ناصر الكندي
بقدر ما يتباعد الدين عن المضمار السياسي والمدني في أوروبا، تجد أنّ هذا التباعد يتقلّص بل ويغازل الدين فيه الشعب والأسواق الرأسمالية في أرض العالم الجديد: الولايات المتحدة الأمريكية. وتُسمى هذه التيارات التي تحاول توطين نفسها في الحياة الحديثة الغربية بالإنجيليات الجديدة حسبما أشار إلى ذلك الكاتب التونسي "عز الدين عناية" الأستاذ في جامعة روما الإيطالية في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان "الإنجيليات الجديدة بين الاضطراب وعودة الدين".
ويحيل الكاتب التونسي السبب في نشأة الإنجيليات كرد فعل على البروتستانتية التقليدية التي استنزفها التدافع المحموم مع الكاثوليكية طيلة قرون، وتقليص سلطة الدين وصهرها قسريا داخل مجتمعات مُعلمَنة. ولم يلتفت علماء الاجتماع الأمريكان كثيرا إلى أطروحات نظرائهم في أوروبا وخصوصا الفرنسي بيير بورديو وذلك في متابعة التحولات الدينية، بل ابتدعوا طرقا جديدة تستند إلى ما يسمى باقتصاديات الدين والسوق الدينية التي يعد أبرز أعلامها اليوم رودناي ستارك ودارن شركات. فإذا كان بورديو يهتم بالتوترات والصراعات في حقل الدين ومسألة إنتاج الحقيقة، فإنّ الجانب الأمريكي سيعنى بمسألة ما الذي بوسع الدين تقديمه فعليا للناس؟
وتسمى هذه الحركة الدينية النفعية في أمريكا بالمحافظين الجدد أو "النيوكون"، وتنطلق من حقيقة تراجع القيم الخلقية الجامعة بين الأمريكان في العقود الأخيرة، بل إن هذا التوجه امتد حتى عند اليهود وجمع الديانتين على فكرة وجدة التراث اليهودي المسيحي والقيم الكتابية المشتركة. وقد تجلى البعد السياسي لهذا التيار في شخص الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتوظيفه لهذا التوجه الجديد في مسار السياسة الأمريكية.
وتعج الساحة الأمريكية بكنائس عديدة تتبع هذا المسار اللاهوتي الجديد، إلا أنّ المؤرخ دافيد بيبنتون حاول ضبط تعريف جامع لهذا الشتات من خلال أربعة عناصر مشتركة بينها وهي: الاهتداء، والنشاط، والتمركز الكتابي، والصليبوية. وعلى غرار النزعة السوقية التدخلية على المستهلك، كان غرض السوق الدينية إحكام القبضة على أذواق المتلقين وعقولهم عبر سلطة معنوية رمزية. ويكون ذلك من خلال اعتبار الأسواق الدينية تحوي مكافآت ماورائية ووعودا مستقبلية، وأن العلاقات الاجتماعية هي مصادر الاستعلام عن البضائع الدينية، وأن المنظمات الدينية هي شركات معهود لها بإنتاج القيم.
وتقوم فلسفة التبشير لدى الإنجيليات الجديدة على أساس التنافسية والنزول لحاجات الطبقات الدنيا، ويعد الداعية الإنجيلي التلفزي بيللي غراهام (1918-) أحد الأيقونات الكبرى للحركة الإنجيلية الجديدة، والذي كان قريبا جدا للعديد من الرؤساء الأمريكيين مثل ايزنهاور ونيكسون وجونسون. ومن ضمن أسباب سطوع نجمه تلاحمه مع النظام الرأسمالي إبان الموجة الشيوعية. ويحدد غراهام في كتابه "سلام مع الرب" الخطوط اللاهوتية الكبرى للإنجيلية المتمثلة في التطلع للتقوى والتمسك العقائدي الأرثوذكسي والعمل التبشري. ويركز غراهام على مفهوم الولادة من جديد الوارد في إنجيل يوحنا من خلال ثلاث مراحل: الوعي بحالة الخطيئة، والتوبة، وتقبل نعمة الرب عبر يسوع المسيح.
وفي حين كان غراهام يتوجه للعامة في خطابه التبشيري، فإنّ رفيقه البروتستانتي كارل بارث (1886-1968) كان يتوجه إلى الخاصة أساسا. بينما اتخذ الداعية الإنجيلي راينولد نابيور (1893-1971) مسارا مختلفا من خلال نقده اللاذع للرأسمالية وهو ما أدى إلى خلاف حاد بين نايبور وغراهام، هذا الأخير الذي لطالما كان مهادنا للنظام الرأسمالي.
