التفاوت المنهجي بين العلوم التجريبية والإنسانية

قيس بن حمود المعولي

التشارك المعرفي والمنهجي بين العلوم يُؤسِّس لنظريات وفرضيات تعزز فرص التقدم والتطور العلمي والعملي التجريبي، الذي يقوي القاعدة العلمية في العلوم التجريبية أكثر منها في العلوم الإنسانية، إلا أن هذا لا يمنع تشارك المناهج لكلا الطرفين التي كل منها يبني الآخر ويكمله؛ بما يناسب الطبيعة البشرية يضمن لها استمراريتها وديمومتها العلمية، ولكنَّالإشكال الأعظم هو الإشكالات المعرفية والمنهجية بين هذين الجانبين في النظريات، وطرق التجربة والتوصل للمعلومة التي أنشأتْ بعض التفاوت بينهما. وهذه كلمات تلخص ما نشره الباحث أحمد الفراك في أطروحته"إشكالات معرفية ومنهجية بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية" المنشورة - بمجلة "التفاهم".

إنَّ اكتسابَ العلم البشري يتم بعدة طرق؛ منها: الملاحظة والمتابعة والتفكر والتمعن والتجربة، ولكن بعض العلوم والتفاصيل التي لا يستطيع العقل البشري التوصُّل إليها ومعرفتها معرفة تامة واضحة، جاء بها الوحي؛ فهو جاء يقدم أصولَ المعارف والعلوم ووسائلها التي يتمكن من خلالها الإنسان من توسيع مداركه وآفاقه، والاطلاع على الجوانب العلمية والعملية. ثمَّ إنَّ الملاحظة والتمعن والتفكر وغيرها هي في الأصل تندرج تحت القسم الثاني من مصادر اكتساب المعرفية الكونية، ألا وهو الكون المبتوت الذي يستطيع من خلاله الفرد أن يُتابع ويتفكَّر وينظر. يقول عز وجل: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)" (سورة الغاشية).

إنَّ الحصول على العلم يحتم على العالم والباحث والمفكر أن ينظر في المناهج المتاحة له كل حسب تخصصه ونتائجه، ولكن تشعُّب هذه المناهج وعدم ثباتها واقتصارها على طرق وأساليب معينة أدى لمصاعب في طريقة التجربة العملية وطريقة استخلاص النظرية والفرضية؛ مما أسَّس لمناهج تختص بالعلوم التجريبية وأخرى بالعلوم الإنسانية، وهنالك من جمع بينهما؛ حيث وجد مسارا يستطيع من خلاله العالم أن يبحث في الجانبين بصورة أسهل.

إنَّ المنهجَ التجريبيَّ هو الأنسب للعلوم التطبيقية؛ لأنه يتمثل في الحصول على نتائج واقعية تناسب العلم المراد تحصيله، ويتمكن من خلاله العالم والباحث ملاحظة النتائج والفرضيات، والتأكد من صحتها قبل نشرها ليتم مصداقية نظرياته ولو نسبيا حتى يتوصل إلى الحل الأمثل، ويتم ذلك من خلال خطوات عدة تبدأ من خلال التعرف على المشكلة الرئيسية وتحديدها، ومن ثم دراسة ومراجعة المشكلات السابقة، والتعرف على نتائج الدراسات المرتبطة بالدراسات السابقة؛ مما يقود لعرض وصياغة الأسئلة والفروض المناسبة التي هي بدورها السبب الرئيس في وضع تصميم تجريبي للمشكلة يقود لاختيار عينة البحث واختبارها وتحديد أفراد عينات البحث والمجموعات المطلوب دراستها، ثم البدء في تقسيم عينة البحث بشكل عشوائي ما بين مجموعتين أو مجموعات عدة وجمع البيانات وإجراء الاختبارات المطلوبة البعيدة، ومن بعد عرض وتحليل وتفسير النتائج والبيانات وتنظيمها، وعمل تقرير يفيد بقبول الفرضيات أو رفضها ونهايته عرض النتائج والمقارنة بين النتائج السابقة والنهائية على هيئة تقرير نهائي يناسب أغراض النشر والتوصيات.

