عودة السياسة التي لن يتم تسميتها: مبادئ السياسة الصناعية

Picture1.jpg

تأليف: رضا شريف وفؤاد حسنوف

عرض: محمد السالمي

لطالما شكَّل النمو الاقتصادي أبرز المواضيع المطروحة لصُنَّاع القرار والأكاديميين بشكل عام. فعلى مدار نصف قرن من الزمان الماضي، سلكت الاقتصادات النامية مسارات مختلفة تمامًا، دون أن ننسى المعجزات الآسيوية مثل هونج كونج (الصين) وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وتايوان، والتي غالبا ما يسلط عليها الضوء على نجاح تخطيطها الاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك، فإن نجاح المعجزات الآسيوية في السياسة الصناعية يُمثل قصة غير مريحة يتجاهلها الكثيرون أو يدعون أنه لا يمكن تكرارها باستخدام النظريات والأدلة التجريبية. وبالمثل، يدعو العديد من الاقتصاديين وواضعي السياسات إلى مزيج متعدد من حيث طرحسياسة تدعم النمو وتشمل الانفتاح على التجارة وسهولة ممارسة الأعمال التجارية والبنية التحتية والمؤسسات الجيدة والاستقرار الكلي والتعليم الجيد وتراكم رأس المال.

يُجادل المؤلفان رضا شريف وفؤاد حسنوف - الخبيران لدى صندوق النقد الدولي- أنَّ مسارات تطوير المعجزات الآسيوية وكذلك اليابان وألمانيا والولايات المتحدة من قبلها، توفر لنا أدلة مهمة لنجاحها. نحن ندعي أن وصفات سياسة النمو القياسية ليست كافية، بينما نجد قواسم مشتركة قوية في السياسات التي تتبعها المعجزات الآسيوية، ولا يمكن للمرء أن يتجاهل الدور البارز للسياسة الصناعية في تنميتها. والدليل على ذلكأنهم لم ينجحوا في اللحاق بالعالم المتقدم فحسب، وإنما أدى النموذج الاقتصادي للمعجزات الآسيوية إلى تقليص الفجوةفي مستوى الدخل مع معظم البلدان المتقدمة أيضا. وفي المقابل، لا يتطرق الكاتبان إلى سياسات الصين على الرغم من وجود العديد من أوجه التشابه مع السياسات التي تتبعها المعجزات الآسيوية لأن الصين لم تحقق بعد وضع الدخل المرتفع بعد.

يُركز المؤلفان كثيرا على سياسة التكنولوجيا والابتكار كونها "سياسة صناعية حقيقية"؛ حيث إنَّ الأمر كله يتعلق بمكاسب الإنتاجية من الابتكار وتطوير الصادرات. إن التفسير النظري لعدم وجود نمو مستدام، خاصة في "مصيدة الدخل المتوسط"، يتعلق بتباطؤ الإنتاجية كون أن المكاسب من العمالة منخفضة التكلفة وتقليد التكنولوجيا الأجنبية تتناقص عند الانتقال عبر مراحل التنمية. ونظرًا لأن بلد ذوي الدخل المنخفض قد يصبح بلدًا متوسط الدخل، فإنه يحتاج إلى العثور على مصادر جديدة للنمو لأن فوائد العمالة منخفضة التكلفة ومكاسب الإنتاجية من إعادة تخصيص القطاع من الزراعة إلى التصنيع وتبني التكنولوجيا الأجنبية السهلة، وارتفاع الأجور، وتآكل القدرة التنافسية قد يدخل الدولة في دوامة ركود مستقبلا في حال استمرار الوضع على ما هو عليه. للحفاظ على النمو، يحتاج أي بلد إلى تقديم سلع جديدة باستمرار واعتماد وتطوير تكنولوجيات جديدة. إن تقديم سلع جديدة باستمرار بدلاً من التعلم فقط على مجموعة ثابتة من السلع هو ما يلزم لتحقيق مكاسب إنتاجية ونمو مستدام، ورفع في مستوى الدخل.

