تأليف: أندريه غريشنوف
عرض: فيكتوريا زاريتوفسكايا| أكاديمية ومستعربة روسية
يُصَادف يوم الخامس عشر من شهر فبراير من كلِّ عام الذكرى الثلاثين لانسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان؛ وكالعادة لا تمرُّ هذه الذكرى مرور الكرام دون أن تُوقظ جملة من الأسئلة والمحاور التي تدور حول حقيقة قرار الانسحاب، وهل جاء لغرض ما أطلق عليه حينها "الوحدة الواحدة" للقوات الوطنية المسلحة، أو أن الأمر يتعلق بالانسحاب من حرب اتسع نطاقها في ذلك البلد الآسيوي الوعر، وفرمت رحاها مجاميع بشرية هائلة من القوات الروسيةومن معها من قوات الجمهوريات السوفييتية؟ فهل كانت الضرورة مُلحَّة لقرار الانسحاب التاريخي عام 1989، أم أن الوجود الروسي (السوفييتي) كان محتملا وقادرا على الصمود فترة أطول بكثير؟ وعادة ما تتمخض عن هذه الأسئلة وغيرها إصدارات جديدة تحاول أن تأتي بالأجوبة أو تستخلص النتائج في الموضوع الأفغاني.
ومن بين الأعمال التي صدرت هذا العام، كتاب يتمتع بخلفية سياسية، وينطلق من تجربة ميدانية طويلة، وينم عن عقلية تحيط بالموضوع الأفغاني من مختلف أوجهه وأبعاده؛ فمؤلفه أندريه غريشنوف هو صحفي ورئيس مكتب وكالة الأنباء الروسية "ريانوفوستي" في كابول لنحو ثلاثة عشر عاما، شهد فيها فصولا طويلة من الأحداث الجسام التي مزقت هذا البلد، كما تابع عن كثب صعود حركة طالبان واقتحامها العاصمة، وأجرى مقابلات مع الكثير من زعماء الحركة، واقتنص بعين كاميرته صورا للجنود الأمريكان تسجل طبيعة وجودهم العنيف وتوثق لتصرفاتهم في القرى الأفغانية. وقد حصر الكاتب مؤلفه على الفترة الزمنية التي تلت مغادرة القوات السوفييتية لأفغانستان، وهو ما يشير إليه عنوان الكتاب "ما بعدنا"؛ لذلك فإنَّ النظرة التي يسقطها الكاتب على الأحداث مازالت حديثة وتنسحب على الواقع الأفغاني في وقتنا الراهن.
وفي حديثه عن قضايا أفغانستان الراهنة، يرى المؤلف أنَّ من واجبه التذكير بما بناه الاتحاد السوفييتي هناك، وما خلفه بعد انسحابه ليستفيد منه البلد وأهله. من بين ما يذكره في هذا الشأن: البنايات المقاومة للزلازل والمكونة من أربعة طوابق؛ حيث أقيمت تحت إشراف خبراء سوفييت، هذه المباني مازالت قائمة وآمنة في سفوح الجبال. هناك أيضا المسح الجيولوجي للأراضي الأفغانية ونظام الإصلاح الزراعي الذي تبنته السلطات الأفغانية الموالية للاتحاد السوفييتي والحزب الشعبي الديمقراطي الأفغاني، والذي كان فحواه مصادرة الأرض من الأثرياء