تذكر بودريار

Picture1.png

تأليف: سيرج لاتوش

عرض: سعيد بوكرامي

ينتمي جان بودريار (1929-2007) إلى جيل النظرية الفرنسية، الجيل الذي شغل الناس و ملأ المشهد الثقافي عطاء معرفيا وجدالا فكرياامتدّ بين مرحلة ما بعد الماركسية وما بعد الحداثة. و على عكس الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين، كان لبودريار مسار غير اعتيادي ميز إنتاجه المعرفي المتنوع.فقد اخترق ببراعة علم الاجتماع واللغويات وعلم الآثار والتحليل النفسي وعلم الإناسة والفلسفة، بخفة مفاهيمية حيّرت الكثيرين. بما في ذلك صاحب الكتاب سيرج لاتوش: " تذكر بودريار". لازم لاتوشبودريار حتى عام 1976، قبل أن ينفصلا عن بعضهما البعض. يعترف لاتوش منذ بداية كتابه بالغموض الذي يحوم حول بودريار، حيث يتجلى على الأقل في فكره وكتاباته، ناهيك عن تمرده على القوالب الفكرية والسياسية الجاهزة، التي لا يمكن حصرها داخل نظام محدد.

يمكن إرجاع الاصرار على نسيان بودريار في فرنساإلى عدم امتثاله للوصاية المنهجية الأكاديمية، ولكن ذلك سيكون بمثابة استسلام للذهنية المتحكمة في التفكير الأكاديمي التي لم تقبل حرية بودريار في النقد والانتقاد.أن نتذكر أن بودريار اليوم هو بمثابة تقدير للوضوح الشديد الذي مارسه مؤلف كتاب "ذكريات رائعة" طوال حياته. الوضوح الذي جعله يعلن ويحلل، وينتقد منذ سبعينيات القرن العشرين، مظاهر عالمنا المعاصر المتمثلة في: الإرهاب، الاستهلاك المفرط، والتصنيع العام وانتصار الافتراضي على الواقعي، هيمنة الطيفي على الحقيقي، والألعاب الإعلامية...

يروي سيرج لاتوش بدقة تاريخية ومعرفية محطات من حياة بودريار المعرفية ذات الطابع المضطرب و المتمرد والمعارض، بدءا بمرحلة التعلم ونماذجه الثقافية والمعرفية وتأثره الكبيرب(رولان بارث)،متوقفا عند محطة بداية الكتابة التي سيكتسب خلالها سمعة ثقافية وطنية، سرعان ما ستصبح شهرة عالمية. ومن خلال أعماله القديرة والمثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: نظام الأشياء(1968)ومجتمع الاستهلاك: الأساطير والبنى(1970)ومرآة الإنتاج (1973) والتبديل الرمزي والموت(1976) وإغراء (1979) وفي ظلال الأغلبية الصامتة(1982)واستراتيجيات قاتلة(1983)وذكريات جميلة (1987)وحرب الخليج لم تقع (1991)ووهم النهاية(1992)والجريمة الكاملة (1995)وكلمات السر (2000)والعناصر المفردة للعمارة (2000) وروح الإرهاب: وسقوط البرجين التوأمين (2002). هذه الاعمال الفذةصارت مع الوقت أقل أكاديمية،ثم ينهي لاتوش كتابه بالمرحلته الأخيرة قبل وفاة بودريار في 6 مارس 2007 مستعرضا لأهم سجالاته في صحيفتي الحرية "ليبيراسيون" والعالم " لوموند" الفرنسيتين اللتين كانتا بمثابة أرضية خصبةلانتقادات ونقاشات ساخنة ومستفيضة أبرزت بجلاءبصماتبورديارالفكرية المرتبطة بموضاعته الأثيرة.