وتُشير الدراسة إلى أن "سياسة التكنولوجيا والابتكار" قد ساعدت المعجزات الآسيوية على تحقيق نمو مستمر؛ وذلك بفضل تأثيرها على تطور الصادرات والابتكار. واستنادًا إلى تجاربهما، يحاول الكاتبان الكشف عن العناصر التي شكلت جوهرها الرئيسي. يُمكن للمرء أن يستشهد بالعديد من الأمثلة من الخطب والقرارات السياسة. ومع ذلك، فإن القرارات الملموسة التي اتخذت في ذلك الوقت من قبل الدولة (أو القطاع الخاص بتشجيع أو بإكراهمن الدولة) تُظهر بوضوح كيف كانت كوريا في أوائل سبعينيات القرن العشرين جادة بشأن هذه الأهداف. تم ترجمة الأهداف السياسية الطموحة للحاق بالركب مباشرة إلى أهداف دقيقة لتطوير صناعات مختارة، وبمبادئها الثلاثية الطموح والمساءلة والقدرة على التكيف. ويمكن تلخيص استراتيجية السياسة الصناعية وتدخل الدولة في المعجزات الآسيوية على النحو التالي:

أولاً: التدخل لخلق قدرات جديدة في الصناعات المتطورة من حيث اتباع سياسات لتوجيه عوامل الإنتاج إلى صناعات تجارية قابلة للتطور التكنولوجي تتجاوز القدرات الحالية.

ثانيا: التركيز على التصدير حيث من المتوقع أن يتم تصدير أي منتج صناعي جديد فورًا؛ فحتى مع تغير الظروف، تكيفت كل من الدولة والشركات بسرعة. ثالثاً المنافسة الحادة في الداخل والخارج والمساءلة الصارمة؛ حيث لم يقدم أي دعم دون قيد أو شرط على الرغم من أن تقييم الأداء لم يكن بالضرورة يعتمد على أرباح قصيرة الأجل. بينما قد تحصل صناعات معينة على الدعم، فإن المنافسة الشديدة بين الشركات المحلية شجعت بشدة في الأسواق المحلية والدولية.

وعلى الرغم من أن أدب النمو النظري والتجريبي لم يجد بعد الوصفة السحرية للتنمية الاقتصادية، فإنَّ مكاسب الإنتاجية المستمرة هي مفتاح اللحاق بالنمو المرتفع. إن الانتقال من إستراتيجية نمو قائمة على الاستثمار إلى إستراتيجية قائمة على الابتكار، واعتماد وتطوير تكنولوجيات جديدة، وإدخال منتجات جديدة، وتشجيع المنافسة وتقليل سوء تخصيص الموارد، وتحسين قدرات التعليم والبحث، وزيادة تطور الإنتاج والتصدير، هي مسارات محددة لتحفيز المكاسب الإنتاجية. كل ما هو مطلوب إذن هو تصميم سياسات ذات الصلة وتنفيذها. ومع ذلك، كما يبين تاريخ نصف القرن الماضي أن حفنة من الدول فقط هي التي استوعبت أو وصلت لتقارع العالم المتقدم. التفسير النموذجي هو أن العديد من البلدان النامية لم تتبع نصائح سياسية حول النمو. أولاً: ما هي سياسة النمو الصحيحة؟ ثانياً: هل فشلت الدول في تنفيذ هذه السياسة، أم أن هناك عقبة كبيرة أخرى في منع البلدان النامية من اللحاق بالعالم المتقدم؟ نُؤكد أن هناك عنصرًا مفقودًا في العديد من مناقشات سياسة النمو. هذا العنصر المفقود هو معالجة "فشل السوق".

لا تُعاني دول مجلس التعاون الخليجي المصدرة للنفط من إخفاقات حكومية كبيرة، ومع ذلك فهي تفتقر إلى حد كبير في القطاع غير التجاري للنفط. فقد حققت دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة الإمارات العربية المتحدة، درجات عالية في مقاييس جودة البنية الأساسية وبيئة الأعمال. وبالمقارنة، فإن أداء الدول المصدرة للنفط مثل إندونيسيا والمكسيك، والتي تأخرت في تنظيم المؤشرات التجارية، كانت أفضل في تطوير المنتجات غير النفطية وتعزيز تطور الصادرات.

