قيس الجهضمي
تُعتبر الظاهرة الدينية من الظواهر المركبة؛ بمعنى أنها تحمل أكثر من منظور ومجال للدراسة وبمستويات متعددة، لذا يتناول عبدالإله بلقزيز في مقاله -المنشورة بمجلة "التفاهم"- "دراسات الظاهرة الدينية: في الموضوعات themes والمفاهيم ومناهج المقاربة" هذه الظاهرة الدينية مقترحا دراستها بمنظور تركيبي ومنهج عمل تركيبي، وهو يرجع الأمر لأسباب ثلاثة: غنى المعطيات لهذه الظاهرة، وقوة الترابط بين كل المستويات فيها، وأيضا قوة ترابط مستويات الظاهرة بالظواهر الأخرى في المجتمع الإنساني، إذ يطمح الكاتب من خلال المقالة المنشورة إلى أن يبذل الباحثون جهدا معرفيا ومنهجيا في دراسة الظاهرة والنظر لنقاط إشكالية متعددة فيها، ويرى أيضا أن يبتعد الباحثون عن التمسك بفكرة المنهجية الواحدة القادرة على تحقيق الإمكان المعرفي، كما أن تعدُّد المناهج الذي يسعى إليه يضعه في حاجة للتخطيط والعمل المشترك بين تخصصات مختلفة، ويحلل الكاتب الظاهرة الدينية في ستة أبعاد وهي: النصي، والإيماني، والاجتماعي، والسياسي، والأخلاقي، والثقافي، وفي هذه الأبعاد نستطيع أن ننظر للموضوعات والمناهج الحديثة وترابطها مع المناهج والتخصصات الأخرى.
ففي بُعد النص الديني، يرى بلقزيز أنه لا سبيل إلى فهم هذا النص إلا بتحليل بنيته اللغوية والدلالية، فمقاربة الظاهرة الدينية من خلال بعدها النصي لن يقدم لنا فائدة كبيرة إذا استخدمنا العلوم القديمة، ولكن ستحصل الفائدة إذا انفتحنا في تحليل النص على ما أنتجته ثورة العلوم والمناهج الجديدة، ومن هذه العلوم علم اللسانيات والسيميائيات والأدوات الحديثة لتحليل الخطاب، والتي ظهرت لنا منذ مطلع القرن العشرين، كما يرى أن هذه القراءات النصية الحديثة سواء اللسانية أو السيميائية ليست مطلوبة في ذاتها لكنها مطلوبة للتعاضد مع القراءات الأخرى للنص كالقراءة التاريخية مثلا.
والإيمان هو الشكل الأول -وربما الدائم- لانتقال الدين نصا وتعاليم إلى التاريخ، فاللاهوت والكلام قاما في تاريخ الأديان الكتابية قبل السياسة والاجتماع والأخلاق، لذا يرى الكاتب أن اعتناق المرء لدين ما لا يعني انفصاله عن حالة محيطه أو مجتمعه، ويجب التمييز بين مستويين في هذا البعد الإيماني وهما قيام الممارسة إما على اقتناع أو عادة، فالأصل أن "الشعور الديني هو حالة إدراكية وجدانية متولدة من أثر المعطى الديني في وجدان المتلقي"، أما الشعور الآتي من إكراه الجماعة قد يحمل في داخله زيفا ونفاقا، وهو يتعارض مع ذم الأديان للمنافقين. ويذكر بلقزيز أن الأسلوب القديم في مناقشة القضايا الإيمانية لا يفي بغرضه لإنسان اليوم، لأن المشكلة اليوم لدى الإنسان هو القلق الوجودي في حياته، فهو يطلب من الإيمان أن يساعده على تقبل العالم وفهم معاني الأشياء من حوله.
وتكمُن قوة الدين أيضا في الفرد الذي ينقله للتاريخ عن طريق سلوكه وأفعاله؛ لذا فالجماعة الإيمانية لها مركزية في التأثير في المجتمع المسلم حتى صاروا إلى أن إجماعها هو مصدر تشريع، فالمؤمنون كما يرى بلقزيز في البداية كانوا جماعة اجتماعية ثم اصطبغت هذه الجماعة بالدين بعد أن دخل عليها، فالدين هنا أيضا هو ظاهرة اجتماعية، ومن عمق العلاقة بين الديني والاجتماعي يمكن أن نفهم الكيفيات التي يعيش بها الناس في هذا الدين وكيف يمارسونه فيما بينهم وأثر ذلك من خلال الطقوس والقيم الدينية.
