شمال إفريقيا في عهد الاستقلال.. وطأة الإمبريالية والقومية والسلطوية

41GwkkiqGZL.jpg

تأليف: كاترينا روجّيرو

عرض: عزالدين عناية| أكاديمي تونسي مقيم بإيطاليا

سواء تحدّثنا عن شمال إفريقيا أو عن المغربالكبير،في مُقابل المشرق العربي، فالبيّن أنّ تلكالمصطلحات متقاربةالدلالة وحاملة لمضامين جيوستراتيجية متداخلة. وإن يبدو مصطلح شمال إفريقيا،في الراهن الحالي،الأكثر تداولاً في السياسة العالمية، أثناء الحديث عن المنطقة الممتدّة من مصر مرورا بليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وإلى غاية بلاد شنقيط. فهذه المنطقة المترامية لا تتميز بتجانس تاريخي وسياسي وثقافي، سوى في حدود بلاد المغرب، حيث تبقى مصر كتلةمهمّة ذات خصوصيات حضارية متميزة تفصل بين المشرق والمغرب، كما تبقى في التاريخ الحديث دولة منغمسة في الشأنالمشرقي، من حيث الارتباط بوقائعه ومصائره وقضاياه منه ببلاد المغرب.

منذ مطلع كتابها تنتقد المؤلّفة كاترينا روجّيرو المقاربات الغربية عن تاريخ المنطقة. فقد تعمّدت المدرسة التاريخية الفرنسية، إبّان الحقبة الاستعمارية، ترسيخ جملة من الأحكام والمزاعم بشأن بلدان الغرب الإسلامي، عملت من خلالها على التهوين من كلّ ما هو عربي، في مسعى لاختلاق هوية مغاربية ملحَقة بفرنسا ومفرَغة من أبعادها الحضارية العميقة.وقد تطوّر ذلك التمشّي مع شارل أندري جوليان وهنري تِرّاس خصوصا. اختلق المؤرخان المذكوران ديناميكيات تاريخية لا أساس لها من الوجود، لتبرير سياق الاحتلال الأوروبي للبلدان المغاربية. وعلى سبيل الذكر تسلّطت على مقدم الهلاليين إلى بلاد المغرب، في القرن الحادي عشر الميلادي، اتهامات مجحفة وأحكام مغرضة، بشأن أثرهمالتخريبي في المنطقة، انجرّعنه تراجع حضاري فاجع في بلاد المغرب على حدّ المقاربة الاستعمارية. حاول المؤرّخ المغربي عبدالله العروي في مؤلّفه: "مجمل تاريخ المغرب" بيان تهافت تلك الأطروحة التاريخية، مبرزا أنها من اختلاقات القراءة الاستعمارية.

وتفسّر الكاتبة روجّيرو استمرار إرث المُستعمر الفرنسي في بلاد المغرب قويّا وفاعلا، لاهتزازحاصل في البنيةالحضارية في المنطقة. فقد كان تحويل المخزون الحضاري الإسلامي إلى ضرب من ضروب الفولكلور، وطمس الرصيد المؤسساتي التاريخي،حائلين دون قيام بديل حضاري ندّي لما خلّفه المستعمر. وتعود أسباب الوهن الحضاري في تلك الربوع، وتراجع عنصر التماسك الاجتماعي، وفق الكاتبة،إلى التفاوت الحضري الريفي الطاغي، وإلى شكلية التمدرس وفراغ العملية التربوية من مضامينها المعرفية والهوياتية.أفرزت تلك العوامل نوعاً من التشظي السياسي انجر عنه تأخّر اقتصادي، رغم ما تزخر به المنطقة من إمكانيات وقدرات.هذا وقد شكّل القبولوالرضوخ لسلطانالدولة العثمانية في ثلاثة بلدان مغاربية، ليبيا وتونس والجزائر، دليلاًوفق الكاتبة على وهن البنية السياسيةالمزمن في تلك البلدان. وربما كانت حالة المغرب الأقصى استثناء، لانبناء مؤسسةالحكم على عصبية شريفية، ضمنت ديمومة المؤسسة الحاكمة وتطوّرها.

