الحاسة الثامنة

Picture1.jpg

تأليف: محمد شميم

عرض: فيلابوراتو عبد الكبير

هذا الكتاب رحلة فكرية شيقة ومفيدة على مطية كتب متنوعة المواضيع. يشرح الكاتب من خلالها كيف أن العشق للكتب ساعده على تشكيل حياته الفكرية وتصحيح وجهة نظره إلى الحياة. ولكن اللافت فيه أنه ليس بسيرة حياته بمعنى الكلمة. وخلال هذه الرحلة نلتقي عددا من الفلاسفة والأدباء كما نشاهد أفلاما عالمية ونعيش لحظات في فضاء تغمره إيقاعات موسيقى. يبحث الكاتب عن أجوبة لأسئلة تصدر من داخله خلال تجواله الفكري هذا واللقاء مع المفكرين. نقرأ فيه تحليلات دقيقة عن النظريات الأناركية والوجودية والعقلانية والماركسية والفلسفات الدينية، ويستعرض تاريخ المعارك الفكرية والعنصريةليغربل من بين تلك الأفكار الرؤية الإنسانية الخالصة.

كيف نقرأ الكتب ونتعامل معها؟ لماذا نقرأ الكتب؟ نجد في هذا الكتاب الإجابة لهذا السؤال. ويعترف الكاتب بأنه قد تكون لهذا السؤال إجابات أخرى. ولكن المهم هي الأسئلة. ويحكي رأي الفيلسوف سقراط الذي يؤكد على نسبية الإجابات لأي سؤال يُطرَح.

وفي أحد الفصول من الكتاب - نقلا عن الأديب الناقد في لغة "ملايالام" " أم. كريشنان ناير"- يضرب الكاتب مثلا للقراءة النموذجية. حين تزورون أحدا من أصدقائكم في بيته يقدم لكم كوبا من الشاي. ولكن بعض الناس يستغرق في الحديث مع المُضيف وهويتجاهل الشاي أو يتظاهر بعدم رغبته في الشاي. وإن يُذكِّره المضيف من حين لآخر بأن الشاي سيبرد لا يهتم به. وأخيرا قد يحتسي الشاي البارد. والبعض الآخر يشرب الشاي الساخن فورتناوله إياه فيحترق لسانه وشفته ويصبح عرضة للسخرية. والفئة الثالثة يرشفه قليلا قليلا باستمتاعه خلال محادثته مع صاحب البيت. والقراءة أيضا حالها مثل هذه الحالة في رأي "كريشنان ناير. يمكنك أن تتجاهل كتابا تاركا إياه لتبرد سخونته ومن ثم تقرأه في جلسة واحدة دون أن تفهم شيئا من مضمونه، كما يمكنك قراءته قراءة جادة بأخذ وقت كاف لتفهم مضمونه جيدا. وهذا الأخير من نوع القراءة هي القراءة المفيدة.

