إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث

أم كلثوم الفارسي

علاقة الفكر العربي بالمستقبل هي علاقة الماضي بالحاضر والماضي بالمستقبل والحاضر بالمستقبل. من هنا، تصبح جملة هذه العلاقات جدليات لإشكاليات ثابتة ومتحولة في الفكر والمجتمع والتاريخ. فالفكر العربي على اختلاف مرجعيّاته وتباين اتجاهاته وتنوع آلياته ومضاعفاته –منخرط بالضرورة في أنساق ومسالك الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي والعلمي في الحضارة والعالم المعاصرين.

ففي كل الحالات والإحالات، وباختلاف المنطلقات، تلتقي أسئلة الفكر العربي للمستقبل والمستقبل للفكر العربي في إشكاليات ثنائيات لم يحسم فيها بَعْدُ معرفيًا فلسفيًا وسياسيًا تاريخيًا واجتماعيًا: الحداثة التقليدية، المعاصرة، الأصالة، التقدم، التأخر، الاستقلال، التبعية، الديمقراطية، الاستبداد، الوحدة، التجزئة، العقل، النقل، الأنا، الآخر من تلك الثنائيات التي تمظهرت في العديد من أبحاث المفكرين العرب المعاصرين.

يحاول الكاتب مصطفى النشار في مقاله (المشاريع الفكرية العربية المعاصرة والمستقبل)إيضاح أنّ هذه الإشكالية مشروطة معرفيًا وتاريخيًا بشبكة علاقات المجتمع العربي بذاته ونوعية هذه العلاقات بالآخر، عبر التاريخ وموقفه منه وفعله فيه؛ حيث تلتقي أسئلة الفكر العربي للمستقبل حول مستقبل الفكر العربي على هيئة ثنائيات لم يحسم فيها بَعْدُ معرفيًا وفلسفيًا وسياسيًا وتاريخيًا. حاول البحث تحليل جوهر هذه الإشكالية، في ضوء المهمة الكبرى التي يواجهها هذا الفكر بكل فروعه والتي تتمثل في نقد المنظومات الغربية بالعلاقة مع الفكر العربي مستفيدًا من دراسة التراث العربي بغية تحديد ملامح المستقبل وإعادة بناء الشخصية التاريخية.

يمثل هذا البحث طموحًا لأن يشكل إسهامًا في بلورة البنية الفكرية العربية المستقبلية لمشروع بناء مستقبل الفكر العربي مع بداية القرن الحادي والعشرين، وما يحتاجه من استعداد ذهني كي تلعب الأمة العربية دورها الفعال على المسرح العالمي. وثانيًا في واقع البنية الاجتماعية–السيكولوجية لهذا الفكر في خصائصه وسماته وآلياته وديناميّاته وبما يتوفر له من إمكانات وما يعانيه من صعوبات.

والجدير بالذكر ما قدمه بعض المفكرين العرب من أطروحات جادة في مجال نقد العقل العربي من خلال التراث، يحدوهم هاجس تفكيك مكونات هذا العقل وهاجس التجديد والحداثة، وقراءة النص التراثي قراءة مغايرة جديدة مع محاولة توظيف مناهج حداثية، وطرح إشكاليات أكثر حداثة، لتشريح هذا التراث وفق أطر التفكير المنهجي والنقد الأبستمولوجيا؛ مع الانفتاح في تحليل التراث على الكثير من مقاربات ونتائج العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع واللغة. 

ولقد ارتبطت هذه الدراسات-التي تبلورت في شكل مشاريع عربية معاصرة-تاريخيا بالتراجعات السياسية في قضايا العدالة والحرية والتنمية؛ بحثا عن تحقيق بدايات جديدة لفكر نقدي في مجتمعات نطمح إليها هي مجتمعات المعرفة.

