولكن الأهم من ذلك أنه يقترح حلاً: الرأسمالية التقدمية. حل يتكيف مع أمريكا وثقافتها وتقاليدها.
----------------------------------------------------
تفاصيل الكتاب:
الكتاب:الناس،والسلطة،والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر السخط
المؤلف:جوزيفإيستيجليتز
الناشر:W. W. Norton & Company
سنة النشر: 2019
عدد الصفحات: 366
