النظرة الاستشراقية لبداية انتشار الإسلام في الغرب

أسماء عبدالله القطيبي

في بحثه عن"انتشار الإسلام في الرؤى الاستشراقية"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يتَّخذ أحمد الزعبي من المستشرق توماس آرنولد نموذجا، وهو واحد من أهم المستشرقين الذين عاشوا في البلاد الإسلامية كمصر والهند، وتحدثوا اللغة العربية وقاموا بتدريسها. وله عِدَّة مؤلفات؛ من أبرزها: "الدعوة الإسلامية"، و"الخلافة"، و"المعتزلة"، كما له مؤلفات أخرى عن الفن الإسلامي وتطوره عبرالتاريخ.

يستفتحالزعبي مقاله بالحديث حول آراء المستشرقين في الغزوات زمن الرسول، ذاكرا أنَّ أغلب المستشرقين لم تكن لهم نظرة منصفة وعميقة لأسباب هذه الغزوات،مُلحقا حديثهبشرح مُفصَّل لأسباب ومبررات الغزوات أو الفتوحات الإسلامية. وإذا ما نَظرنا للأسباب التي أوردها، فسوف نجد أنها حجج قائمة في الأصل على افتراض أن الأصل في الإسلام هو السلم، كما أن بعضها مستقَى من النصوص الدينية التي لا تصلح حجة لغير المسلم. ومثال ذلك: الحجة التي أوردها في أنَّ النبي جاء رحمة للبشرية كما ذكر القرآن الكريم، ومنها قِصة دخول أهل المدينة للإسلام وغيرهما. وهي حجج تبدوغيرمنطقية لمستشرق يطرح أسئلته دون افتراضات مسبقة، أو محاذير معينة، لاسيما للمستشرق الذي يتعدَّى بحثه عصر النبوة إلى عصر الصحابة والتابعين، وما تخللهما من خلافات سياسية ومناحرات حول الحكم والسلطة.

يقول أحمد الزعبي -في مقاله عن انتشار الإسلام في الروئ الاستشراقية: "إن الجهاد لم يشرع لأجل إجبار الناس على دخول الإسلام قهرا، وإنما الغاية العظمى هي تطهير الأرض من أجواء الفتن، حتى يتم تعبيد الناس لله رب العالمين وحده"،ومن وجهة نظر شخصية تبدوهذه العبارة عبارة مراوغة، فهو ينفي أن يكون الهدف من الجهاد الإجبار على الإسلام، لكنه يضعالتوحيد شرطا لإيقاف القتال. والتوحيد -كما نعلم- هو الدخول في الإسلام وعقيدته وأحكامه. وبالتالي؛ فإن الهدف الأساسي للجهاد هو الدخول في الإسلام، حتى بالنسبة لتلك المجتمعات التي كانت تعيش في استقرار ورفاهية مثل مملكة الفرس. لذا فمن الطبيعي أن يجد المستشرق في هذه الحجة سببا للتشكيك في شرعية الغزوات من منظوره الإنساني.والتساؤل حق مشروع لأي باحث بغض النظر عن الأسباب الخفية التي نفترضها فيه.

وتناولًا للنموذج الذي قدمه الباحث الزعبي وهو المستشرق توماس آرنولد، الذي تحدث في مقدمة البحث عنه بقوله: "وقد خلت كتاباته -أي توماس- من أي زلات وهفوات"، وهو أمر مستغرب من باحث يتخذ من الشك طريقة للوصول للحقيقة، ولكن لعل الحماس قد أخذ به مأخذا كبيرا بحيث ذكر هذا من باب المبالغة في المدح.والحق أن رحلة توماس العلمية رحلة حافلة تنقل فيها بين كونه محاضرا وباحثا إلى كونه مشرفا واستشاريا، ولشدة تغلغله في نسيج المجتمع المسلم في الهند تطبع توماس بطبائع الناس هناك ولبس زيهم، بل وصل به الأمر إلى أنْ أسَّس جمعية "أنجمن أنعرض"، وهي جمعية تهدف للتجديد في الدين وتسعى لتقديم مقترحات تقارب بين الدين الإسلامي والثقافة الغربية. وهي ذات الفكرة التي تبنَّاها في كتابه الأشهر "الدعوة إلى الإسلام"، حيث اتخذ فيه منهج المقارنة بين الفكر الإسلامي والمسيحي،وبالأخص كيفية انتشار الديانتين، فالدين المسيحي -حسب كلام توماس- انتشر بالعنف والقتل والتعذيب، بينما الدين الإسلامي انتشر سِلما بين المجتمعات لما به مندعوات للعدل والتسامح والمساواة، وجاءت الغزوات لاحقا لتخلص الشعوب من ظلام حكامها الكفار. ورغم أن هذه المقارنة تبدو في ظاهرها مدحا للإسلام وسلميته، إلا أنَّ المتتبع لشروحات المستشرق توماس يجد أن ما أراد قوله هو أنَّ الإسلام لم ينتشر في البلاد المسيحية إلا بسبب أخطاء رجال الدين المسيحي وعدم قدرتهم على التعامل الذكي مع مخالفيهم؛ فالمسألة سياسية أكثر منها عقائدية،وليس للفكر الإسلامي الدور الأبرز في انتشار الدين الجديد. وهو تفسير انتقده الكثيرون، مُعتبرين أنه تقليل من قوة الرسالة المحمدية وتأثيرها.

لقد أرادَ المستشرق الغربي توماس آرنولد أن يبدو حياديا في تناوله لأسباب انتشار الإسلام؛ بحيث أنه أرجعه لعوامل تتعلق بالشرق مثل الفكر الإسلامي، والقوة الاقتصادية الناشئة، والحماس الجمعي للدولة الجديدة، وأرجعه أيضا لعوامل تتعلق بالغرب نفسه؛ حيث كانت الكنيسة تعاني من اضطرابات داخلية، وكانت تستخدم العنف الذي أشعل نيران الكراهية تجاهها في العديد من الدول مثل النرويج. ولا يمكن بأي حال إنكار هذا العامل المهم الذي مهد الطريق لانتشار الدين الإسلامي بسهولة ويسر. ولا أجد في ذلك انتقاصا للإسلام وعقيدته فصيرورة الحياة تحتم مسألة تبدل موازين القوى وتداولها بين الأمم.

إنَّ مُؤلفات آرنولد وغيره من المستشرقين، وخطاهم الجادة في مد جسور التواصل بين الشرق مع المغربمحاولات تستحق الالتفات كونها غيرمبنية على أيديولوجيات شرقية، وخالية من رواسب الثقافة المشوبة بالخوف من العذاب والعقاب، كما أنَّها منفتحه على تجارب مختلفة ثقافيا واجتماعيا،وليس من داع للتوجس الكبير الذي يضعهكثير من الباحثين العرب حول نوايا المستشرقين وأهدافهم المخفية،بل لعل هذه الهواجس تقف حجر عثرة في نمو الأفكار والتجارب الواعدة بما يخدم المجتمعات الإسلامية التي تعيش فترات ضعف، خاصة بعد التشويه الكبير الذي تعرض له الدين الإسلامي على أيدي الجماعات المتطرفة، والذي عمق حجم الهوة بين المشرق والمغرب، وأدى لأعمال عنف وعنصرية في فرنسا وأمريكا ونيوزلندا...وغيرها. فلعل بها تتقلص الهوةونصل إلى أرضية تفاهم مرضية بين الشرق والغرب.

أخبار ذات صلة