ويختلف التبشير في أوروبا عن أمريكا التي تميل إلى التصدير، ففي الوقت الذي غدا فيه المرء يذهب إلى الدين بمفرده في أوروبا نجد الدين في أمريكا يلتقي بالناس، ضمن تنافس محموم بين الكنائس لعرض بضاعتها للمستلهكين. بل إنّ التبشير الأمريكي يتلوّن في عدة مشارب لإقناع الجمهور والتوفيق بين الوضع الجديد الروحاني الحداثي والتقليدي، فكان أن حوّل فكرة الصدام الاجتماعي مع النظام إلى الاكتفاء بالروحانية الفردية التي تعوّل على الذات، والذي عبّرت عنه الكاتبة الإيطالية أوريانه في قولها: "أنا مسيحية ملحدة". ولعل ظاهرة انتشار الكنائس العملاقةmegachurches هي محاولة لابتلاع الناس تحت قبة دينية تكثر فيها الأنشطة الدنيوية التي تلهي عن القضايا الاقتصادية والسياسية الكبرى.
وإلى جانب الكنائس العملاقة اتجهت الإنجيليات الجديدة الى المؤسسات التعليمية أيضا. ففي الوقت الحالي نجد في أمريكا ما يزيد عن تسعمائة مؤسسة تعليمية بين جامعة ومعهد ذات منحى إنجيلي، وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تم إنشاء نحو خمسين جامعة أصولية؛ وهي مؤسسات تهدف ضمن مقرراتها لخلق مصالحة بين متطلبات الحداثة التعددية والإلزامات الخلقية والعقدية للإيمان الأصولي.
ولم تكتفي هذه الإنجيليات بالتمدّد على المستوى المحلي، فقد اعتمدت استراتيجية للتصدير نحو الساحة العالمية وذلك من خلال تذليل عقبتين: إضفاء مسحة إنسانية خيرية على الأنشطة الإنجيلية، وتطبيع العلاقة مع الكنيسة الكاثوليكية والتخلي عن العداء المترسخ بين البروتستانت والكاثوليك. ويتضح ذلك الغزل بالنسبة للعقبة الثانية من خلال منح جامعة"بلمونت أبّاي" الكاثوليكية بيللي غراهام الدكتوراة الفخرية سنة 1967ولقاء بيللي الأول بحبر الكنيسة الكاثوليكية عام 1981م والذي تم فيه مناقشة المسؤوليات الأخلاقية للمسيحيين في عالم اليوم، وتنسيق العمل في جبهة مشتركة ضد المعسكر الاشتراكي. كما توغّلت الكنائس الإنجيلية في شبه الجزيرة الإيبيرية إذ بلغ عددها في إسبانيا 3759 كنيسة يحوز الإنجيليون منها 90 %، كما تم التوغل أيضا في القارة السمراء في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
وتتسم علاقة الإنجيليين بالعالم الإسلامي بالعداء وذلك عل النقيض من علاقتهم باليهود، فالتناغم السائد مع الدولة العبرية يستند إلى اعتقاد شائع في أوساط المسيحيين مفاده أن انبعاث دولة اسرائيل دليل حاسم على عودة المسيح، بينما ناصب الإنجيليون الإسلام العداء وعدّوه دينا زائفا ينبغي ترويضه، ولذلك استلزم وجود محاولات لثني المسلمين عن دينهم من خلال نشاط الإنجيليين عبر منظمة Arab World Ministries التي تزعم إعلان البشارة والخلاص بين العرب، كما يتم استغلال الكوارث والحروب في سبيل التبشير من خلال الأعمال الإنسانية والخيرية، فبيللي غراهام حلّ على أرض العراق إبّان الاجتياح مدعيا تقديم المساعدات الروحية والمادية للعراقيين، فكان توزيع الألبسة والأدوية مصحوبا بالكتاب المقدس. كما دفعت فكرة العودة لفلسطين كمقدمة للظهور الثاني للمسيح إلى حثّ الإنجيليين من قبل القادة مثل بيللي غراهام وابنه فراكلين وجري فالوالللتوجه إلى فلسطين وتمويل مشاريع الهجرة إلى إسرائيل وبناء المستوطنات، ويقدر عدد الإنجيليين المستوطنين في إسرائيل زهاء خمسة وعشرين ألفا.
أخيرا يتساءل الكاتب عن أي اتجاه يسير شعب الكنيسة في القرن العشرين؟ ويجيب من خلال المؤرخ الأمريكي فيليب جنكينز في كتابه "الكنيسة الثالثة. المسيحية خلال القرن الحادي والعشرين" بتنبؤه بظهور كنيسة جديدة ذات طابع إنجيلي طهري رؤيوي تبشيري.