انشغل الفصل الأول من الكتاب بأوضاع شمال إفريقيا زمن الإمبراطورية العثمانية، مرورا بأثر الحقبة الاستعمارية، وإلى غاية أطوار حرب التحرير التي شهدتها تلك البلدان، وما أسفرت عنه من بناء الدولة الوطنية. حاولت المؤلفة في هذا الفصل بيان ثقلِ القرون الأربعة التي مرّت بها المنطقة وعمقِ أثر تلك الفترة على البناء الاجتماعي والعقلية السائدة. متسائلةً في الأثناء إلى أيّ مدى يصحّ اعتبار خرائط دول مابعد الاستعمار في شمال إفريقيا خرائط معبّرة عن عمقواقع التكتلات الحضارية وتطلعاتها، أم هي مجرد تقسيمات أملتهاحاجة المستعمر، مما خلّففتورا في التماسك الاجتماعي؟ ومن جانب آخر حاولت المؤلّفة استعادةنضالات حركات التحرير في المنطقة، وما صاحب تضحياتها من وعود في بناء الدولة الحديثة. خصصت الكاتبةضمن ذلك العرض حيزًا مهمّا لحرب التحرير الجزائرية، مذكرة بأبعاد الثورة الجزائرية وعمق تأثيرها في مجالها الإفريقي والعالم الثالث عموماً، متسائلة إلى أي مدى حققت تلك الثورة أهدافها في الوقت الراهن؟

ودائما ضمن هذا الفصل، تشير الكاتبة إلى أنّالحضور العثماني في بلاد المغرب،وعلى خلاف مثيلهفي المشرق، لم يخلّفضغائن في المخيال الجماعي لشعوب المنطقة. فقد لعب الحسّالعروبي والقومي المتأجّج في المشرق دورًا مؤثّرا في ترسيخ الضغائنمنالدولة العثمانية والسياسات التركية، وهي ضغائن لا تزال حاضرة حتى الراهن في الموقف من تركيا الحديثة.

في الفصل الثاني حاولت المؤلفة تسليط الضوء على علاقات التواصل بين بلدان شمال إفريقيا والدول الأوروبية، سيما منها الدول ذات الماضي الاستعماري في المنطقة، مبرزةً عمق تأثير تلك المرحلةحتى التاريخ الحالي. فقد تنازعت المنطقة سياسات دولية متنوعة، سيما فترة الحرب الباردة، كانت بالغة الأثر على خياراتها الاقتصادية والإيديولوجية والتربوية والتعليمية. تتوقّف الباحثة عند نقطة مهمّة متعلّقة بالسياسة الخارجية لبلدان الشمال الإفريقي على مدى عقود، مبرزة ما تخلّلها من تضارب وسوء انسجام، وهو ما أثّر على أوضاعها الداخلية من حيث بناء لُحمة بين شعوب المنطقة سواء في مستوى اتحاد بلدان المغرب العربي، أو بشأن التطلع إلى خلق كيان اتحادي شمال إفريقي، منذ التقارب الكبير بين الناصرية والسلطة الاشتراكية في الجزائر إبان فترة الرئيس الهواري بومدين.

تخصّص الكاتبة حيزًا مهمّا ضمن الفصل الثالث من كتابها إلى موضوع السلطة والتسلّط عبر تاريخ المنطقة الحديث،متتبّعة أشكال اعتلاء السلطة في المنطقة مع مختلف الأنظمة،ومبرزة ما افتقرت إليه العملية من مراعاةللإرادات الشعبية. خلّفت تلك الممارسات آثارا سلبيةفيالقدرة على مراقبة العملية السياسية، ومجابهةتفشّي الفساد، بما ترتّب عنهإنهاك للدولة واستنزاف لقدراتها من قِبل المافيات المتحكمة بدواليب الاقتصاد. وتُعلّل الكاتبة أزمة الديمقراطية في المنطقة بموجب استحواذ طُغم عسكرية في الجزائر وليبيا ومصر والسودان على مقاليد السلطة، فكان أن تشكّلت أنظمة مستبطِنة للفشل،لم تقدرعلى مواصلة البناء الديمقراطي الحقيقي، جرّاء البيرقراطية المتغولة،التي حالت دون الاستغلال الصائب للمصادر الطبيعية لصالح الشعوب.

في الفصل الرابع من الكتاب تَركّزَ الاهتمام على فترة الثمانينياتمن القرن الماضي،برصد بوادر التحول نحو الديمقراطية، وبيان مختلف العراقيل التي حالت دون ذلك، سواء من الأنظمة الرافضة للتغيير أو بفعل الصراعات السياسية الطاحنة، الأمر الذي جرّ بعض البلدانإلى أوضاع تسلّطية مستجدّة.وتشير المؤلفة إلى تحكّم جملة من الأوهام بالعملية السياسية فيمنطقة الشمال الإفريقي في أعقاب الاستقلال. ففي ظلّ أوضاع شعوب منهكَة، خرجت لتوّهامن قبضة المستعمِر، استبدّ بمجمل الزعامات السياسية حينها، بدءا من عبدالناصر ومرورا ببورقيبة وبومدين، ثم أخيرا بالقذافي، هاجسُ الزعامةِ والقيادة للأمّة. تحوّل على إثرها فضاء بلدان شمال إفريقيا إلى حلبة لمغامراتالزعامات المتنافسة، دون أن توفق في خلق تكاتف بينها لبناء نهضة تنموية شاملة لشعوبها. لقد جرّ التطاحنالإيديولوجي والسياسي بين تلك الزعامات إلى توتّر بين دول المنطقة في عدة مناسبات، وإلى قطع العلاقات أحيانا، كما جرّ إلى شنّ حروب، وأبرز مظاهر تلك الانقسامات توزّع المنطقة بين معسكرين غربي رأسمالي وشرقي اشتراكي طيلة الحرب الباردة.