منذ البداية كتب سيرج لاتوش عن جان بودريار (1929-2007) أنه "لم يشيد نظاما (فلسفيا)، أو على الأقل نشر فكره حول مجموعة من المفاهيم العملية "(ص 15)، والتي يمكن تفسير نجاحها بسوء الفهم الفكري والذي رافق نشرها في جميع أنحاء العالم العديد من الجدالات، يلاحظ الكاتب أنه "ليس من السهل جعل كل صيغة تلتصق ببعضها البعض. "(ص 153). فيما يتعلق بتأملات بودريار، يضيف أن التحليل "لا يزال مفتوحًا، ويمكننااللعب، حتى وإن كانت قواعد اللعبة غير واضحة جدًا" (ص. 168).

لا تختزل هذه الدراسة في التفسير الدقيق لمجموعة من الكتب، ولكن المؤلف ينجز " دراسة، بروح السيرة الفكرية" (ص 28)، تمزج بين الحياة والمنجز الفكري. بدلاً من الإصرار على اختراق المعنى النهائي لتفكير متعدد وغامض يكشف تماسكه واستنزافه لنفسه داخل فضاء النص، يقترح سيرج لاتوش مجموعة من المفاتيح لاستيعاب فرادة فكر نضج في سياقات معينة وتفتق من خلال بودريار المتعدد والمختلف.

يعتبر سيرج لاتوش التفكير في الأشياء أحد الموضوعات الرئيسية التي بنيت عليهاكتابات بودريار (ص 20). ونظرا لشعور بودرياربالقلق إزاء معانيها،يفكر هذا الأخير في طرائق إنتاجها. هذا التحول يدفعه إلى انتقاد وتجاوز المنهج الماركسي الذي يتميز بنوع من الحتمية الاقتصادية. إذا كان ماركس قد قدم نقدًا جذريًا للاقتصاد السياسي،محاولا تطويره من خلال تأييد افتراضاته الفكرية، كما يقول بودريار في كتابه " مرآة الإنتاج" وخاصة مع مبدأ الإغراء، الذي يقترحه هذا الأخير ويعتبره سيرج لاتوش "نموذجًا بديلاً" (ص .144).

تعرف سيرج لاتوش على بودريارخلال سنوات السبعينيات، قبل أن يبتعد عن الرجل وأعماله. كانت العلاقة بينهما أكاديمية محضة. كان حينذاك صاحب كتاب " مجتمع الاستهلاك" مساعدالهنري ليفبفر (1901-1991) في قسم علم الاجتماع بجامعة نانتير. في هذا الكتاب الريادي، وهو الأكثر شهرة بين كتبه جميعها، يسهب بودريار في تحليل سيميولوجي للاستهلاك الذي بدأه في كتاب" نظام الأشياء"تمشيا مع تحليلات رولان بارت (1915-1980) للأساطير، التي نشرت قبل بضع سنوات، يجادل بودريار بأن "قيمة استخدام" الأشياء، مرتبطة بفائدتها الوظيفية، وتكون أقل من "قيمتها المعنوية"، والمقصود هنا أهميتها الاجتماعية. بالإضافة إلى تنظيم نوع من الاندماج الرمزي لممارسات الاستهلاك في هذا المجتمع، الذي يرعى مشهد الإسراف والرخاء والوفرة، مما يؤدي إلى الإحباط الدائم للمستهلكين.

