الفلسفة في عباءة التصوف: ابن عربي ومذهبه الإنساني نموذجًا

أم كلثوم الفارسية

إنَّ اهتمام الفلاسفة بالجانب الروحي قديم؛ فقد اهتم به سقراط وأفلاطون، كما ظهر اتجاه الفلسفة الغنوصية عند أفلوطين أو ما يسمى بالأفلاطونية المحدثة، ولاقت هذه الأفكار صداها في الفلسفة الإسلامية التي عاصرها ابن عربي فتجلّت هذه المعارف الجامعة بين العقل والروح في شيخ المشائين في عصره الشيخ الرئيس ابن سينا الذي اهتم بالتصوف كعلم وتنظير عقلي في معارفه الفلسفية، إلى جانب اشتغاله بالفلسفة العقلية المشائية الأرسطية.

ولاشكّ أنّ بين التّصوّف والفلسفة وشائج تُفرِغ على وعي المشتغل بهما إمكانات تفحّص بعض إشكالات الوجود والعدم، الحقّ والحقيقة، داخل حدود العبارة والمنطق،وأنالبحث في هذه التّخوم، والحفر في العلائق الممكنة بين الدّيني المجزّء والعقليّ الكلّي الميتافيزيقي، وما يترتّب على اجتماعهما من قيم الخير والجمال؛ والاشتغال بمسألة الماهيّة الإلهيّة، وفيض أنوارها على التّجربة الصّوفيّة، إضافة إلى مسألة الجمال بمفاهيم مجدولة ضمن إكراهات الزّمان والمكان، الكمّ، والعلّة، والكيف، هي جدالات مفتوحة بين العقل والإيمان.

وفي مقالنا هذا، نناقش مقالالدكتور محمد بن يونس -والمنشورة في مجلة "التفاهم"- تحت عنوان "العلم الإلهي بين التصوف والفلسفة عند ابن عربي"؛ حيث ذكر فيها تفصيليا واقع التصوف الممثل في شخصية ابن عربي وعلاقته بالفلســفة، والطابع المميز لها فــي حضورها كنمط للمعرفة يختلف تمام الاختلاف عن التصوف وطرق تحصيله، وكيف تعاملهما مع الإنســان والعالم والله.

حيث طرح الكاتب عدة أسئلة محاولا الإجابة عنها من خلال محاور مقاله؛ فتساءل: كيــف تعامل واقع التصوف مع الفلسـفة؟ هل قابلها بالرفض والنكران أو عمل على احتضانها وتطويرها؟ هل هناك حضور لما هو فلسفي في تصوف بنى هذا الحضور؟ وهل استطاع ابن عربي أن يكون نموذجا للتصوف؟ وكيف استطاعابن عربي أن يترجم اللقاء مع ابن رشد إلى لقاء مع الفلسفة؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات، نسلط الضوء على السيرة العلمية لابن عربي؛ حيث عاش الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي في النصف الثاني من القرن السادس الهجري وبدايات القرن السابع الهجري، وفي هذا العصر شهدت الحضارة الإسلامية تنوّعًا فكريًّا كبيرًا في مختلف العلوم الشرعية والفلسفية والعلمية، فقد ظهرت عدة مدارس فلسفية وفكرية تنوّعت أفكارها ومناهجها واتجاهاتها، إلَّا أننا يمكننا تصنيف هذه المدارس الإسلامية خاصة في دراستها للمباحث الوجودية والإلهية إلى ثلاث مدارس كبرى هي: المدرسة الفلسفية والمدرسةالكلامية والمدرسة الصوفية.

فالمدرسة الفلسفية التي عرفت تطورًا كبيرًا مع كبار الفلاسفة الإسلاميين حتى عصر الشيخ محيي الدين بن عربي بظهور الفقيه الفيلسوف أبي الوليد بن رشد الذي يعتبر من كبار شراح الفلسفة اليونانية. إن هذه المدرسة اعتمدت في دراسة مباحثها وقضياها الفكرية والعقائدية على العقل، فكان بذلك مصدرًا وحيدًا في إنتاج المعرفة الفلسفية، وقد ظهر إنتاج فلسفي كبير مع الكندي والفارابي وابن سينا وصولًا إلى ابن رشد الذي عاصر الشيخ محيي الدين بن عربي.