ماذا يقصد المؤلف بعنوان الكتاب "الحاسة الثامنة"؟ الحواس الخمس معروفة. وهي السمع والبصر واللمس والتذوق والشم. تلك أدوات يستعملها الإنسان للتفاعل مع ماحوله. وبما أن الإنسان ليس مخلوقا من عناصر مادية بحتة نفترض فوق هذه الحواس الخمس حاسة سادسة. يسميها الكاتب النفس. فما الحاسة السابعة والثامنة؟ نجد التفاصيل عنهما في الفصل الأخير من الكتاب بعنوان " التغلب على الشهوات". يرتئي الكاتب أن الحواس لا تقتصر في الستة بل تتجاوزها. وهي ما تَوصّل إليه من استنتاجه من قراءة بعض ملاحظات الإمام الغزالي. يقول إن أفكار الإمام الإصلاحية ناتجة من محاولته لدراسة نفس الإنسان في عمقها. وهذه الأفكار لا ترى شهوات الإنسان الجسدية سخيفةولا ذليلة. وهي نفس نظرة الإسلام. يعترف الإسلام بوجود العالم المادي ويحترم غرائز الإنسان الجسدية مع ما يتبنى من أفكار روحانية. ونظام أخلاق الإسلام لا يقوم على إعدام الشهوات النفسية بل يقوم على إصلاحها. إنما تنهار الأخلاق وتنهدم الحضارة في حينالحرمان من معرفة غرائز النفس الإنسانية حق معرفتها. الشهوات والغرائز قوى طبيعيةلتحقيق أهداف الحياة. لا يستطيع الإنسان إحراز التقدم بدونها. بنى الإنسان حضارته على قواعد غرائزه النفسية. نقرأ في علم النفس الجديد عن "الطاقة اللبية" (Libidinal energy). وهذا المصطلح قد استعمله الإمام الغزالي قبل قرون،وذلك في عبارة " القوة الشهوانية". فكرة الزهد مبنية على أساس أن الطريق إلى تغلب الشهوات إعدامها. وهي فكرة لا بقاء لها. ويشير إلى مثال لبطلان هذه الفكرة من قصة حياة الزاهد "فيبهاندهاكان" التي ورد ذكرها في ملحمة "ماها بهاراتا" الهندية. اعتقد "فيبهانداهاكا" أن ابنه "إريشيا شرينغان" نتيجة ذنب من جانبه؛ فاتخذ قرارابأن لا يتكرر هذا الخطأ من جانب ابنه فقام بترتيبات صارمة لتربيته داخل أعماق غابة بعيدا عن نون النسوان. ولكن العشق شق الطريق إلى صدر "اريشيا شرينغان" في صورة عاهرة اسمها "فيشالي". انهارت أمامها جميع الواقيات التي رتبها الوالد لحماية ابنه. اضطر "فيبهاندهاكان" لأن يقف واجما لمّا ارتحل "إريشيا شرينغان" الذي عرف المرأة والشهوة ممسكا بيد تلك المومسة. الفكرة المادية تنقل زمام الحياة إلى يد الشهوات بينما تحاول الروحانية البحتة استئصال تلك الشهوات. كلاهما مرفوضان في نظر القرآن؛ لأنهما يجعلان الإنسان منقبضا في داخله. الأول يفتح أبواب اللذات أمام الإنسان على مصاريعها بلا قيد ولا حد بينما الثاني يمنعه من جميع الالتزامات نحو مجتمعه. ويشير الكاتب إلى أن أبا البشر آدم لما أراد الله خلقه لم يتركه وحده في الجنة بل جعل له زوجة. عاش آدم في الجنة وهو يحس ريحة زوجته.

ويقسّم المؤلف حواسنا إلى حقلين: حقل الجسد وحقل الشعور. الجسد صورة والشعور فكرة. اللذة حاسة اللسان، والريحة حاسة الأنف، والصورة حاسة البصر، والصوت حاسة الأذن، واللمس حاسة البشرة، هذه الحواس الخمس هي التي تعد حواس الجسد. أما الحواس الثلاث المتبقية هي النفس والعقل والشعور. وفي عبارة أخرى الفكر والإحساسات والتجارب. وكمال المعرفة يقوم على قواعد هذه الحواس جميعا.

ويقول إنَّ الكتب هي التي تساعد على توسيع إطار الفطرة التي فطر الله عليها الناس؛ لأنها تجعل المنطق راسخ الجذور. والمنطق هو من قواعد الإيمان على حد قوله. ويؤكد بأنه يؤمن بالله لآن الكفر مستحيل. ولكن طفولته كانت بعيدة عن الوعي الديني حيث كان تعليمه محدودا داخل المدارس العامة الحكومية استثناءا من التقليد الرائج بين المسلمين بإلحاق أولادهم في المدارس الدينية ليتعلموا الدينيات في فترة صباحية قبل بدأ حصص الدروس في المدارس الحكومية، كان مولعا بالمطالعة في مرحلة دراسته الابتدائية. وفي مرحلة المراهقة استحوذت عليه الفكرة العقلانية الإلحادية نتيجة لطبيعة قراءته المعادية للدين. هي كانت مرحلة الشكوك. ولكن الشك كان بمثابة عتبة الإيمان. ويعترف بأن القراءة هي ذاتها وصّلته من شكوك البحار الزاخر إلى بر أمان الإيمان الهادئ. كانت هذه القراءة جزءا من بحثه عن وجوده. خلال هذا البحث مر على كتب فرانز كافكا وألبير كامو ودوستويسكي وجان بول سارتر التي تتناولالجانب الداخلّيَّ والوجوديَّ للنفس البشرية. لم يكن اهتمامه بالجانب الإبداعيلتلك الكتب بل كان بجانبها الفلسسفيِّ الوجوديِّ. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يشعر بوجوده. لذا، يرى سارتر أن "الأنا" له أهمية ذاتية. ليس للإنسان خلود. وهو ملعون لتجديد ذاته. نحن مثل الممثلينالمطروحين على خشبة المسرحية دون أن نعلم الحوار. سارتر يرى حرية الإنسان لعنة عليه. لا مناص له من مسؤولية أعماله. ولكن الإنسان الذي أحرز"التقدم" بعد انحطاط سلوكه إلى منزلة الخنازير يُحمِّل مسؤولية أخطائه على جده آدم.

