تأليف: أمين معلوف
عرض: سعيد بوكرامي
يشكل كتاب أمين معلوف الجديد "غرق الحضارات" حدثا ثقافيا مهما، بحكم أهمية القضايا المثارة، وطريقة نقاشها وتحليلها واستنتاج العبر منها. كما أن حصوله على استقبال قرائي عالمي منحه قيمة إضافية تكللت بحصوله على جوائز مهمة مثل جائزة أوجوردوي، وجائزة الكتاب الجيوبوليتيك، وستكون له حظوظ وافرة للظفر بجوائز أخرى خلال الدخول الثقافي المقبل.
لا يمكننا تجاهل كتاب يبدأ بتكريم الوالدين، فقد حرص أمين معلوف على إهداء كتابه إلى والديهاللذين سعيا دائما ليزرعا في ابنهما محبة المعرفة والإصرار علىالتنوير وتحقيق الأحلام. لكن كتاب أمين معلوف الجديد " غرق الحضارات" ليس سردا لذكريات مضت ولا حنينالشرق انطفأت أنواره، وليس حتى اقتفاء لخطوات معلوف الطفل والمراهق ثم الكاتب الملتزم، الذي انطلق ذات يوم من بيروت نحو أرجاء العالم ومعارفه وتجاربه، مغادرا بذلك "فراديسه الضائعة". تستبد بالقارئ المعتاد على روايات معلوف رغبة بأن يتركنا لمزيد من الحميمية والحنين، ومزيد من الذكريات، والسرد الآسر، ولكن هذا من شأنه أن يقلل من أهمية كتاب " غرق الحضارات" ويحصره في مجرد سردلذكريات أثيرة، غير أن الكتاب أكثر من ذلك بكثير. كتاب الأكاديمي والروائيأمينمعلوف هو تحليل للاضطرابات العنيدة في العالم، السياسية والاقتصادية والمناخية. وبذلك يتحول الكتاب من شهادة ذاتية إلى شهادة غيرية ووصف مخيف لكارثة قادمة.
منذ أكثر من نصف قرن، والمؤلف يراقب العالم ويخالطه. كان في سايغون في نهاية حرب الفيتنام، في طهران عند قدوم الجمهورية الإسلامية. في هذا الكتاب القوي والواسع، يكتب أمين معلوف شهادته كمثقف ملتزم ومفكر مستنير، يمزج بين السرد الذي يملك ناصيته والأفكار الصريحة، وأحيانًا يروي الأحداث الكبرى التي كان شاهد عيان فيها، ثم يرتقي إلى مستوى المؤرخ الذي يؤرخ ما فوق تجربته الخاصة من أجل أن يفسر لنا ما وراء الانجرافات المتعاقبة التي مرت منها البشرية أن ترتاب للحظة أنها آيلة إلى إغراق حضارتها وعن سبق إصرار وترصد.
يتساءل أمين معلوف بحرقة "أين اختفى عالم أحلامنا؟ ما هو هذا العالم القادم؟" و "ما هذهالكراهية وعدم القدرة على العيش مع بعضنا البعض؟ إلى أين تسيرالإنسانية؟"، و "ما هي القرارات الحاسمة التي كان ينبغي اتخاذها، هل كان بإمكاننا تجنب الكارثة؟واليوم هل ما زال بإمكاننا إصلاح ما يمكن إصلاحه؟"ص 15
تبرز هذه الشهادة الكبيرة عن أحداث نهاية القرن العشرين أسباب المآسي التي عتّمت بالفعل القرن الحادي والعشرين وأدخلته إلى واقع ينذر بكارثة وشيكة. وهو هنا يشركنا في قناعة راسخة بأن شرذمة من المتحكمين في السياسة الاقتصاد، تدفعنا بالقوة إلى الهاوية ويجب أن نوقفها. هذا التفكير القوي في الاضطرابات العالمية، يذكرنا بأن الخيارات السياسية الخاطئة كانت دائمًا ذات عواقب وخيمة. ومن نتائجها التعصب والغرور والإفلات من العقاب والتراخي. هذه الأشياء كلها تخلق نوعا من الفوضى. "غالبًا عندما تخون الدولة قيمها، فإنها تخون مصالحها" ص 50، بحيث تنتهي هذه السلطة الأنانية إلا صناعة عزلتها أو زوالها.
