تأملات في التعليم الديني ببادية المغرب

فيصل الحضرمي

في بحثه المنشور بمجلة "التفاهم"، تحت عنوان "التعليم الديني بالجوامع القروية.. شهادات من الماضي وتأملات في الوضع الراهن"، يُناقش عبدالهادي أعراب الأستاذ الباحث بجامعة شعيب الدكالي المغربية، مسألة التعليم الديني -القرآني على وجه الخصوص- في قرى البادية المغربية، مستعرضاً التغير الذي طرأ على وظائفه وأساليبه عبر العقود، والتصورات الدائرة حوله، والآراء الناقدة له، وتلك المدافعة عنه.

ينطلق البحث من بضعة أسئلة محورية حول ما تبقى من التعليم القرآني بالبادية في الوقت الراهن، وعن مكانته اليوم مقارنةً بالمكانة التي عرفها في سالف العهد، وعمَّا إذا كانت الأدوار التدريسية المنوطة بالجوامع القروية قد تغيرت عما كانت عليه سابقاً. كما يتساءل الباحث عن التحولات التي مر بها هذا النوع من التعليم، سواء ما يتعلق بمحتوى التدريس، أو بأساليب التأديب والعقاب. وقد أجاب الباحث عن هذه الأسئلة عبر دراسة ميدانية أجريت في إقليم خريبكة، وسط المغرب، وتضمنت مجموعةً من استطلاعات الرأي.

يستهل الأستاذ أعراب بحثه ببيان الأدوار الدينية والتعليمية والاجتماعية والتنظيمية التي يضطلع بها الجامع في قرى البادية البعيدة عن المدن والمراكز الحضرية؛ حيث تغيب مؤسسات الدولة بشكل كامل، فيصبح الجامع هو المكان الذي يتم فيه تعليم الأطفال، وغسل الموتى، وإيواء الغرباء، وعقد الاجتماعات لتدارس شؤون القرية، وتخزين مياه الشرب في شهور المحل والجفاف، إضافةً لوظيفته الطبيعية المتمثلة في كونه داراً للعبادة، والتي تمنحه صفة القداسة التي يتمتع بها.

يُركِّز البحث على الدور التعليمي للجامع القروي؛ فقد كان دائماً بوابة القرويين الأساسية إلى التكوين الديني والعلمي؛ ففيه يتعلم الصبية القراءة والكتابة، وفيه يحفظون القرآن الكريم بواسطة الترديد والاستظهار. إلا أن الحقبة الاستعمارية، وما صاحبها من تهميشٍ للغة العربية والتعليم التقليدي، ثم نشأة الدولة الوطنية وما تلاها من انتشارٍ للمدارس العصرية وزحفٍ للثقافة الحضرية، أدت إلى إضعاف الدور التعليمي للجامع القروي، وإلى أفول نجم الكتاتيب.

وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي اتسم  بها التعليم الديني على الدوام، سيما بالنسبة لسكان القرى والأرياف، إلا أن طريقة التعليم التي اعتاد اتباعها الفقهاء المضطلعون بمهمة تلقين الصبية مبادئ القراءة وحفظ القرآن الكريم، والقائمة على تكرار القراءة بهدف الحفظ، وما شاب هذا النوع من التعليم من قسوة وعنف، إضافة لضعف مستوى الفقهاء بشكل عام، وغياب مكان مخصص للدراسة أسوةً بالمدارس العصرية، جعل من التعليم الديني عرضةً لانتقادات العديد من الباحثين الأجانب، كما من المغاربة أنفسهم.

 فقد رأى ليفي بروفنصال أن في أسلوب الترديد والاستظهار ترويضاً للذاكرة، وإضعافاً لمهارة البحث، وتعطيلاً لملكة الفهم. كما انتقد باحثون آخرون الحفظ بوصفه أسلوباً بيداغوجياً (تربوياً) تتميز به الكتاتيب القرآنية والتعليم الديني عامةً. ويشير أعراب إلى ما في هذه الانتقادات من تحاملٍ وإطلاقية. فقد كان الحفظ شائعاً أيضاً عند الإغريق والرومان الذين ابتكروا وسائل مختلفة لتسهيل عملية الحفظ. كما أن الاعتماد على الحفظ التام (عن ظهر قلب) في التعليم الديني أقرب لأن يكون منزعاً اختص به المغرب أكثر من غيره من بلدان العالم الإسلامي. فالعمانيون مثلاً -وفق ما أورده ديل أيكلمان في كتابه "المعرفة والسلطة"- يكتفون بالقراءة الصحيحة للقرآن الكريم دون حفظ. وترى فاني كولونا أن الانتقادات الغربية الموجهة لطرق التعليم في الكتاتيب والجوامع، وفي مقدمتها الحفظ، إنما تعكس هيمنة تصور عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم الناقد للتعليم السكولائي في أوروبا، والذي يبدو أن الباحثين الكولونياليين قد تأثروا به.

