وهم النمو: الثروة.. والفقر.. ورفاهية الأمم

Picture1.jpg

تأليف: ديفيد بيلينج

عرض: عبد الله بن محمد المحروقي

يتردَّد دائمًا على أسماعِنا أنَّ دولة ما شهدت نموًّا اقتصاديا بنسبة كذا وكذا، وأن اقتصاد الدولة الفلانية تراجعبنسبة كذا وكذا.. فما هو المعيار الذي يقاس به نمو اقتصادات الدول وانكماشها؟ كثيرا ما يستخدم الاقتصاديون والسياسيون مؤشر الناتج المحلي الإجمالي (Gross Domestic Product) كمعيار لقياس النمو الاقتصادي، وكثيرًا ما يستخدمون هذا المعيار للمقارنة بين اقتصادات الدول. فما المقصود بالناتج المحلي الإجمالي؟ وما مدى دقة الحكم على اقتصاد دولة ما من خلال ناتجها المحلي الإجمالي؟ هل هناك بدائل لقياس نجاح ونمو الدول غير مقياس الناتج المحلي الإجمالي؟ يُجيب الكاتب والصحفي ديفيد بيلينج (David Pilling) على هذه الأسئلة في كتابه الصادر في العام 2018م والذي سماه: "وهم النمو: الثروة، والفقر، ورفاهية الأمم"، ويناقش فيه استخدام مؤشر الناتج المحلي الإجمالي كمعيار لقياس النمو الاقتصادي.

 

وقبل عَرض مُختصر الكتاب، يجدر بنا أن نُعرِّف بالكاتبديفيد بيلينج، هو كاتب وصحفي ومحرر النسخة الإفريقية من الفايننشيل تايمزFinancial Times، وعمل سابقا محررا للنسخة الآسيوية، وكذلك رئيسا لمكتب صحيفة الفايننشيال تايمز في طوكيو خلال الفترة من يناير 2002 إلى أغسطس 2008. وتدور كتاباته في عموده في الصحيفة حول الأعمال والاستثمار والاقتصاد والسياسة.

وحسب موقع قناة الجزيرة، فإن "الناتج المحلي الإجمالي هو مؤشر اقتصادي يقيس القيمة النقدية لإجمالي السلع والخدمات التي أُنتجت داخل حدود منطقة جغرافية ما (بلد مثلا) خلال مدة زمنية محددة (سنة أو نصف سنة مثلا)"، ويتم حساب الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما عن طريق المعادلة التالية:

GDP= G+C+I+(E-M)؛حيث تساوي G الإنفاق الحكومي، وتساوي C إنفاق أفراد المستهلكين على السلع والخدمات، وIتساوي مجموع استثمارات الدولة، ويشمل النفقات الرأسمالية للشركات، وأخير تساوي (E-M) صافي صادرات الدولة (الصادرات - الواردات).

ومن خلال التعريف، بإمكان القارئ الكريم أن يلاحظ أن هذا المعيار لا يعكس مستوى المعيشة في الدولة، ولا يعكس كذلك توزيع الثروة؛ وإنما هو فقط مقياس لما تم إنتاجه داخل حدود الدولة؛ سواء كان ذلك على يد المواطنين أو المقيمين في الدولة.