أمَّا أهداف هذا النوع من المناهج، فهو تفسير البحوث النفسية والتربوية:تعد التفسيرات المبدئية مرحلة متقدمة من البحث العلمي، وتلي المرحلة الوصفية، فهي تقوم في الأساس علىتكوين شبكة عميقة بين سبب المشكلة وأثرها وبعض التفسيرات المبدئية حيث يمثل التفسير محورا رئيسيا في البحوث النفسية والتربوية وتنتمي التفسيرات المبدئية إلى فئة الفروض التي يتم جمعها بطريقة مناسبة من خلال البيانات التي يقوم بوضعها الباحث.ثانيا: التنبؤ بالدراسات التجريبية: تعتمد هذه المرحلة على حاجة البحوث إلى التنبؤ فهي تعد مرحلة متقدمة عن التفسير وينتمي التنبؤ إلى مرحلةالمنهج التنبؤي؛ مما يهدف للتحكم في المتغيرات ببعضها البعض بالنسبة للدراسات التجريبية في عدة مستويات معقدة. وهذا المنهج قد أنشأ للأهمية الجانب التجريبي في العلوم التطبيقية.

بينما نجد أنَّ أساسَ العلوم الإنسانية هو البحث العلمي والتدقيق المعرفي الذي يُوافق الفطرة البشرية، وهو يعتمد على البحث في الجوانب الروحية، وأيضا يأخذ الوحي فيه جزءًا لتأصيل معارفه وأهدافه، وهو أسلوب منظَّم في جمع المعلومات الموثوقة وتدوين الملاحظات والتحليل الموضوعي لتلك المعلومات باتباع أساليب ومناهج علمية محددة بقصد التأكد من صحتها أو تعديلها، أو إضافة الجديد لها، ومن ثم التوصل إلى بعض القوانين والنظريات والتنبؤ بحدوث مثل هذه الظواهر والتحكم في أسبابها. وهي وسيلة يمكن بواسطتها الوصول لحلِّ مشكلة محددة، أو اكتشاف حقائق جديدة عن طريق المعلومات الدقيقة، والبحث العلمي هو الطريق الوحيد للمعرفة حول العالم. فالبحث العلمي يعتمد على الطريقة العلمية، التي تعتمد بدورها على الأساليب المنظمة الموضوعة في الملاحظة وتسجيل المعلومات ووصف الأحداث وتكوين الفرضيات. وهي خطوات منظمة تهدف للاكتشاف وترجمة الحقائق. هذا ينتج عنه فهم للأحداث والاتجاهات والنظريات ويعمل على وجود علم تطبيقي خلال القوانين والنظريات.

وختام ذلك ما ذكرته الأستاذة المحاضرة قلامين صباح، في إحدى مدوناتها، وهي قراءة أبستمولوجية لإشكالية المنهج العلمي في العلوم الإنسانية: "لذلك تبقى العلوم الإنسانية الآن ضرورة تفرض نفسها كمعرفة تزداد يوما بعد يوم، كما تبقى الجوانب الروحية من المكونات الاساسية للظاهرة الإنسانية؛ فاستبعاد الوحي الصحيح وكل المعارف الدينية كمصدر لمعرفة الإنسان هي أسباب أساسية للصعوبات التي تواجهنا اليوم في فهم الإنسان والمجتمع وفي التضارب النظري الذي يعيق تقدم العلوم الاجتماعية. وعليه، فإنَّ تحقيق التقدم المنشود في تلك العلوم لا يمكن أن يتم إلا من خلال إعادة نظر جذرية في المسلمات الأنطولوجية والإبستمولوجية المعرفية التي تقوم منهجية العلوم الاجتماعية عليها؛ وذلك في ضوء التقويم النزيه لإنجازات تلك العلوم حتى الآن من جهة، وفي ضوء التطورات الحديثة في فلسفة العلوم من جهة أخرى".

أخبار ذات صلة