أما كامو فكانت لحياته ثلاث مراحل؛ في المرحلة الأولى رأى الحياة عبثا ليس لها معنى. المبدأ الوحيد الذي له معنى ووجود حقيقيّ هو في نظره الموت.Stranger وOutsiderوغيرهما من كتبه خير دليل على ذلك. وفي المرحلة الثانية نراه ثائرا حين يعرف أن النظرية العبثية لا تُوصِّله إلى شيئ. التحدي الناتج من هذه الحالة يتحولدعوة إلى الاستمتاع بالحياة.وكتابه "طاعون" تنعكس فيه فكرة تتجه إلى قيم تعطي للحياة معنى. والمرحلة الثالثة من حياته هي العودة إلى ذاته. وفي نهاية هذه المراحل نراه يقفز فجأة إلى كنف الله تعالى. وقد قارن جوستين غاردر(JosteinGaarder) هذه المراحل في كتابه "عالم صوفي"(Sophie`s World) مع تجارب "راسكولينكوف" البطل في رواية "الجريمة والعقاب" لـ"دوسوفيسكي. وهنا يذهب الكاتب إلى ما ورد في القرآن من ثلاث مراحل للنفس الإنسانية – النفس الأمارة (بالسوء) والنفس اللوامة والنفس المطمئنة، ويقول إن كلمة النفس هنا تؤخذ بعنى كلمة Selfفي اللغة الإنجليزية مؤكِّدا بأن المصطلحات القرآنية مثل النفس والروح لا تطابق مغزى ما ورد من تلك الكلمات في الفلسفة المثالية(Idealistic Philosophy).

وفي رحلة الكاتب بحثا عن سر الوجود، تتناول أيضا قراءتُه كتبا صادرة في موسكو حول النظرية الماركسية مثل سلسلة أبجديات الاشتراكية وأبجديات المادية الجدلية وأبجديات الماركسية – اللينينية بالإضافة الى سيرة حياة كارل ماركس وأنجلز التي كتبها "أندريه ستيبانوف". بحيث أن المؤلف ابن "بروليتاريا" كان له ميول إلى الشيوعية في عنفوان شبابه. قرأ في هذه الفترة On ReligionوA Contribution to the Critique of Hegel’s philosophy of Rightsلماركس وAnti Dhuringلأنجلز وOn contradictionلماو تسي تونغ، ويقول إن نظرية ماركسدقيقة وواضحة، وإن من ميزة الماركسيةأنهااستطاعت تقييم الأديان وانتقادها مع الاعتراف بفضيلتها وأهمية دورها في التاريخ.

وفي مقال بعنوان "الثورة والتغيير" نجد تحليلات ملحوظة عن الفلسفة الفوضوية(Anarchism). وهي كلمة مشتقة من أصل يوناني Anarchia،anمعناه بدونوArchosمعناه قائد أو حاكم يعني حالة بدون قائد أو حاكم. الفوضويون هم المفكرون ضد النظام. فجميع المتمردين ورافضي التقاليد القائمة والخارجين على النظام فوضويون. وفي هذا المعنى يُعد فيهم الأنبياء والفلاسفة بما فيهم ماركس وتولسستوي وغاندي. كان هينري ديفيد تورو من مصدر استلهام غاندي. إنما تعرف تظريتهباسم "الفوضوية الهادئة" (Pacifist Anarchism).تورو كان المصدر لمبدأ غاندي اللانعف.كان تورو عضوا في حركة "الفلسفة المتعالية"(Transcendentalism) الرائجة في الولايات المتحدة الشرقية. وهم كانوا ممن يعتقدون بطيبة الإنسان والطبيعة الأصلية. ولو أن هذه الحركة تأثرت بالمبادئ الدينية كانت شديدة المعادية للأديان والأحزاب السياسية المؤسساتية. زعموا أن أمثال هذه المؤسسات تُلوّث براءة الإنسان الطبيعية. اعتقدوا أن الشخص ما دام حرا ومعتمدا على ذاته يكون ذا خلقكريم؛ لأن كل إنسان رباني في داخله. والحرية عنصر ُيوسّع هذا الجزء من الربانية. أما المؤسسات الدينية والسياسية فإنها تعرقل هذه الحرية. هنا تتخذ الفلسفة المتعالية موقفا لصالح مذهب الفردانية(Individualism)، ولكنها لا تتحول إلى مذهب فرداني ليبارالي يرفض القيم الدينية ذاتها. كان من أهم كتب تورو، أحد رواد حركة حماية البيئةوالمعادي الشديد للرق، كتاب "عن العصيان المدني". حركة المقاطعة البريطانية لغاندي تنتمي لهذا الكتاب. تورو كان مصدر استلهام لكل من مارتن لوثر كينغ وتولستوي. الأنبياء أيضا في نظر الكاتب ممن أنكرواالنظم القائمة والتقاليدالسائدة. يقول إنما فعلوا في الحقيقة أن رفضوا السلطة (Power) ووضعوا مكانها المسؤولية. وفي نظر الإسلام كل الناس مسؤولون.وعلى أساس رفض الأنبياء النظام القائم يسميهم الكاتبفوضويين؛ لأنه إلى حدما هونفس وجهة نظر الفوضويين. ولكن الأناركية الفردانية والإنقلاب الفوري بدون انضباط وإمارة غير مقبول لدى الأنبياء. وهم كانوا قائلي التغيير التدريجي. وينقل المؤلف هنا قول المسيح "إن مَثل مملكة الرب كبذور سمسم تنبت تدريجيا". والتغيير أيضا يتحقق تدريجيا مثل البذور.