في الفصل الأول، يخشى أمين معلوف أن يرى التدهور الذي انتشر في جميع المجتمعات البشرية، بدءاً من تفكك بلاد الشام،أن يشمل باقي أنحاء العالم، "ما يحدث هناك يمكن أن يحدث في كل مكان" يسائل معلوف قضية تحدي الوحدة ويميز "العوامل التي ترسخ الوحدة والعوامل التي تفتتها". من بين العوامل التي تؤدي إليها التفرقة، القومية التي تدعمها الأديان المتشددة وتؤدي في نهاية المطاف إلى انعدام الثقة، والتنافس على الغزو. وبذلك فإنها تسمم بمكر أي تواصل وتقارب وتعايش وتدمر كل تقدير في نهاية المطاف. لأن إنكار الاختلافات يفاقم آثارها.
في الفصل الثاني، ينقل الاهتمام بشكل خاص إلى العالم العربي. "إذا استمرت الجروح مثخنة، فإن العالم بأسره سيعاني" ص 115. "إن أسوأ شيء بالنسبة للخاسر ليس الهزيمة نفسها، بل الاحتفاظ بمتلازمة الخاسر الأبدية: ينتهي الأمر بكراهية البشرية بأكملها وهدم الذات نفسها "ص 125. أمين معلوف مسكون بواجب "ألا يترك للآخرين عناية الاختيار بدلا عنه" ص 130. وهذا ما يحاول الكتاب أن يفعله خارج السرب وخارج الأيدولوجيات المنمقة لصورة الوحش والمميّعة لصورة الضحية.
خصص أمين معلوف الفصل الثالث لحدسه الذي تبلور لديه منذ عام 1979 حول قبضة الثورة المحافظة على العقول: بداية من إيران مع آية الله الخميني، وفي المملكة المتحدة مع مارغريت تاتشر، دولتان محافظتان مختلفتان تقدمان ايديولوجيا دينية بالنسبة للأولى،والثانية تحتمي بمنطقالغلبة للأقوى.ولا تعترف إلا بمنطق الاقتصاد. ينقل هذان الاتجاهان المحافظان التشدد والصرامة ويضعان معايير اجتماعيةويغذيان "الصعود الذي لا يرحم مخاوفنا الأمنية" ص 298.
في الفصل الرابع والأخير، يشعر أمين معلوف بالقلق من الانجراف الأوروبي، حيث يتم دفع التقدم أخيرًا، إن لم يكن نحو التراجع فإلى الاستلاب على الأقل.يتقدم الطغيان المقنع في ظل الميزات الجذابة للتقدم، والأرباح من أرواح فاتري الهمة الذين يتشكلون من المستهلكين للتفاهة في أنحاء العالم كله. يجرؤ أمين معلوف في مقاطع متعددة على إجبار نفسه على الكلام: "عندما ندرك ما هو على المحك، نعطي أنفسنا الوسائل، مهما كانت التكلفة". إنه يلتزم بكلمته، ويستعمل جرأة كبيرة لتسمية الأشياء بمسمياتها، في وقت يتم فيه إغراء المرء للتقليل من أهمية قضايا حيوية وجعل النقاش حولها ضربا من ضروب الحنين إلى الماضي. يتساءل عن تأثيرات النفط في البلدان المنتجة له: وهنا يشير إلى مفارقة غير متوقعة تحولت ضد المستفيدين منه،ساردا مجموعة من الوقائع التي أطلق عليها "مآسي الذهب الأسود".يستنكر أمين معلوف أيضا الأسطورة الموجعة المتمثلة في التجانس الديني والإثني واللغوي والعرقي أو غير ذلك، إذ يعتبره شركا يتستر تحت ستار الحكمة: "التجانس هو كلفة غالية وقاسية. وإذا نجحت، فأنت ستدفع ثمنا باهظا " ص 267وبذلك يقترح تفكيراقويًا حولانحرافات الأديان تحت تأثير قوة السلاح والمال، المقدسين اللذين لا يمكن للبشرية التخلص منهما.يتوقف أمين معلوف عند الأسباب التاريخية والكارثية التي أدت إلى انتشار التطرف الديني في البلدان الإسلامية، وكذلك شعور العالم العربي بالتراجع والتدني في مؤشرات التقدم، مبرزا جهل الضمير الأوروبي لهذه المعطيات التاريخية، لهذا تكثر المواقف المعادية للإسلام.