أما منتقدو التعليم الديني من المغاربة، فيمكن ملاحظة "النفس الخلدوني" الذي تتسم به انتقاداتهم. فقد اعترض ابن خلدون (ق. 14 ميلادي)، وكذا مجايله ابن عربي، على استعمال العنف والعسف والقهر في تعليم الصبية. إذ أن من شأن هذه الطرق -بحسب صاحب "المقدمة"- حمل الصبي على الكذب والكسل والخبث، وتثبيطه عن اكتساب الفضائل، وجعله عالةً على غيره. لكن كاتب البحث يلفت النظر إلى أن التعليم الديني لم يقتصر دوره على نقل المعرفة فحسب، وإنما عمل أيضاً على إدماج الفرد في محيطه الاجتماعي، ملبياً احتياجاته المعرفية والدينية والثقافية.

فإذا ما انتقلنا من الحفظ إلى القراءة والكتابة، وجدنا "قلة قليلة" من الفقهاء يمتلكون ناصيتهما بشكل يسمح لهم بإتقان علوم وآداب الثقافة الكتابية، وفك رموزها. ومع أن المجتمع القروي تغلب عليه سمة "الشفاهية"، إلا أنه لا يمكن إغفال الطابع السلطوي والقدسي للكتابة بالنسبة للقرويين، فهي تحيل إلى سلطة الدولة وسلطة الدين معاً. كما أن الكتابة تتيح لمتعلميها آفاقاً أرحب، وبات أمراً محرجاً للقائمين على التعليم الديني أن تقتصر ثقافتهم على الحفظ دون الكتابة، في مقابل توسع نطاق المتمرسين في القرى.

لقد سعت الدولة المغربية إلى تحديث الكتاتيب منذ عام 1968، إلا أنَّ التحديث الذي عرفته الكتاتيب القروية -من وجهة نظر الكاتب- كان تلقائيًّا، وبعيداً عن أي تدخل رسمي. فبغرض منافستها، راحت الكتاتيب تحاكي المدارس شيئاً فشيئاً، خصوصاً عبر مبادرات الفقهاء الشباب. هكذا أدخل الفقهاء السبورة والطباشير إلى التعليم الديني على غرار المدارس الحديثة. كما خصص بعضهم وقتاً لتعليم الأناشيد، وأتاح بعضهم الآخر للصبية أن يمارسوا التمارين الرياضية بجوار الجامع. أما أساليب العقاب الجسدي فقد اختفت بانحسار ذهنية "أنت تذبح، وأنا أسلخ" التي كانت تشجع فقهاء الماضي على اعتماد العنف في تأديب الصبية.

وقد أجرى الباحث مجموعة من استطلاعات الرأي بهدف التعرف على آراء القرويين فيما يتعلق بالدور التعليمي للجامع، وأهمية التعليم القرآني في الوقت الحاضر. وكشفت الاستطلاعات أن ثلاثة أرباع القرويين لا يعدون التعليم وظيفة من وظائف الجامع، ومع ذلك فإن ما نسبته 98% منهم يرون أن التعلم بالجامع له أهمية كبرى، كما أن جميع المستجوبين تقريباً يتفقون على أهمية الجامع في تحفيظ القرآن وإعداد الفقهاء. وربط 70% من القرويين بين التعلم بالجامع والفوز بالجنة، وهو مؤشر دالٌّ على القيمة الرمزية الكبيرة التي يحظى بها التعليم الديني في أوساط سكان القرى.

وفي نهاية البحث، شدد الكاتب على ضرورة إعادة الاعتبار للتعليم الديني   بالبادية، وتجديده وتقويته، بما هو "بوابة للتنمية" في وسط يتسم بالهشاشة، ولكونه "حصناً منيعاً" ضد التطرف الذي تغذيه بعض الأطراف مستغلةً غياب الدولة، وتراجع مكانة الفقهاء.

أخبار ذات صلة