كسر التابوهات

عاطفة المسكرية

إنّ التحولات التي تعيشها الأمم والمنحى السريع للتغيرات التي تسير نحوها الشعوب أشبه بكرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة بسرعة وهجومية تسحق وتُزيح أمامها كل ما لا يتّسق مع متطلبات هذه الموجة السريعة، بما فيها من توجهات تسعىلمخاطبة العقل والوعي والحضور الآني ونحو ذلك من ماديات متجسدة في ذكاء الصناعات البشرية والذكاء الاصطناعي، وانتشار العلوم مثل النار في الهشيم وما صاحبه من تبعات على الحياة البشرية. وماذا عن المعنى؟ الجوانب الروحانية والكيان البشري والنفس والذات التي تُشكل الأسس التي قام عليها الازدهار الحضاري للبشر! حقيقة إنها رضخت وخضعت ولا زالت تخضع للتمحيص دون مراعاة للخصوصية والقدسية، حيث لا شيء مقدس ولا شي يُعد أمرًا خاصًا وغير قابل للتمحيص– وفقًا للتحولات الفكرية - أمام الانفجار المعرفي والبراهين العقلية التي قرر البشر حديثًا إقرارها كمقياس للتفريق ما بين الحق والخرافة. وكل ما لا يوازي متطلبات المقاييس العقلية بمفاهيمها الحديثة فهو عرضة للإزالة.

تأتي مقالة الدكتور فوزي البدواوي لتسلط الضوء على هذا الأمرووقعه على المسلمين الآن وفي مراحل لاحقة متوقعة. يفتتح الدكتور البدواوي مقالته بشرح الرفض المستكين في أممنا حولالنقد التاريخي والتمحيص لموروثات المسلمينعلى الرغم من أنها قد تكون فرصة لإنعاش النصوص الدينية وجعلها قابلة للحياة! يعيدنا ذلك إلى الكثير من المجموعات البشرية – بغض النظر عن الديانة التي ينتمون إليها - التي باتت ترفض قولبة أفكارها وأدلجتها لمسارمعين دون إدراج الفهم ومخاطبة المنطق كشرط لذلك، وحواراتهم حول عدم اكتفائهم بإجابات الأسئلة التي تطرحها عقولهم حول الموروثات، وعن عدم قدرة رجال الدين مخاطبة المنطق لديهم. بطبيعة الحال إن كان من هو مكلّف بالإجابة لا يستطيع فعل ذلك فمن الأجدر الاعتراف إما بعدم معرفة الإجابة أو عدم الإلمام بها أو الاعتراف ببطلان السؤال أساسًا- والذي لا يتم قبوله كإجابة اليوم - من قبل العقلانيين المقرّين بعقلانيتهم والعقلانيين الذين لا يُدركون أنهم ينتهجون نفس النهج نتيجة التحولات الفكرية الحاصلة.

يشير الدكتور البدواوي أنّه اليوم وأمام هذا العجز الهائل في إيضاح الصورة ومخاطبة المنطق أصبح الإسلام والمسلمون (ضيوف الحضارة الثقلاء) لأنهم لم يقدموا شيئًا سوى العنف التاريخي المدمر، ما تثبته الأحداث الإرهابية وترسخه في أذهان الشعوب.وفرضا كان الحل في تجنب تبعات رفض التجديد يكمن في التمحيص والنقد ووضع القدسية الدينية التاريخية جانبا لا يزال استخدام الآيات كشعارات رنانة لتخوين وتكفير من يفعل ذلك حاضرًا على الرغم من أنه يُعتبر تكتيكًا فاشلاً ويؤخر طرح الأسئلة الحقيقية من قبل الأشخاص المناسبين (المسلمين أنفسهم)، بدلًا عن طرحها من جهات قد لا تكون محايدة بل وأقرب إلى التطرف، وهذا ما حصل بالفعل. ولنا فالبروتستانتية مثال،فبغض النظر عما إذا كان التحول من الكاثوليكية إلى البروتستانتية تحولًا سلبيًا أم إيجابيًا، إلا أنّ التغيير حاصل لا محالة وهذا ما تثبته الأدلة التاريخية في كافة المجالات.