من خلال قراءة دراسته،نفهم بوضوح أنلاتوش اهتمبهذا الجانب من العمل، الذي قام بهسيرج بودريار، مؤلف كتاب الخروج منالمجتمع الاستهلاكيوتوليف حديث عن تدهور النمو، هو الأقرب. بالنسبة له،تبدو الحساسية السياسية لبودريار ذات طابع يساري واضح وتتجلى في تحليلاته للاستهلاك كممارسة إلزامية وغريبة، وكذلك تأملاته حول العمران والهندسة المعمارية في مجلة يوتوبيا ((1967-1968، يرجع صدى المثل العليا الغاضبةمن الظواهر الحديثة المصطنعة، المصممة على إحداث ثورة في الحياة اليومية بواسطة سلسلة من الأفكار المنقذة والمحرّرة المعتمدة بمعنى واسع، وبطريقة شاعرية، على الإغراء كنوع من المبادئ التيتقرب البشرمن الأشياء والأشياء من الناس. ويعدّ ارتباط مفهوم المظهر والغموض الأساس لما يسميه بودريار "التبادل الرمزي". المرتبط بدوره بفكرة الإسراف والنفقات، المستوحاة من قراءات مارسيل موس (1872-1950) وجورج باتاي (1897-1962)، وهذا النوع من التفاعل يتعارض مع مبادئ علاقة السوق. وهو الوحيد، حسب بودريار،القادر على معارضة المنطق. ولكن مع الإغراء، يحدد سيرج لاتوش أيضًا نقطة تحول هامة، بحيث تنعكس الأفكار التي يحتوي عليها العمل بأسلوب إضماري واستعاري بعيدًا عن قواعد الكتابة الأكاديمية. إذا كان منهجهدفع عددا من الأكاديميين الفرنسيين إلى التبرّم منها،فإنه سيجد خارج فرنسا انجذابا كبيرا وجمهورا عريضا، أكبر من أي وقت مضى، خاصة في الولايات المتحدة.

ولأنهاتصف "انتصار المحاكاة في الفضاء الاجتماعي الذي أصبح منحرفًا بشكل تدريجي في المحاكاة الدعائية" (ص. 128)، يعتبر سيرج لاتوش أن تأملات بودريارحول المجتمع الاستهلاكي هي نقطة الانطلاق لأسئلته عن الواقع. من خلال حشدهللمفاهيم التي اعتبرت أكثر تطرفًا في الثمانينيات والتسعينيات، يشير بودريار إلى ما يسميه المؤلف "تصنيع العالم" (ص 160 وما يليها). وهكذا يبدو التحول إلى العصر "الافتراضي" بمثابة المرحلة الأخيرة من عملية تتخللها مراحل "رمزية"، و "محاكاتية" و" تصنيعية" في نهايتها، يتبلور "عارض مصطنع هائل، عبارة عن مصفوفة،تؤخذ على أساس أنها الواقع"، كما يشير لودوفيك ليونيلي. ويؤكد ذلكبودريار في عام 1991، فقدساد شعور بأن حرب الخليج لم تحدث،ويعود السبب إلى الاعتقادأن ما يبدو قد حدث وقع فقط على شاشات التلفزيون، مصحوبابتعليقات مراسلي الوكالات الاخبارية التلفزيون. وحسب دوغلاس كيلنر،فإنّ هذا الجانب من الظاهرة بدأ ينمو منذ الثمانينيات وهو ما اصطلح عليه فيما بعد ب"الحتمية التكنولوجية". في هذا العالم الافتراضي، تبرز "الفظاعة" كنوع من أنواع عدوى الاضطرابات. إن تأملات بودريار، ذلك القارئ النهملقصص الخيال العلمي (هذه المعلومة أعرفها عن طريق سيرج لاتوش، لأول مرة)وهي مشحونة هنا بفعل الإيقاظ تقريبا بينما تعليقات الخبير الاقتصادي يتردد صداها: ينتهي الواقع إلى التلاشي "وراء آليات الخوارزميات و طريقة عمل الآلة الضخمة أو رمز الحمض النووي. عند هذه النقطة يصبح النظام فيروسي: فيروس إرهابي، فيروس وبائي، فيروس إلكتروني، فيروس سوق الأوراق المالية "(انظر الصفحة 165 والصفحة 191). تُحمل هذه التحليلات من خلال نثر يتميز لغة مفهومة ورؤيوية، يندم مؤلفها أحيانًا على أنها تصل إلى درجةالتبسيط و المانوية. وفي هذا السياق يجب قراءة بودريار بلغته الفرنسية وليس عن طريق الترجمات العربية التي لم تصل في معظمها إلى المستوى الساحر والمثير للغته الفرنسية.كما أن هذه اللغة تطورت في سياق ما بعد الحداثة من "اختصار المراجع القوية" (ص 187) ويبدو أنهاتحافظ عند بودريار على نظرة يائسة وعدمية تجاهالعالم. إن أفكاره حول هجمات مركز التجارة العالمي، التي تربط بين العنف الإرهابي والعولمة الليبرالية، هي الفكرة الأكثر إثارة للجدل وقد أسالت مدادا كثيرا معارضا ولوما شديدا لبودريار. " أعمال المؤلف كلها تدور في نهاية المطاف حول خيبة الأمل في الحداثةوبين التمرد الداخلي والاستكانة الساخرة" (ص40)، كما يقول سيرج لاتوش. وبدلا من ثبات النظرة السياسية، يحدد المؤلف بشكل ملحوظ أن المسار الفكري لبودريار تميّزبديمومة متجددةللفكر والتلاعببعالم الأفكار إلى درجة يتقمص فيها بودريار "دور المحتال، هذا الفكاهي الموجود في الأساطير جميعها [...] الذي يجد متعته القصوى في إحباط اللعبة التي أنشأتها الآلهة الجادة" (254).