كتاب أمين معلوف صرخة رجل حكيم: صرخة خوف أمام شبح غرق عالمي على جميع المستويات، الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والإنسانية، وصيحة للضمائر عسى أن تستيقظ وتبادر إلى مغادرة مناطق الخطر، لأن "الأسوأ ليس دائما مؤكدًا". جاء هذا الكتاب التأملي والاستبصاري في أوانه، لكن العالم كان في حاجة ماسة إلى رسالة مترعة بالوضوح والحكمة إلى أولئك الذين بدأوا يستسلمون للقيم الضارة، لأن عالما مواربا فرض عليهم وقولبهم وفق خططه ومقاصده:"عندما لا يستطيع المرء ممارسة صلاحياته كمواطن دون الإشارة إلى انتمائه العرقي أو الديني، فذلك لأن الأمة بأكملها شرعت في السير في طريق التخلف الحضاري. عندما يلعب شخص ينتمي إلى أقلية اجتماعية دورًا مهما في البلد كله، فهذا يعني أن قيمة الإنسان والمواطنة تأتي أولاً وقبل كل شيء، لكن عندما يصبح ذلك مستحيلا، فإنفكرة المواطنة، وكذلك فكرةالإنسان تصبح معطوبة. الأمر صحيح اليوم في جميع بلدان المشرق، دون أي استثناء، بل أصبحت واقعا أكثر فأكثر، وبدرجات متفاوتة،وكذلك في أجزاء أخرى من العالم"ص 102.
يعطي أمين معلوف للمشرق وبالتحديد بلاد الشام أهمية قصوى لأنها المكان، حسب معلوف، حيث بدأ كل شيء. "هناك، حدثٌ برز علانية من بين الأحداث الأخرى، ويمثل نقطة تحول في تاريخ هذه المنطقة من العالم، وما سينتج عنها. وطبعا يقصد المواجهة العسكرية التي حدثت خلال فترة وجيزة وبطريقة لا تصدق، لكن تداعياتها ستكون لها امتدادات دائمة ويقصد بالتحديد: الحرب الإسرائيلية العربية في يونيو 1967. التي "لم تستطع الشعوب العربية فحسب، التغلب على صدمة هزيمتها وحدها، ولكنها هزّت القومية العربية، التي جسدها جمال عبد الناصر،وبذلك فقدت كل مصداقيتها لصالح الماركسية اللينينية والإسلام السياسي". كما يعتبر أمين معلوف عام 1979،"عام التحولات الكبيرة"بحيث تكاثفت "عدة أحداث"كانت "بمثابة بداية لقلب الأوضاع وقطيعة مع مجرى التاريخ أحيانا ": في فبراير، قامت الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وفي أبريل أعدم الرئيس الباكستاني السابق ذو الفقار علي بوتو على أيدي قادة الانقلاب الذين طالبوا بالتطبيق الصارم لقانون الشريعة. في يوليو، قرار الولايات المتحدة بتسليح المجاهدين الأفغان بطريقة غير قانونية. في نوفمبر، الهجوم على المسجد الحرام في مكة من قبل المتشددين الإسلاميين السعوديين؛ في ديسمبر/ كانون الأول، دخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان "وعلى إثرها وضدها ستقود الجهادية الحديثة حربها التأسيسية".