إلا أنّ المثقفين العرب اختلفوااختلافا جلياً إزاء المواقف من التراث. فمنهم من يقبل الغرب كله والتراث كله كما فعل العقاد ومنهم من يقبل الغرب كله وبعض التراث دون بعض كما فعل طه حسين. ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الغرب دون بعض، كما صنع الإمام محمد عبده، ومنهم من يجري تعديلاً في التراث وفي الغرب معاً، كما قام بذلك أحمد أمين وتوفيق الحكيم. ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معاً، فلا هو قد تعلم شيئاً من التراث العربي ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية خوفاً من أن يقال عنه أنه من أذيال الاستعمار.

فلو أخذنا عل ىسبيل المثال المشروع الفكري للمفكر الماركسي طيب تيزيني، كعينة لهذه المشاريع التي جاءت لتحدث ثورة تجديدية في الفكر والواقع العربي، لوجدناه خاليا تماما من أي إجابات لأسئلة الواقع العربي، فالرجل ينطلق من الماركسية كمدرسة فكرية وأيديولوجية، ويعمل جاهدا على إعادة بناء الفكر العربي الإسلامي وفق هذه الرؤية المؤدلجة، فبالرغم من وقوفه أمام مسار التاريخ الإسلامي، فإنه لم يقرأ الفكر العربي الإسلامي قراءة تاريخية، وإنما عمل على انتقاء لحظات تاريخية ليؤكد على حقيقة واحدة، وهي التسليم بالنظرية الماركسية باعتبارها حتمية تاريخية، وليس بعيدا عن تيزيني نجد المشاريع الفكرية الأخرى، تدور في فلك الايدولوجيا والحداثة، فالأمر سيان عند القومي أوالليبرالي أو الماركسي، القطيعة ثم القطيعة مع تراثنا الفكري والروحي، وهكذا نجد مشروع محمد عابد الجابري، ومشروع حسن حنفي، ومشروع حسين مروة، ومشروع محمد أركون، ثم سلسلة تلاميذ أصحاب هذه المشاريع في مصر والشام والمغرب العربي، كلها تعمل في خطة منتظمة وواضحة، وهي مواصلة مجهود الاستشراق في تخريب التراث، وليس تصفيته وتنقيته كما يدعي أصحاب هذه المشاريع الفكرية، بقي أن نقول إنّ الحسنة الوحيدة لهذه المشاريع، أنّها وقفت عند محطات مهمة في تاريخ تراثنا الفكري والمعرفي، يمكن لأصحاب الضمائر الحية والأصيلة، أن تعمل في اتجاه مشاريع فاعلة وأصيلة، تقرأ التراث قراءة صحيحة وفق تصور شامل للمعرفة الإنسانية، تستفيد منها وتستأنس بها في عملية النهوض الحضاري الذي ننشده، ثم تتجاوز هذه المشاريع المتهافتة التي أضرت بمشروعنا النهضوي.

وهنا نطرح السؤال المقلق للدكتور زكى نجيب محمود في كيفية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في التراث العربي أو على حد تعبيره نصاً وحرفاً:"كيف السبيل إلى دمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آن ". وأبان أنّ المشكل الرئيسي في الثقافة العربية أنّها "ثقافة لفظ" ولا بد من تحويلها إلى "ثقافة علم وصناعة" وأن الاهتمام بتراثنا بغية المحافظة على هويتنا لا تكمن في وجود الكتب المحتوية على هذا التراث وإنما الأمثل هو أن تتحول عن طريق ثقافاتنا إلى وجهة نظر حية تدفع صاحبها في مسارب الحياة اليومية العملية، لا سيما وأنّ كل خطوة يخطوها الإنسان تكمن وراءها خلفية فكرية استمدها من التقاليد بالتربية أو من الدراسة بالتعلم أو استمدها من التأمل النظري الذي يتحول إلى عمل تطبيقي.

ختاما ندعو إلى استعادة النموذج العربي - الإسلامي كما كان قبل عصرالتدهور الفكري أو على الأقل الاعتماد عليه لبناء نموذج عربي - إسلامي أصيل يقتبس من النموذج الغربي وفي نفس الوقت تكون لديه حلوله الخاصة لمستجدات العصر، ولا ضير الأخذ بأفضلما في النموذجين المذكورين أعلاه والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوفر لها الأصالة والمعاصرة.

أخبار ذات صلة