أما البعد السياسي أو الحالة السياسية، فهي حاصلة من فعل الجماعة من خلال التاريخ وليست من صميم الدين، والإشكال الحاصل أن اختيارات وقرارات وأفكار الناس التي يختارونها ويعتنقونها لا تعود عندهم شيئا من التاريخ بل يلصقونها بالدين، ومنها يصبح الخلط بين الديني والبشري، لذا لم تكن الدولة المدنية التي أقامها الرسول هي بأمر قرآني بل باجتهاده وبمساعدة صحابته الكبار، و"إذا كانت الكنيسة قد حكمت وفرض بابواتها القوانين باسم الحق الإلهي، فقد اكتفى الإسلام بالتماس الشرعية الدينية للخليفة والسلطان"، وفي العصر الحديث لم تنته هذه العلاقة القوية بين الدين والسياسة، فمعظم الدول العربية ما زالت تستجدي الدين للحصول على شرعيتها السياسية، وأصبح من الإشكال أن يصار إلى اختزال الدين في السياسة عن طريق الأحزاب والحركات الدينية، وهنا الكاتب يقترح أن هذه المواضيع التي تربط بين الدين والسياسة والشرعية بحاجة لعدة مفاهيمية ومنهجية جديدة.
وفي الأخلاق، يذكر بلقزيز أنها هي من أكثر أبعاد الدين استمرارية وديمومة، لأنها تنتمي لمنظومة القيم والثوابت، وقد تم اشتقاق الأخلاق والقيم المدنية من منظومات الأخلاق الدينية، ومن هذا الاشتقاق تم إيجاد المشترك الأخلاقي بين الأديان على عكس الشرائع الدينية فهي مختلفة وبشدة بين الأديان، فالمؤمن لا يكفيه أن يلتزم بالطقوس والعبادات بل عليه أن يلتزم أيضا بالأخلاق والقيم الدينية ليثبت في إيمانه، فالبحث في الدين يُحتم علينا البحث في أخلاقه التي تجسده في الواقع من خلال تفاعله مع جماعته الدينية، ومن خلال هذا البحث نستطيع أن نفهم الكيفيات التي يتكون بها وعي المؤمنين وسلوكهم في ذلك الدين، و"كيف على المسلم أن يفكر اليوم في أمثل الطرق، لكي يعيش إسلامه متوازنا من دون صدمات مع عصره ومجتمعه والقيم الحاكمة له".
وبما أنَّ الدين يشكل المجموع التراثي والفكري والثقافي للجماعة المؤمنة، فيرى الكاتب أنعلينا أن ننتبه لمركزية الثقافة في هذا الدين لنفهم حضارة تلك الأمة، وهنا لا يقصد الكاتب فقط التراث الثقافي العقلاني والمكتوب فقط بل حتى التراث الشعبي والشفهي، لهذا كانت أغلب الدراسات الإسلامية في التراث المكتوب، ولم يهتم الكثير من الباحثين بالتراث الشفوي والشعبي، كما أن الإشكال حاصل في طريقة مساءلة الموضوعات فيه، فيذهب بلقزيز إلى أن على الباحثين أن يعيدوا تركيب الأسئلة في تاريخ فكر الإسلام وصياغتها في إشكاليات تركيبية جديدة، كما أن "التاريخ النقدي الاستشكالي للفكر أي الذي يسمح بتحليل وقراءة البراديغمات الأساس في حقب من تاريخ الفكر ذاك، أو النظم المعرفية الأساس فيه" هو المطلوب الآن، بالتزامن مع منهج النقد التاريخي الذي هو من المناهج التي يجب على الباحثين التمسك بها لأنها تسمح بالتفكيك وإعادة تركيب الموضوع المدروس، كما أتفق مع رأي الكاتب في المنظور التركيبي للظاهرة الدينية؛ فاستجداء المناهج القديمة لا يلبث أن يرجعنا للماضي دون النظر لمتطلبات الحياة العصرية، وتعدد الأبعاد المدروسة في الظاهرة يجعلنا نستجلي الكثير من المعارف لصياغة النظرة الشمولية التي تساعد الإنسان على الوصول للغاية التي يرتجيها أو يطلبها من خلال اعتناقه لهذا الدين.