قسَّم ديفيد كتابه إلى ثلاثة أقسام: مشكلات النمو، والنمو والعالم النامي، وأخيرا ما وراء النمو. وفي المقدمة التي عنون لها بـ"عبادة النمو"، يذكر أن مصطلح الناتج المحلي الإجمالي أصبح مرادفا لمصطلح الاقتصاد. ورغم تحذيرات مبتكر مفهوم الناتج المحلي الإجمالي (لم يذكر المؤلف اسم مبتكر مقياس الناتج المحلي الإجمالي)، أصبح الناتج المحلي الإجمالي مؤشرا لرفاهية الدول؛ فالناتج المحلي الإجمالي هو مرآة تعكس مدى رفاهية المجتمع وحيوية الاقتصاد. ولكن حسب رأي الكاتب، فإن الصورة المنعكسة في هذه المرآة هي صورة مشوهة بشكل كبير وهي صورة لا تعكس الحقيقة؛ فالمرآة التي نرى فيها الاقتصاد هي مرآة مُتحطِّمة. ويضيف الكاتب أن النمو هو وليد عصر الصناعة والناتج المحلي الإجمالي وُضع لقياس الإنتاج المادي (أي إنتاج السلع لا الخدمات)؛ فهو مقياس غير سيء لقياس إنتاج الدراجات وقضبان الحديد، ولكن إذا تم استخدامه لقياس إنتاج الخدمات (كالحلاقة مثلا) فإنه يعطي صورة غير واضحة. وإجابةً على السؤال المطروح: عن مدى دقة الحكم على نمو اقتصاد دولة ما من خلال ناتجها المحلي الإجمالي؟ يجيب الكاتب بأن طريقة الناتج المحلي الإجمالي أصبحت أقل إقناعا ونحن ننتقل من عصر إنتاج السلع إلى عصر إنتاج الخدمات ومن العصر التناظري إلى العصر الرقمي. على سبيل المثال، كان الاقتصاديون يحكمون على اقتصاد اليابان من خلال الناتج المحلي الإجمالي في أواسط العقد الأول من القرن الحالي على أنه اقتصاد يعاني أزمة وركودا. ولكن الواقع لم يكن كذلك؛ فمعدل البطالة كان منخفضا جدا، والأسعار ثابتة وتتجه أحيانا إلى الانخفاض، ومستويات المعيشة لدى السكان كانت في تصاعد. ومقارنة بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كانت معدلات الجريمة في اليابان منخفضة، وجودة الغذاء والسلع الاستهلاكية كانت على مسوى عال، ومتوسط العمر المتوقع للمواطن الياباني كان من ضمن الأعلى في العالم. وبالتالي، الناتج المحلي الإجمالي قد يعطي صورة مشوهة للعالم، وكثير مما يُهمنا كبشر بداية من الهواء النظيف، والطرق الآمنة، والاستقرار الوظيفي يقع خارج إطار الناتج المحلي الإجمالي.

يعامل الاقتصاديون الاقتصاد وكأنه ظاهرة طبيعية، وهو ما يرفضه الكاتب؛ فقواعد علم الاقتصاد هي مُخترع بشري وليست كقواعد العلوم الطبيعية التي هي من صنع الخالق، وغاية ما يفعله البشر هو محاولة اكتشافها ووضعها في معادلات. ولذلك يدعو الكاتب الأفراد لتعلم لغة الاقتصاديين حتى يتمكنوا من فهم السياسات التي يضعها الخبراء الاقتصاديون وتقييمها والمطالبة بتغييرها إذا اقتضت الحاجة.

ويستنكر الكاتب التوسع غير النهائي في النمو الذي يقيسه الناتج المحلي الإجمالي، وعبر عن ذلك بقوله: "في الاقتصاد فقط يُعتبر التوسع غير النهائي أمرا إيجابيا، بينما يعتبر ذلك في علم الأحياء (البيولوجيا) ورما خبيثا (سرطانا)". وإذا كان علماء البيئة على حق، فإن السعي اللانهائي خلف النمو والإنتاج يهدد بقاء الإنسان على هذه الأرض.

هذا الكتاب يتحدث عن أمرين؛ الأول: أنه يدعو إلى نزعة الشك فيما يقوله الخبراء الاقتصاديون والشك عند قراءة إحصائيات النمو، والأمر الثاني: ما بدائل الناتج المحلي الإجمالي في قياس النمو؟ ويجيب الكاتب عن هذا السؤال بأنه ليس شيء من البدائل قويا بما فيه الكفاية ليزيح مقياس الناتج المحلي الإجمالي؛ فبدلا من إلغاء مقياس الناتج المحلي الإجمالي، علينا أن نضيف معه ما يجعل نظرتنا لعالمنا أكثر دقة. ومن المؤشرات التي اقترحها الكاتب:

- الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد(GDP per capita): وهو الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما مقسوما على عدد سكان تلك الدولة.