إنَّ الحجة القائلة بأنَّ إخفاقات السوق تحول دون تطوير القطاع الغير النفطي القابل للتداول في الدول مجلس التعاون الخليجي تتضح أكثر من خلال الأنشطة التجارية للشركات الكبرى. هذه الأنشطة هي في الغالب في قطاع غير قابل للتداول مثل البناء والخدمات بما في ذلك التمويل والسياحة (معظم الأنشطة في هذه القطاعات غير قابلة للتداول). تتمتع التكتلات بإمكانية الوصول إلى الأرض والتمويل والبيروقراطية الحكومية والأسواق العالمية والقدرة على استيراد المهارات إذا لزم الأمر. لا ينبغي أن يكون لمعظم أشكال إخفاقات الحكومة وبعض أشكال إخفاقات السوق مثل فشل التنسيق تأثير كبير على عمليات هذه الشركات.يتطلب وجود إخفاقات السوق تدخل الدولة لتصحيحها على الرغم من أن الكثيرين قد يجادلون بأن تدخل الدولة سيجعل الأمور أسوأ. إن التدخل لتصحيح إخفاقات السوق من شأنه أن يسمح للاقتصاد بالوصول إلى نتيجة متفوقة اقتصاديا. في الوقت نفسه، حتى في حالة وجود إخفاقات في السوق، فإن فوائد تدخل الدولة يمكن أن يغطي على تكاليف التدخل.

كان أحد المكونات الرئيسية لسياسات المعجزات الآسيوية هو اندفاعها نحو القطاعات المتطورة تكنولوجياً، والتي كانت قطاعات تتجاوز ميزتها التنافسية في ذلك الوقت. يجادل الكثيرون بأن هذا يتعارض مع النظرية الاقتصادية موضحين السبب في أنه محكوم عليه بالفشل بشكل عام؛ حيث تفسر النظرية الاقتصادية أوهلاين (Heckscher-Ohlin)، حقيقة أنه لتطوير صناعات جديدة، يحتاج البلد إلى تجميع رأس المال والمعرفة في الصناعة. بمعنى آخر، يفترض أن التكنولوجيا متاحة مجانًا لكل بلد. إن العائق الوحيد أمام الاقتصادات النامية الأكثر فقراً، مثل الطائرات أو الروبوتات أو الأقمار الصناعية، هو نسبة رأس المال إلى العمل. أهمية الخبرة في عملية الحصول على التكنولوجيا، وحقيقة أن تراكم رأس المال بشكل عام لا يعني بالضرورة تطوير صناعات جديدة. وبعبارة أخرى، فإن النظريةتتجاهل العوامل الخارجية مثل التعلم بالممارسة أو العوامل الخارجية مثل (زيادة العائدات إلى الحجم) النابعة من التكتل.

كما ذكرنا سابقًا، كان التوجه نحو التصدير عنصرًا أساسيًا في السياسات الصناعية للمعجزات الآسيوية. لقد مثل هذا خروجًا كبيرًا عن سياسات استبدال الواردات المعتمدة في معظم الاقتصادات النامية في الستينيات والثمانينيات.