تُخصّصُ الكاتبة الفصل الخامس والأخير من الكتاب إلى تداعيات الربيع العربي على المنطقة. حيث تلحظ ترافُقَ مطالب التغيير الملحّة مع أوضاع أمنية هشّة استندتإلىمؤسسات مهترئة،ما حوّل المطالب الديمقراطية المشروعة إلى تهديد فعلي لكيان الدولة،فحصلت انهيارات فجئية كما هو الحال في ليبيا لا تزال آثارها تهدّد المنطقة برمّتها. ملمح آخر تُسلِّط عليه الكاتبة الضوء، وهو أنّ أوروبا المجاورة للشمال الإفريقي لم تعضد الديمقراطيات الناشئة، ولم تراهن عليها، واعتمدت في علاقاتها مع الأنظمة الجديدة معاييرالمصلحة الآنية. الأمر الذي جعل الديمقراطيات الناشئة، كما هو الحال في تونس، تجابهصعوباتجمّة في شقّ طريق التنمية بفعل الأوضاع الاقتصادية الرثّة وبفعل المديونية المرهقة لبلدان أفقرتها مافيات الأنظمةالتسلّطية. تبدو الديمقراطية الناشئة في تونس متروكة لحالها دون سند يُذكَرمن الغرب المتفرّج، ذلك ما تخلص إليه الكاتبة بشأن السياسة المغاربية الأوروبية.

وتذهب الكاتبة إلى أنّ موجة الربيع العربي، بين 2011 و2013، لم تفلح في الخروج بالمنطقة من أزماتها الهيكلية المزمنة منذ حقبة ما بعد الاستقلال، بل زادت الأمر تفاقمًا. لذلك تبدو بلدان شمال إفريقيا في العام 2019 في منتهى الهشاشة السياسية والاجتماعية، ومنقسمة بين تجاذبين: شقٌّ عوّلعلى الاستثمارفي الديمقراطية، وإن كان ضمن مصاعب جمة اقتصادية واجتماعية؛ وشقٌّ ارتدّ في الممارسة السياسة والاجتماعية إلى ما قبل وعود الربيع العربي. وفي ظلّ تلك الأوضاع المتداخلة المخيّمة بظلالها على المنطقة، تلوح أحلام الاتحادات والتكتلات المغاربية والعربية بعيدة المنال. فالدول الحالية مشغولة بلملمة أحوالها أكثر منها معنية بخطط مستقبلية لصالح شعوب المنطقة، مع أنّ عناصر قويّة متوفّرة للتعاون الاقتصادي والاجتماعي بين دول المغرب الكبير خصوصًا، كان بالإمكان أن تبنى على أساسها شراكة مصلحية، ودون الانشغال بالقضايا الجانبية، لكن يبدو كما تلاحظ الباحثة أنّ التجمعات الكبرى تمثّل مشكلة كبرى أحيانًا،لِما تتنازعها من تناقضات داخلية وارتباطات خارجية تحول دون تحقيق مراد شعوبها.

من جانب آخر تتطرّق الكاتبة إلى مخاضات الديمقراطية في المنطقة، عبر تتبّع أسباب نجاح التحوّل الديمقراطي في تونس وتعثّر العملية في بلدان أخرى مجاورة، من خلال مقارنات دقيقة بين مجتمعاتشمال إفريقيا،معلّلةنجاح العملية في تونس بعنصر أساسي متمثّل في اتساع الطبقة المتعلّمة قياسا بدول أخرى، وهو ما يَسّر اختزان وعي حضاري فاق رصيده ما عليهالدول المجاورة. كما أبرزت الكاتبة أنّ مفهوم الدولة المؤسساتية هو مفهوم مترسّخ في الوعي المواطني التونسي، وهو ما حال دون انزلاق البلد إلى الفوضى. فقد بقيت المؤسسات العمومية والمصالح الإدارية ومرافق الخدمة العمومية، طيلة فترة الثورة، تؤدّي مهامها ولم تتعطّل مصالح الناس حتى أثناء انهيار نظام بن علي. جانب آخر أبرزت الكاتبة أهميته، وهو ما لم يتوفر في المجتمعات المجاورة، يتمثّلفي المساواة الفعلية للمرأة مع الرجل، وهو ما جعل مشاركتها في عمليات التغيير التي خاضتها البلاد مؤثرة.