وفي هذا السياق يشير الدكتور البدواوي أنه لابد أن نخرج من وضعية ضيف الحضارة الثقيل أو المسلم الحزين الذي لا حول له سوى التصدي والدفاع بحجة محدودية العقل البشري وعدم قدرته لاستيعاب كافة الأمور والكف عن الإشارة إلى أن المصادر الإسلامية لا تلزم العلم والتمحيص بل الإيمان بالعقيدة والتسليم. وأول خطوات إعادة البناءهي الاعتراف بوجود فراغات تاريخية؛ ففي نهاية الأمر التاريخ هو ما يقرر المؤرخ تسليط الضوء عليه من أحداث أو ما يود المؤرخ منّا تصديقه والاعتقاد بأنه حدثٌ مهم، فلو بحثنا في المعنى المفاهيمي للتاريخ، مجردًا يُشير إلى ذلك الحدث الذي تم انتقاؤه من بين سلسلة الأحداث في زمن معين قرر شخص ما الاعتقاد بأنه حدثٌ من المهم أن يعرف عنه البشر. والإقرار بهذه الحقيقة عن التاريخ قد يجعل الأمور أكثر سهولة. والأهم من كل ذلك الحيادية في سبيل الوصول لأمر مجدٍ وعدم التفريط في الأسس التي قامت عليها الحجج الدينية رغبةً في الاتصاف بالتحضر ومعاصرة التغييرات.

إنّ الثابت الوحيد عبر العصور وفي كافة مناحي الحياة لهو التغيير وحده، ولا مفر من هذه الحقيقة، ويبقى ما دون ذلك محاولات في الاتجاه الخاطئمآلها التخبط والانكماش. ويشير الدكتور أيضًا إلى مسألة النقل، حيث يذكر أنه لا مبرر من الاعتقاد بأن المصادر الإسلامية منقولة من مصادر شفهية موثوقة ووصلتنا كما هي دون أن يشوبها شيء من اللغط والتحوير بما يتوافق مع آراء وأفكار واعتقادات الناقل بقصد أو دون قصد. فيجدر بنا نحن كمسلمين أمام كل هذه الانتقادات والأسئلة المطروحة أن نُعيد النظر ربما إلى ما تم طرحه من قبلنا وهل نؤمن بذلك فقط لأننا أردنا ذلك وسلّمنا به، أم أنها حقيقة نؤمن بها عن قناعةٍ وإيمانٍ تام نستطيع الدفاع عنها دون الإشارة والرجوع والتبرير بالغيبيات ومحدودية العقل البشري؟

ونستطيع القول كذلك أن كل ذلك قابل للنقاش ما لم يمس الثوابت، أوليست الثوابت مقدّسة هنا! بالتالي نعود للنقطة الأولى ولنفس دائرة إزاحة القدسية عن أي معتقد أو أسس بنيت عليها قيمنا ومبادئنا بل الجانب الروحاني المتجسد فينا. ولربما إذا سلكنا هذا المسلك (التمحيص والسؤال) – بغض النظر عما إذا كان صائبًا أم لا – ربما نصل وحتمًا سنصل،فلابد من موقف أو شيءٍ يركن إليه الإنسان معنويًا؛ فالعدم واللاوجود أمرٌ لا فطري، أي مهما حاول الإنسان معنويًا التعايش مع هذه الفكرة سيصطدم بخوائه ويعيد النظر في الأمر. لابد من النظر إلى الأمور من منحى آخر وتقبل النقد، حيث أنّه لا توجد أمة ترفض نقدًا لموروثاتها العقائدية مثل المسلمين على الرغم من أنها قد تكون إحدى طرق إصلاح ما هُدم بسبب الثغرات التي خُلقتْ نتيجةَ الزخم الهائل من الأسئلة والتوجه نحو الحديث عن المنطق. على كلٍّ، كوننا نعيش في هذا الكون وتحت الظروف والمعطيات الراهنة، أوليسَ علينا أن نتعايش مع الواقع الذي وضعنا فيه وأن نقبل التحدي طالما أننا كمسلمين على صواب !؟

أخبار ذات صلة