وتوزيعها على الفقراء وإنشاء التعاونيات الزراعية، ولكن المؤلف يستدرك سرده بالقول: "إلا أن ذلك الإصلاح واجه تحديا حقيقيا حيث شن عليه المجاهدون حملة دعائية أذاعوها بين الفلاحين مفادها أن الكفار ينتهكون التقاليد المتوارثة للمجتمع الأفغاني، وأن الأرض لا يمكن تملكها إلا بالوراثة أو الشراء، ثم قاموا بترهيب وقتل الفلاحين المتعاونين مع السلطات وحرق الآلات والجرارات التي حصلوا عليها من التعاونيات. وعندما وصلوا إلى سدة الحكم، لم يستطع هؤلاء الذين يتخذون من الدين سلطة شرعية لهم أن يمنحوا الشعب شيئا يعوّضهم عما كانوا يحصلون عليه في السابق، فبدأت السلطة الجديدة في ملء جيوبها بمال المخدرات وشرعوا ببناء البيوت الفاخرة واقتناء السيارات الرياضية ومراكمة الثروات الخاصة (...)، ويجدر بالذكر أن القائد الأفغاني خديداد، الذي قاتل جنباً إلى جنب مع الجنود السوفييت ضد المجاهدين، أعاد إحياء الحركة التعاونية في ولاية بغلان وقام بالإشراف عليها فكانت النتيجة أن أحرز الفلاحون حصادا قياسيا في منطقتهم (...) نستنتج من ذلك أنَّ الأفغان الذين لا يزالون يعيشون في القرن الرابع عشر حسب التقويم الإسلامي ليسوا بحاجة للديمقراطية الغربية، وإنما إلى الخبز والسلام في بلدهم الذي طالت معاناته" (ص:170-171).
علاوة على استنتاجاته، يسوق الصحفي شهادات جمعها من مواطنين أفغان عاديين أو غيرهم من الموظفين من ذوي الرتب العالية؛ فها هو عقيد يشغل وظيفة رئيس مركز شرطة في إحدى مقاطعات كابول يتحدث واصفا الوضع بقوله: "في ظل حكم الشيوعيين كان الحال أفضل بصورة لا تقارن عما هو الآن. كانت هنالك أوامر تأتينا لتنفيذها، وكان ثمة عمل للجميع، والأمن مستتب. ولا وجود لأي شيء من هذا اليوم. لقد كان للحياة معنى في زمن السوفييت". ويدعم الكاتب رأيه باستطلاع للرأي أجري في كابول أثبت أن غالبية السكان يتوقون للعيش في ظل النظام الشيوعي الذي أطاح به المجاهدون.
وبالمقابل، يلفت المؤلف الانتباه إلى حقيقة أنَّ المستوى التفاعلي الراهن بين الجمهورية الإسلامية وروسيا دون المستوى المأمول؛ وذلك على الرغم من المصالح المشتركة بينهما والمسائل الحاسمة التي تتطلب تقاسم الجهد بين الطرفين. ويُشير إلى أنه، وبالمقارنة مع الاتحاد السوفييتي، لا تستطيع روسيا اليوم تنفيذ إستراتيجية شاملة في علاقاتها مع أفغانستان، وعلاوة على ذلك، فإن روسيا الحديثة تفقد مراكز نفوذها في هذا البلد الذي كان رقما صعبا ومحوريا في فضاء الاتحاد السوفييتي.