وفي تناول الكاتبة لمسألة الإسلام السياسي في منطقة شمال إفريقيا، حاولت الخروج من حالة التعميم التي تطغى على تناول الموضوع، خالصة إلىأنّالإسلام السياسي في مصر قد بقي رهين نظرة الستينيات للمجتمع، حيث لم تحدث تحولات عميقة داخله، تُمكّنه من التعايش مع التيارات العلمانية، اليسارية منها والليبرالية، أو تعيد صياغة نظرته للمجتمع، لتدنّي المكون الفكري والحسّ النقدي داخل أطره القيادية والتنظيمية. بخلاف ذلك شهد الإسلام السياسي في تونس والجزائر والمغرب تطورا وتغيرا، جعله أكثر قدرة على التنسيق والمناورة وأحيانا التحالف مع التيارات العلمانية. يسّر ذلك المنزع البراغماتي للإسلام السياسي المغاربي التعايشَ مع التحولات وجنّب الاصطدامبالسلطة. معتبرة الكاتبة نجاح الإسلام السياسي في المغرب مع "حزب العدالة والتنمية"، في قيادة الحكومة في عدة مناسبات، فضلا عن تجربة الوفاق الناجحة في تونس بين الأحزاب العلمانية وحزب"حركة النهضة" الإسلامي من النجاحات التي تحسب للإسلام السياسي المغاربي.

تقرّ المؤلّفة أنّ أبرز العوائق التي جابههاالبحثتتلخّص في العجز عن الاطلاع على المصادر المتعلّقة بشمال إفريقيا في شتى المجالات. وهو نقصٌ عائد في الواقع إلى عجز لغوي، يتمثّل أساسا في ندرة الملمّين بالعربية والمقتدِرين على قراءة نصوصها أو فهم خطاباتها من قِبل جيل المستشرقين والباحثين الإيطاليين الجدد المتابعين لأوضاع البلاد العربية. ثمة ثغرة في الكتابات الإيطالية عن العالم العربي ناتجة عن عدم الغوص المباشر في الواقع العربي، والكتابة عنه بالاعتماد على ما دُوّن في الكتابات الغربية. لذا يبقى المقول الإيطالي المدوَّن عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد العربية الراهنة، من زاوية علمية،مقولا منقوصا. فالتحليل العلمي للوقائع يُفتَرَض أن يستند إلى كمّ مباشر من المعلومات، وهو غالبا ما لا يتسنّى للباحث الإيطالي.

ضمن حوصلة عامة، تنتهي الكاتبة إلى أن منطقة شمال إفريقيا هي محط أنظار القوىالكبرى، سواء في الماضي أم في الحاضر، بفعل القرب من أوروبا وبفعل الدور الهام لتلك الدول في التواصل مع عالم الجنوب. كما أنّ تلك المنطقة تشكّل تكتلا سكانيا معتبَرا يطلّ على المتوسط بما يجعل الاستقرار أمرًا حيويًّا في ضفة المتوسط الجنوبية. صحيح تسود أجواء ديمقراطية شمال المتوسّط، غير أنّ الأنظمةالأوروبية لم تسع يوما إلى تصدير نماذجها السياسية للضفة الجنوبية، وإن انتقدت أساليب الحكم التعسفية والتسلطية التي مورِست أو تمارَس في المنطقة، فإنّ ذلك يأتي ضمن مواقف ظرفية وليس ضمن استراتيجيات ثابتة.

نبذة عن المؤلّفة: كاترينا روجّيرو باحثة جامعية إيطالية متخصّصة في التاريخ السياسي لشمال إفريقيا في جامعة الدراسات بميلانو (إيطاليا). سبق وأن نشرت مجموعة من المؤلفات منها: "الجزائر والمغرب الكبير" (2012)، "تاريخ الجزائر بعد الاستقلال.. من حرب التحرير إلى بوتفليقة" (2018).

-----------------------------------------------------------

تفاصيل الكتاب

الكتاب:شمال إفريقيا في عهد الاستقلال.. وطأة الإمبريالية والقومية والسلطوية.

تأليف: كاترينا روجّيرو.

الناشر: منشورات جونتي (فلورنسه-إيطاليا) "باللغة الإيطالية".

سنة النشر: 2019.

عدد الصفحات: 480ص.

أخبار ذات صلة