- الدخل الوسيط (أو وسيط الدخلMedian income): وحسب الكاتب فإن هذا المؤشر أفضل من الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد. ولهذا المؤشر نقطة إيجابية كبرى وأخرى صغرى. أما النقطة الإيجابية الكبرى فهي أنه وسيط وليس متوسط.ولمعرفة الفرق بين المتوسط والوسيط: إذا كانت دولة فيها أربعة مواطنين ومجموع الدخل في الدولة 100 دولار، وكانت كلها من نصيب مواطن واحد فإن متوسط الدخل فيها هو 25 دولارا. وعليه، فإن متوسط الدخل لا يعطي أي معلومة عن المساواة في توزيع الدخل. بينما وسيط الدخل أو الدخل الوسيط يعطي فكرة عن دخل الطبقة المتوسطة أو المواطن القياسي في الدولة. والنقطة الإيجابية الصغرى لمؤشر وسيط الدخل هو أنه مؤشر للدخل لا الإنتاج؛ فالدخل أهم من الإنتاج بالنسبة للمواطن (التفكير في ماذا لدي لأعيش عوضا عن التفكير في كم رافعة تم إنتاجها هذا العام). حسب نظرية الناتج المحلي الإجمالي، لا بد من تساوي الدخل والإنتاج؛ إذ إنَّنا نشتري ما ننتج وننتج فقط ما يمكننا بيعه (حسب النظرية) غير أن الواقع لا يبدو كذلك.

- عدم المساواة (Inequality): وهناك طرق عدة لمعرفة ذلك، أهم هذه الطرق هو معامل جيني، وهو مقياس من 0 إلى 100؛ حيث إن الرقم 0 يُعبِّر عن المساواة المطلقة؛ وذلك يعني أن جميع من في الدولةيحصلون على نفس الدخل، والرقم 100 يُعبِّر عن قمة عدم المساواة. ومن الدول التي تتمتع بقدر عال من المساواة الدول الإسكندنافية؛ حيث أن معامل جيني في هذه الدول أقل من 30.

ومن الطرق الأخرى لقياس عدم المساواة: تقسيم السكان إلى مجموعات حسب الدخل، ومقارنة حجم مجموعة ذوي الدخل المتوسط بحجم مجموعتي ذوي الدخل العالي وذوي الدخل المحدود.

- صافي الإنتاج المحلي (Net domestic product): وطريقة حسابه حذف إهلاك السلع الرأسمالية كالطرق والمطارات من الناتج المحلي الإجمالي (NDP= GDP – Depreciation of capital goods)، وفائدة احتساب صافي الإنتاج المحلي هي معرفة حجم مخزون الثروة الوطنية؛ وذلك من خلال معرفة قيمة الأصول بعد الاستهلاك. وهناك من يدعو لمزيد من التركيز على صافي الإنتاج المحلي NDP مثل برينت مولتون (الرجل الثاني في مكتب التحليل الاقتصادي لسنوات)؛ حيث قال للكاتب ذات مرة أن أحد الأسئلة الأساسية عن الدولة هو هل ثرواتها في ازدياد أم في نقصان؟ الدول التي لها صافي ناتج محلي قوي هي فقط لديها القدرة على تحسين المستوى المعيشي على المدى البعيد.

- الرفاهية (Well-being): ليس هناك من يدَّعي أن الناتج المحلي الإجمالي للدولة يعكس مدى رفاهية سكانها، ولكن لم يذكر الكاتب أن هناك طريقة معتمدة لقياس مستوى الرفاهية.

- انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (CO2 emissions): كمية غاز ثاني الكربون في الجو تعد مؤشرا للتلوث. والغالبية العظمى من العلماء يرون أن أنشطة الإنسان لها أثر واضح على درجات الحرارة في العالم. يشير الكاتب إلى التغير المناخي الناتج عن تلوث الجو بسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ويدعو لمراقبة مستوى التلوث وعمل شيء حيال ذلك.