يكتب بودريار في كتابه " شفافية الشر": "تتمثل الوظيفة الفكرية الحقيقية فقط،فيالتلاعب بالتناقض، والسخرية، والمعارضة، والثغرة، والانعكاس، والتي ستظل دائمًا متمردة علىالقانون والبداهة". طوال حياته، كان بودريار مخلصًا لمبادئ الفلسفة وعلم الدماغ وعلوم "الحلول الخيالية" التي ابتكرها ألفريد جاري (1873-1907). محددا في الوقت نفسه أهمية هذا السياق الروحي والفكري، يقدم سيرج لاتوش بلا شك أحد مفاتيح قراءة بودريار الأكثر ارتباطا بـ: هذا المنهج في أعماله،لهذا يدعو إلى قراءته بالطريقة نفسها التي كتب بها مؤلفها، مع فسحة تأملمستفز ومسافة ذكية تسمح لنا بالكشف عن كل تماسكها وأهميتها، بعيدًا عن قواعد الجدل الأكاديمي ... يختلط اللعب بالمعنى واللعب باللغة. يكرس المؤلف الفصل الأخير من دراسته"للاستمتاع الشعري باللغة" (ص241 و ص251) عند بودريار كما لو أن لاتوش يبرهن على أن أسلوبه هو الذي يميز أعماله الفريدة ويمنحها مميزاتها الخاصة ببودريار دون سواه.

ورغم غموض وتجاوزات دراساته،يبقىبودريار دقيقًا، تمامًا فحتى في انفصاله الساخر ومفارقاته يوجّه أسئلة جدّية ومستفزة لتوليد القلق الفكري المستمر. بطبيعة الحال،الواقع لميختف، ولن يختف أبداً. في حين أن الانتقال الفيروسي للأخبار المزيفة في زمن ما بعد الحداثة، يشبه السيناريوهاتالهوليووديةللدعاية الداعشية، التي يبدو أنهاتطمس الحدود بين الحقيقة والزيف، والحقيقي والافتراضي، وهنا يؤكد سيرج لاتوش أن أعمال بودريار "تجعل ضوضاء العالم مسموعا صداها" (ص 200)،معبرا عن أسفه لأنها لم يعد من المفيد التفكير فيها. و يبدو عنوان كتابه بمثابة تحية تقدير وإحياء و تذكير وتذكرلفكر بودريار وشخصيته المجددة والخلاقة التي حولت التفكير من الإنسان إلى التفكير في الأشياء التي صارت تدريجيا تتحكم في الإنسان وتحولاته، وبذلك نقل بودريار الدرس الفكري من فلسفة الإنسان إلى فلسفة الأشياء.

-----------------------------------------------------------

تفاصيل الكتاب :

المؤلف: سيرج لاتوش

العنوان : تذكر بودريار

الناشر: دار فيارد. باريس. فرنسا.

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات: 304

اللغة الفرنسية

 

 

 

أخبار ذات صلة