فيصل الحضرمي
في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "القرآن الكريم ومشاهد الأمن بعد الخوف في حياة الإنسان"، يستعرض الباحث المغربي محمد المنتارتجليات مفهوم الأمن في القرآن الكريم، مناقشاً مستوياته المختلفة، وعلاقته بكل من الخوف، والإيمان، والاستقرار والازدهار.
ويستهل المنتار مقالته بتعريف لفظ "الأمن"، إذ هو مصدرٌ يحمل معنى الطمأنينة وعدم الخوف. وفي لسان ابن منظور "استأمن إليه: دخل في أمانه، وقد أمنته وآمنه، والمأمن: موضع الأمن، وأمن فلاناً على كذا وثق به، واطمأن إليه"، قال تعالى {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل}. أما الراغب الأصفهاني فيرى أن "أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف"، وأن الإيمان لا يقر في النفس في غياب السكينة والاطمئنان، فهو "التصديق الذي معه أمن"، كما في قوله تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، وقوله (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم). هكذا يخلص المنتار إلى أن المعنى اللغوي لمفهوم الأمن يتمحور حول ثلاثة أمور، هي: الشعور بالاطمئنان، والاستقرار والسكينة، وعدم الخوف والفزع.
وقد جاء ذكر الأمن في القرآن الكريم في عشرين صيغة، منها: أمِنَ، أمنتكم، آمنوا، آمنكم، تأمنّا، تأمَنْهُ، يأمن، يأمنوا. ونظراًلما للأمن من أهمية بالغة فقد عده الله سبحانه وتعالى منةً ونعمةً من كبريات النعم التي حبا بها خلقه، قال تعالى (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون). ويلاحظ المنتار أن لفظ "أمن" لم يرد في القرآن الكريم مقيداً بوصفٍ أو إضافةٍ، ما يعني أنه غير قابلٍ للتبعيض، فإما أن يتنعم الناس بالأمن كاملاً غير منقوص، وبأنواعه كافةً، وإما أن يعيشوا في خوفٍ وفزع، وخاصةً حين يتعلق الأمر بالمؤمنين، إذ أن الاستجابة للتكليف يترتب عنها تحقق النتائج الطيبة، وتوفر الخيرات. كما أن السياقات التي وردت فيها كلمة "أمن" في القرآن الكريم تدل على أن الأمن يتجاوز إطار الحياة الدنيا ليشمل الحياة الآخرة، كما في قوله تعالى (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة).
ويشير المنتار إلى الارتباط الوثيق بين الأمن وبين قيم التوحيد والإيمان والعمل الصالح في القرآن الكريم، كما في الآية الكريمة (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام) التي يرد فيها ذكر أحد مستويات أو أنواع الأمن، وهو الأمن العقدي أو الروحي، وكما في قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) حيث يدعو إبراهيم ربه بأن يحقق لقومه مستوىً آخر من الأمن، ألا وهو الأمن الغذائي. وبالإضافة إلى هذين النوعين، يورد القرآن الكريم أنواعاً أخرى من الأمن من قبيل الأمن النفسي، والأمن الاجتماعي، والأمن الاقتصادي، والأمن الديني، والأمن السياسي. وهذه الأنواع جميعها متصلة ببعضها البعض بحيث لا يمكن لأحدها أن يتحقق في ظل غياب الآخر. ويُجمل المنتار المعاني التي يحيل عليها لفظ "الأمن" في القرآن الكريم في ثلاثة، هي: الأمانة؛ وضدها الخيانة، والمكان الآمن، والأمن المقابل للخوف.
وفي معرض حديثه عن الخوف ونظائره في القرآن الكريم، يشير الباحث المغربي محمد المنتار إلى أن الخوف لغةً هو النقصان، فقد جاء في معاجم اللغة "خوفت الشيء: إذا أنقصته، ودينار مخوف: ناقص الوزن". كما قد يأتي الخوفُ بمعنى العلم، مثلما في قوله تعالى (إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود الله). أما نظائر الخوف في القرآن الكريم فقد حددها أهل الوجوه والنظائر في خمسة أوجه، هي: القتل، كما في الآية الكريمة (ولنبلونكم بشيء من الخوف) يعني: القتل، والحرب، كما في قوله تعالى (فإذا ذهب الخوف) يعني: الحرب، والعلم، كما في قوله عز وجل (فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً) أي: عَلِمَ، والخوف نفسه، كما في الآية الكريمة (لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)، والتخوف، بمعنى التنقص، كما في قوله (أو يأخذهم على تخوف) أي أن يبتليهم بنقصان أموالهم وثمارهم إلى أن يهلكوا.
وحول طبيعة العلاقة الجامعة بين مفهوم الأمن وبين شيوع الاستقرار والسكينة، والازدهار الحضاري والعمراني، يؤكد المنتار أسبقية الأمن على الاستقرار والازدهار، وكونه شرطاً لهما، لا نتيجةً تابعة. فالأمن في الرؤية القرآنية "شرط أساسي لقيام الإنسان بدوره الاستخلافي، وإقامة ضروريات الدين"، كما أنه محدد جوهري للازدهار والتنمية والاستقرار والنماء. ويضيف المنتار أن هذه الأسبقية التي للأمن على الاستقرار والازدهار اقتضت أن تكون العبادة معللةً بتحققه، وفي هذا يقول الشوكاني "ولولا الأمن بجوارهم البيت لم يقدروا على التصرف. أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن ذكر لهم ما أنعم به عليهم". في المقابل فإن أياً من مستويات الأمن المختلفة لا يتحقق إلا بحصول الإيمان والعمل الصالح، وهو ما تشير إليه الآية الكريم (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
ويختمالمنتارمقالته بإيراد ستةٍ من مشاهد الأمن بعد الخوف في حياة الإنسان كما جاء ذكرها في القرآن الكريم. أول هذه المشاهد هو ما وقع لإبراهيم عليه السلام مع الملائكة الذين جاءوا لتبشيره بإسحاق، قال تعالى (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ. إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ. قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ. قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)، وثانيها مشهد تحقيق الأمن مع لوط عليه السلام، قال تعالى (وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)،وثالثها مشهد علاقة الأمن بالخوف في سيرة موسى عليه السلام، كما في قوله تعالى (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين)، ورابعها مشهد قصة ثمود مع صالح عليه السلام، قال تعالى (أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)،وخامسها مشهد أمن الأوطان في دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى(وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير)، وسادسها مشهد الأمن بعد الخوف في تجربة قريش، كما في قوله تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).