يعلن أمين معلوف عن خيبة أمله في الولايات المتحدة التي بينت، في أمور عديدة، عدم قدرتها "للمحفاظة على مصداقيتها الأخلاقية" المزعومة، كما يعبر عن شعوره، على مدار عقود، بخيبة أمل في أوروبا أيضا، التي لم تعرف كيف تحافظ على نجاح مشروعها الوحدوي، فبقيت خائفة ومترددة من القوى المعاكسة القادمة من الصين وروسيا. يرى الكاتب بجزع اقتراب"فترة طويلة من الاضطرابات، المضرجة بالهجمات، ومجازر وفظائع مختلفة". لا أحد يؤمن بمستقبل أفضل، الناس خائفون، لا يثقون في بعضهم البعض / ويخشون الآخر المختلف "يميلون إلى الاستماع والاقتناع بالمدلسين" أو يسمحون بتقليص حرياتهم لصالح حياة مملة وأكثر أمانًا.يصرح معلوف أن الانزلاقات كلها أصبحت، الآن، ممكنة "في هذا العالم المتدهور"، ويبدو أنه لا توجد دولة، ولا مؤسسة، ولا نظام قيم، ولا أي حضارة قادرة على التغلب على هذا الاضطراب دون أن يصيبها الضرر ". يعلم أمين معلوف أن قارئا منهارا ومتشائما ليس قارئا جيدا، لذلك يكتب خاتمة أقل تشاؤما. "يصعب عليّ أن أؤمن بأن الإنسانية ستستسلم طواعيةً لتدمير كل شيء صنعته"، يحاول أمين معلوف دون اقتناع كبير أن يبين أن البشرية ما تزال أمامها فرصة للاستيقاظ من الخنوع، بشرط نسيان "تلك المفاهيم القبلية للهوية أو الأمة أو الدين" التي تقوض الخطابات الحديثة، والتوقف عن تمجيد "الأنانية المقدسة" التي تقود العالم اليوم بعماء نحو خرابه.
والطريق إلى هذا الخراب تقوده النوايا السيئة لذلك يتحدث أمين معلوف عن أمريكا، رغم أنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة، إلا أنها بدأت تفقد مصداقيتها الأخلاقية كليا. كما أن أوروبا، التي قدمت لشعوبها، وكذلك لبقية البشرية، أكثر المشاريع طموحاً ورفاها في عصرنا،آيلة للتفكك والصراعات السياسية التي أنتجت أحزابا عنصرية ومتزمتة. في حين مكث العالم العربي والإسلامي غارقا في أزمة عميقة تغرق شعوبه في اليأس، والتخلف. ولن تكون لهذه الأوضاع إلا عواقب وخيمة على كوكبنا برمته. إن الدول الكبيرة "الناشئة" أو "المنبعثة"، مثل الصين أو الهند أو روسيا، ظهرت على الساحة العالمية في جو موبوء حيث تسود الأنانية وقانون الغلبة للأقوى وحمى سباق التسلح الجديد. ناهيك عن التهديدات الخطيرة المتمثلة في (المناخ، البيئة، الصحة) والتي تؤثر وستؤثر على الكوكب ولا يمكن أن نواجهها إلا من خلال تضامن عالمي وانفتاح ثقافي وإنساني، لكننا للأسف نفتقر إليه اليوم.
في الأخير لا بد من الـتأكيد أن تحليلات أمين معلوف وحدسه لا يخالفان توقعاته، ويعود السبب في ذلك إلى معايشته للأحداث المهمة التي تحظى بالاهتمام وتمس الضمير العالمي. كان قلقًا منذ عشرين عامًا من ظهور الهويات القاتلة وقبل عشر سنوات تحدث عن اختلالات العالم. واليوم يبدو مقتنعا بأننا على عتبة غرق عالمي، سيؤثر بالتأكيد على الحضارات الحالية ومستقبلها الغامض.
-----------------------------------------------------
تفاصيل الكتاب
الكتاب: غرق الحضارات
المؤلف: أمين معلوف
الناشر: دار غراسيه. فرنسا 2019. اللغة الفرنسية
عدد الصفحات: 336ص