وفي الاقتصاد النامي النموذجي، كانت التعريفات والحواجز الأخرى أمام دخول الواردات تهدف للحد من المنافسة في السوق المحلي، وفي بعض الحالات احتكار عام، وليس هناك حافز محدد للتصدير أو التنافس في الأسواق الدولية. يمكن أن يؤدي هذا النموذج إلى بعض النجاحات بمعنى أن الإنتاج سيزيد، وسوف تتحسن القدرات. وهذا يتفق مع الأدلة التي ظهرت في السبعينيات والثمانينيات. ومع ذلك، مع مرور الوقت، فإن الافتقار للمنافسة يعني القليل من الاستثمار في البحث والتطوير والابتكار والاعتماد شبه الكلي على السلع الوسيطة المستوردة، خاصة التكنولوجيات عالية الأهمية. حتى إذا كانت هذه الشركات تدار بشكل جيد ولم يتم الاستيلاء عليها من قبل أفراد دون المستوى، فإنها تعتمد دائمًا على أنواع مختلفة من الحماية من المنافسة الدولية والمحلية وعلى الإعانات. في هذا السياق، ستكون الشركات المحلية معرضة بشكل كبير لمزيج من تخفيض قيمة العملة ورفع التعريفات لأنها ستشهد زيادة تكلفة مدخلاتها دون تحسن في قدرتها التنافسية في غياب الصادرات. على الرغم من أن اقتصاديات الكتب المدرسية تتوقع حدوث انتعاش في الصادرات بعد انخفاض القيمة، في الواقع، لا يمكن للشركات بدء التصدير بين عشية وضحاها. عندما يتم رفع هذه الحماية والدعم في نهاية المطاف، عادة في مرحلة التوحيد المالي أو الأزمة، يصبح نموذج التصنيع لاستبدال الواردات فجأة غير مستدام والسياسة الصناعية محكوما عليها في نهاية المطاف لتكون تجربة فاشلة.

نُجادل بأن نجاح المعجزات الآسيوية لم يكن مسألة حظ بل نتيجة تخطيط وروية عامة. على الرغم من عدم تعرضها للصدمات السلبية الحادة أو امتلاك بعض الخصائص الجوهرية للنجاح، إلا أن نموها المطرد كان نتيجة تنفيذ سياسة طموحة للتكنولوجيا والابتكار على مدار عقود حافظت على التكيف مع الظروف المتغيرة والانتقال إلى المستوى التالي من التطور. حددت الدولة أهدافًا طموحة، وتمكنت من التكيف بسرعة، وفرضت المساءلة عند دعمها للصناعات والشركات. نقول إنه أولاً: كانت "سياسة التكنولوجيا والابتكار" تعتمد على تدخل الدولة لتسهيل انتقال الشركات المحلية إلى قطاعات متطورة تتجاوز الميزة النسبية الحالية. ثانياً: لعب التوجه نحو التصدير منذ البداية دورًا رئيسيًّا في الحفاظ على الضغوط التنافسية ودفع الشركات إلى الابتكار. تتناقض هذه الإستراتيجية مع إستراتيجيات تصنيع بدائل الاستيراد، والتي كانت سائدة حتى أواخر الثمانينيات بين الاقتصادات النامية، والتي أدت لعدم الكفاءة ونقص الابتكار والاعتماد المستمر على المدخلات الرئيسية المستوردة. وأخيرًا، تم فرض نظام السوق والمساءلة بطريقة صارمة.

ويفسر الكاتبان أنه لرفع درجات النجاح للاقتصادات فإنه يجب أن توافق مستويات الطموح مع السياسات المتبعة في الإجراء. فكلما أنتجت الشركات المحلية تكنولوجيا متقدمة، زادت فرص الحفاظ على نمو مرتفع. لتطبيق مبادئ سياسة التكنولوجيا والابتكار، يرى الكاتبان أن الدول تحتاج إلى تحديد الاستراتيجيات التي يمكن أن تستخدمها وفقًا لظروفها الخاصة. ويستلزم ذلك معالجة أسئلة مثل القطاعات المحددة التي يجب التركيز عليها، ونوع المؤسسات التي يجب إنشاؤها، وأنواع المهارات والبنية التحتية التي يجب اكتسابها.

 

-------------------------

تفاصيل الكتاب

- الكتاب: عودة السياسة التي لن يتم تسميتها: مبادئ السياسة الصناعية.

- المؤلفان:رضا شريف وفؤاد حسنوف.

- الناشر: صندوق النقد الدوليIMF، بالإنجليزية، 2019.

- عدد الصفحات: 79 صفحة.

أخبار ذات صلة