هذه هي اقتراحات الكاتب؛ فهو كما نرى لا يقدم بديلا مُحددا عن مقياس الناتج المحلي الإجمالي، وإنمايدعو لفكرة لوحة القيادة (Dashboard) أي مراقبة أكثر من مؤشر في نفس الوقت. وأحد تطبيقات الفكرة هو "مؤشر حياةٍ أفضل" الذي تستخدمه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD’s Better Life Index) هذا المؤشر يقارن بين 38 دولة من خلال 11 موضوعا، بدايةً من الإسكان مرورا بالبيئة والأمن والدخل وغيرها.

وبعد تقديمه هذه المقترحات، أوصى الكاتب أيضا بضرورة تقييم الخدمات الحكومية كالصحة والتعليم والطرق، وفي العادة يتم إعطاء هذه الخدمات أقل مما تستحق من التقييم؛ ذلك لأنها تُقدم دون مقابل. وفي حال عدم تقييم الخدمات الحكومية تقييما عادلا، تزداد احتمالية خصخصة هذه الخدمات، وهذا بالفعل ما تود كثير من الدول أن تفعله مدفوعة بحوافز السوق الحرة.

وفي الختام، ذكر الكاتب أنَّ النمو السريع قد يكون مطلوبا في بعض الدول لرفع مستويات المعيشة فيها، إلا أنه يجب أن يكون النمو وسيلة لا غاية في حد ذاته. وفي الاقتصادات التي يطغى فيها إنتاج الخدمات، يُعتبر تحسينالجودة أمرا مهما، ومستوى الجودة خارج نطاق مؤشر النتاج المحلي الإجمالي؛ لأنه فقط يقيس كمية الإنتاج. والاهتمام بالجودة أقل تلويثا للبيئة من الاهتمام بالكم في الإنتاج.

الخلاصة: القارئ قد يظن بداية -بسبب اللغة التي استخدمها الكاتب في نقده للاقتصاديين ولمقياس الناتج المحلي الإجمالي- أن الكاتب قد يقترح بديلا عن الناتج المحلي الإجمالي، ولكن الحال كما ذكر الكاتب أنه ليس هناك بديل يمكنه إزاحة هذا المقياس.

هُناك الكثير مما يجب أن نلتفت إليه عند صناعة القرار، وكذلك عند مقارنتنا بين الدول، ولا ينبغي الاكتفاء فقط بأرقام الناتج المحلي الإجمالي. مقياس الناتج المحلي الإجمالي يقيس الإنتاج، والتسابق إلى الإنتاج الكميبغض النظر عن العوامل الأخرىله آثار جانبية منها: التلوث البيئي وتغير المناخ، وانخفاض مستوى الجودة، واستنزاف الموارد. لقد وُفّق الكاتب في بيان نقاط ضعف مقياس الناتج المحلي الإجمالي وأهمية تجاوز هذا المقياس بأسلوب ممتع، وهذا أمر يتفق عليه الكثير من قراء الكتاب (https://www.goodreads.com/book/show/36130581-the-growth-delusion).

وإسقاطا لمحتوى الكتاب على واقع الاقتصاد العماني، فإن المتتبع لما آلت إليه أوضاع الاقتصاد العماني يدرك مدى صحة ما يدعو إليه الكاتب؛ فقد نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.9% بالأسعار الثابتة في عام 2018 (حسب الملحق الاقتصادي لجريدة عمان 23 أبريل 2019م)، ولكن لا يبدو أن الاقتصاد قد تحسن، فالعجز الحكومي في ازدياد، ومستوى البطالة كذلك، بينما انخفضت تصنيفات الوكالات الائتمانية للسلطنة إلى أدنى المستويات.

-----------------------

تفاصيل الكتاب :

-العنوان:"وهم النمو: الثروة، والفقر، ورفاهية الأمم".

- المؤلف: ديفيد بيلينج.

- الناشر: Bloomsbury publishing، 2018.

- عدد الصفحات: 305 صفحات.

 

أخبار ذات صلة