ويسوق الكاتب أمثلة للتدليل على الفرص الضائعة لروسيا للاستثمار في أفغانستان، وافتقادها المبادرة لترسيخ مصالحها في هذا البلد الذي كان في الأمس القريب ضمن نطاقها الجيوسياسي، ومن بين تلك الأمثلة يقول: "في العام 1973-1974 قامت بعثة جيولوجية سوفييتية بالتنقيب في منطقة لوغار وأعدت صورا جيوفيزيائية لمنجم "أيناك" الذي يحتوي على احتياطيات من النحاس تزيد على 11 مليون طن. ولكن تم توقيف عمل البعثة بسبب ثورة أبريل التي اشتعلت في أفغانستان، وصادف أن يقع المنجم المذكور ضمن المناطق المشتعلة، فنقلت جميع الوثائق الفنية المتعلقة بعمليات التنقيب إلى الجانب الأفغاني (...) وهكذا أصبحت رشوة صغيرة لحارس الوثائق كفيلة بتسريب معلومات تقدر بالمليارات، وهذا ما حدث؛ حيث قام البريطانيون والصينيون، وبأقل الجهود والأسعار بالاستيلاء على وثائق الاكتشاف الجيولوجي الموّقع بأسماء علماء سوفييت، بعدئذ، ومن دون قراءة الخطط الأفغانية لاستثمار المنجم الضخم، أو انتظار ما ستسفر عنه المناقصة الحكومية لاستخراج النحاس من الموقع، استبقوا كل شيء، بما فيه الواقع السياسي في أفغانستان، وباشروا في تحسين العلاقات مع زعيم الحكومة المعارضة في الحزب الإسلامي الأفغاني التي كان عناصرها ينشطون في منطقة لوغار. ووفقًا لمصادر موثوق بها، بدأت وفود الحكومة المعارضة بزيارة بكين بشكل متكرر حيث أجرت مباحثات سرية مع السلطات الصينية بشأن إمكانية ضمان وسائل الأمن في الموقع وما حوله (...) وعلى عكس الصينيين "الحكيمين" اعتمد الروس مرة أخرى على العلاقات الشخصية على أمل الفوز بتوقيع العقد. تقدمت شركة روسية بطلب للمشاركة في المناقصة وكانت واثقة من فوزها، ولكن وبحلول نهاية شهر مايو من عام 2008 وقعت وزارة المناجم في الجمهورية الإسلامية عقدًا مع شركة MCC الصينية لتطوير منجم "آيناك" للنحاس، الذي هو جزء من حزام النحاس الآسيوي. وهكذا تم إبعاد روسيا عن تنمية الموارد المعدنية الأفغانية" (45-47).
فصول أخرى من الكتاب كرسها المؤلف للروس الذين ارتبط مصيرهم بأفغانستان، بدءًا من أولئك الذين انضموا لحركة طالبان والذين تسبب اعتقالهم في ردود دولية مختلفة، وصولا لبطل الاتحاد السوفييتي الجنرال فالنتين فارنيكوف، الذي عندما عرف عن مرضه الخطير زار أفغانستان ليودع البلد الذي كان شاهدا على مأساته في أوائل الثمانينات. ويصف المؤلف كيف سافر هذا الجنرال إلى وادي بانجشير حيث جثا أمام قبر أمير الحرب أحمد شاه مسعود.
يرسم المؤلف صورة للمجتمع الأفغاني اليوم مثيرة للاهتمام؛ حيث يُقارنه بالمجتمع الروسي في التسعينيات من القرن الماضي، وذلك برصد جميع الانتهاكات التي عانى منها المجتمع الروسي آنذاك، والأعمال غير القانونية التي عمت البلاد، وعمليات الخطف للحصول على الفدية وغيرها من الممارسات التي شاعت في الحياة الروسية في الفترة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول البلد في نفق مظلم. وقد بادر المؤلف بجمع ملف فريد يشمل حوادث الجرائم الجنائية والاقتصادية في أفغانستان، حيث سُجلت أهم الأحداث في العاصمة والمناطق المجاورة لها، وذلك بفصلها عن الجرائم العسكرية والسياسية وتلك التي ترتكب باسم الدين. فالغالبية العظمى من المتابعين ينظرون إلى القضية الأفغانية باعتبارها ثقبا أسود تختفي فيه المليارات، وفي كل مكان ثمة انفجارات وخطف، والمتعصبون الدينيون يقتلون الجميع، لكنها بالنسبة للمختصين -ومن بينهم مؤلف هذا الكتاب- فإن هذه الصورة، ومهما اتخذت من أبعاد وحشية مختلفة، إلا أنها تعكس مرحلة كاملة للتحول المجتمعي الأفغاني في ظل النظام الرأسمالي العالمي المتوحش، وهي الصورة نفسها التي وقعت فيها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وفي حديثه عن الأهوال التي تشهدها أفغانستان المعاصرة، يرسم أندريه غريشنوف صورة للجنون العام الذي لم يصب الأفغان أنفسهم وحسب، وإنما اكتسح الجنود الأمريكيين الذين يخدمون في هذا البلد. يقول المؤلف: "اعترف الرقيب في الجيش الأمريكي كيلفن جيبس وهو أمام المحكمة أنه، هو وعدة جنود معه، ارتكبوا عملية ذبح رهيبة في حق سكان ولاية قندهار المسالمين وذلك من أجل "رفع الهمة"، فقاموا بقطع أصابع ضحاياهم ونزع أسنانهم وتشويه جثثهم. وبدون أي تحرج أو محاولة لإخفاء فعلتهم أو حتى تبريرها، أطلق الجنود على أنفسهم "فريق القتلة". هل حدث شيء ما للجنود الأمريكيين بالقرب من قندهار حوّلهم إلى وحوش أو أن ذلك الشيء قد حدث لهم قبل أن يأتوا إلى أفغانستان؟" يترك المؤلف هذا السؤال دون إجابة.