ومن الكتب التي مر عليها خلال بحثه عن سر الوجود "الفلسفة الهندية" للكاتب اليساري "ديفي برساد تشاتوبادهيايا" و"الفلسفة الهندوسية" للفيلسوف الهندي الكبير ورئيس الدولة الأسبق أس. "رادهاكريشنان و"مذهب بوذا لـ د. أمبيدكار صاحب الدستور الهندي وقائد المنبوذين وغيرها من الكتب الفلسفية. وأخيرا يكتشف الإسلام من جديد من كتب المفكر اليوغوسلافي علي عزت بيغوفيتش والمفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي والعبقري الإيراني د. علي شريعتي. حين كان يرى المادية الجدلية نظرية سليمة يصل إليه كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" لـ بيغوفيتش. والفكرة الرئيسة التي قدمها بيغوفيتش في هذا الكتاب "قطبية الإسلام الثنائية"(Bipolarity of Islam).وهي قوة الإسلام لتوليف النقيضين. خصوصية الإسلام ترتكز على وسطيته وطبيعته الجدلية. ويقول وبما أن التناقض حقيقة فإن البصيرة عن العلائق الثنائية هذه في الإسلام إنما تشير إلى شمولية فلسفته. منذ سقراط، عالج الفلاسفة هذه الثنائية بطرق مختلفة. ونجد في الفلسفة مختلف الجدلياتمثل الجدلية السقراطية والجدلية الكارتيسية والجدلية الهيجيلية كما نجد الصور البدائية منها في رؤية كنفوسيوس ومواعيظ بوذا. المادية الجدلية لماركس هي الطبعة الحديثة منها. وقد قال بيغوفيتش إن نظرته إلى الإسلام ليست على أنه تعليمات دينية، بل على أنه رؤية عالمية. وفي رأيه هناك ثلاث وجهات نظر تجاه العالم – وجهة نظر مادية ووجهة نظر دينية رهبانية ووجهة نظر إسلامية. ويقدم بيغويتش الإنسان الناشئ من نظرية الارتقاء لداروين والإنسان الذي صوره الفنان مايكل انجلو على جدران كنيسة "سيستين" في الفاتيكان مثالين لهاتين النظرتين ويضع وسطهما الإسلام، وذلك أيضا مع استيعاب كل من داروين ومايكل انجلو. وفي كتاب آخر بعنوان "الإعلان الإسلامي"، أشار بيغوفيتش أن العقبتين الكبيرتين أمام إصلاح الإسلام هما الحداثيون المندهشون بالثقافة الغربية والعلماء التقليديين. الحداثيون رفضوا نظام قيم الدين كاملة. أما العلماء المحافظون فتركوا لب الدين متمسكين بقشره الأجوف.

ومن روائع الكتب التي غيرت بوصلة حياة المؤلف "تفهيم القرآن" و"الخلافة والملوكية" للأستاذ المودودي و" دين ضد الدين" و"مقالات في العلم الاجتماعي" للدكتور علي شريعتي. وقد قام مفصلا بتحليلات شيقة عن أفكار هذين العملاقين كما ألقى ضوءا على أفلام عالمية ذات علاقة بالكتب التي تمت مراجعتها، ولكن لا تسمح لذكرها المساحة. كما تقول شخصية في أحد أعمال جورج آر.آر: يعيش من يقرأ ألف حياة قبل موته، في حين يعيش من لايقرأ حياة واحدة فقط. تنطبق هذه المقولة على الكاتب أيضا. وهذا الكتاب يشهد باطلاعه الواسع على وافر من كتب متنوعة وأفلام عالمية.

--------------------------------

التفاصيل :

- الكتاب: الحاسة الثامنة

- المؤلف: محمد شميم

- الناشر: Pendulum Books نيلامبور، كيرالا، 2018، باللغةملايالام

- عدد الصفحات: 94 صفحة

 

أخبار ذات صلة