ويفرِّق محيي الدين بن عربي بصفة مطردة، بين المنهج العقلي الاستدلالي الذي يستخدمه الفلاسفة والمتكلمون أحيانًا كثيرة، وبين منهج الصوفية في المعرفة ويطلق عليه اسم (الذوق) ولذا نراه يصف الفلاسفة بأنهم (أصحاب فكر لا ذوق) في حين يصف الصوفية أنهم أصحاب أذواق وأحوال، لا أهل فكر واستدلال.

وبالرغم من أن ابن عربي أكد من خلال كتاباته وآرائه أنه لا يأخذ شيئًا من الفلاسفة والحط من قدرهم، إلا أنه ومن خلال تراثه وأقواله يمكن أن نستشف نزعته الفلسفية الواضحة، وأنه ذو ثقافة فلسفية واسعة وشاملة، وذلك لأنه اطلع على شتى ضروب الفلسفات والآراء والأهواء والملل والنحل، ولكنه هضم ذلك كله وأخرجه في صورة عقد لؤلؤي فريد وذات فلسفة خاصة، إنها أقرب إلى فلسفةإلهية وعرفانية، ومما يدعم صحة هذا القول أن ابن عربي كان يلقب بالأفلاطوني؛ لأنه يعد رمزًا لبعث فلسفة أفلاطون وفلسفة الإشراق في المشرق بعد رحلته إلى الشرق واستقراره فيها قادمًا من الأندلس (وطنه اﻷم) حاملًا معه الثقافة الأندلسية التي تتميز بانفتاحها وتنوعها وتشعب مسالكها وطرقها.

فالنظرية المعرفية العقلية والذوقية عند ابن عربي -والتي يطلق عليها المحدثون اسم الحدس العقلي أو الحسي، والذي يسميه أيضًا في كتابه "الفتوحات المكية" علم النظرة أو الضربة أو الرمية- تقوم على خصائص وآليات محددة، وأهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها اﻷول واﻷخير فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقًا ذاتيًا مع موضوعها، فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها، فالذوق موضوعه الحقيقة ذاتها، ولذلك يعرف ابن عربي الذوق بأنه (الشهود المباشر للحقائق). وتستند آليات نظريته المعرفية إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب ووظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها عين البصيرة والعقل الجزئي وعين اليقين ونور اليقين ويضاف إليها المعاريج الثلاثة يفضي بعضها إلى بعض والتي لا نحتاج فيها إلى أية ممارسة عقلية أو فكرية، وإنما إلى تصفية قلبية ومجاهدات سلوكية وأخلاقية، يتم بها تهيئة الذات للتلقي والرؤية الكونية، بحيث لا يكون "للمعرفة إلا الرؤية؛ فإنه لا شيء أوضح؛ منها إلا أنها حجاب على قدر المرئي".

وختاما نقول.. إنَّ موقف ابن عربي الإيجابي يدل على أنه كان يشتغل بالفلسفة؛ لذلك لا يروم اتخاذ موقف إقصائي من الفلسفة والحكم بالسلب والإقصاء؛ لأن في ذلك حكما بالسلب والرفض لفكره، ولا يمكن أن يرفض ابن عربي ما يقول به. إننا أمام وحدة معرفية؛ لكنها ليست وحدة إقصائية أو عدمية، وإنما وحدة إيجابية تقبل بالمواقف ولا تعدم المخالف، وحدة وجودية تعطي الوجود للنفي، وليس العدم، حتى النفي له دور وقيمة معرفية؛ لأنه لا يقصي المخالف وإنما يحتويه، ولا يعدمه وإنما يكشف عنه.

أخبار ذات صلة