وليست قائمة الخسائر الثقافية لأفغانستان التي قام بوضعها أندريه غريشنوف بأقل فداحة من بقية الجرائم الأخرى. ومن ضمن ما ورد في القائمة هناك مقابر أسرة تيمور لنك في مدينة هرات وما تعرضت له من تخريب ونهب. يقول غريشنوف: "بالنسبة لي شخصيا فقد مثل لي هذا الحادث صدمة حقيقية، ففي المعارك التي دارت في هيرات عام 1984 أتيحت لي الفرصة لزيارة هذه المقابر ولمس أغطيتها (...) خلال حربنا لم يتجرأ أحد على التعرض بسوء لهذه المقابر، ولكن لم يعد ثمة شيء مقدس في زمن طالبان".
وبكونه صحفيا لم يسع غريشنوف تجاوز موضوع حساس آخر كالتغيرات في وضعية الإعلام الأفغاني، فيسوق في كتابه رزمة من التحركات والقرارات التي أقرتها جهات رسمية، ونتجت عن تقييد عمل الصحفيين والفنانين، المحليين والأجانب، مثل حظر برلمان أفغانستان الجولات الفنية للفنانين الأجانب في عموم البلاد ومنع بيع تسجيلاتهم وإيقاف المسلسلات التليفزيونية الهندية فضلا عن إعلانات البنوك الأجنبية المتعلقة بإصدار الفائدة على ودائع السكان بسبب المعايير الشرعية. لكن الوضع كان ولا يزال غامضا كما يراه غريشنوف، فالتليفزيون في أفغانستان خاص في معظمه وبإمكانه الالتفاف على مثل هذه القراراتأو تجاهلها!
ومن بين الملامح الكئيبة الأخرى في الصورة التي رسمها غريشنوف لأفغانستان هناك عمليات الخصخصة الجائرة والدمار الذي لحق بالقطاع الصناعي والمالي، كالذي حدث ببنك كابول: أكبر مؤسسة مالية في البلاد، حيث جرت فيه عمليات تزوير يصفها المؤلف بتزوير القرن، وهناك الوفاة المفاجأة لمدير شركة الطيران الأفغانية "أريانا"زابيلي إسماطي، الذي لم يُقتل على يد المجاهدين أو طالبان، وإنما تمت تصفيته بسبب وقفته الصلبة ضد قرار الخصخصة المشبوه. ويقدم الكاتب العديد من الحقائق الأخرى التي أدت إلى التدهور المعيشي والفقر الذي يعيشه هذا البلد الجميل.
----------------------------
تفاصيل اكتاب
- الكتاب: "ما بعدنا".
- المؤلف: أندريه غريشنوف.
- الناشر: إكسيمو/ موسكو 2019، بالروسية.
- عدد الصفحات: 480 صفحة.
