تأليف: جون.ج ميرشمير
عرض: فينان نبيل | كاتبة مصرية
الهيمنة الليبرالية استراتيجية طموحة تهدف إلى تحويل أكبر عدد ممكن من الدول إلى ديموقراطيات ليبرالية، مع الترويج لاقتصاد دولي مفتوح وبناء مؤسسات دولية، تسعى في جوهرها لنشر قيمها على نطاق واسع وبعيد على المستوى العالمي. يصف هذا الكتاب ماذا يحدث عندما تتبع القوى العظمى استراتيجية "الهيمنة الليبرالية" على حساب ميزان القوى السياسية.
يعتبر الكثير من نخب السياسة الخارجية في الغرب استراتيجية "الهيمنة الليبرالية" سياسة حكيمة يجب على الدول الليبرالية تبنيها بشكل بديهي، وأنّ نشر الليبرالية على مستوى العالم ذو مغزى أخلاقي واستراتيجي، فهم يعتبرونه طريقة ممتازة لحماية حقوق الإنسان والتي تُنتهك أحيانا في بعض الدول، كما يزعم مؤيدو "الهيمنة الليبرالية" أنها تساعد في حماية القيم الليبرالية بالقضاء على الدول الاستبدادية، والتي قد تقدم الدعم للقوى غير الليبرالية في داخل الدول الليبرالية.
تهتم القوى العظمى من مختلف الأيديولجيات اهتماما عميقا ببقائها، مما يشكل خطرا دائما في ظل النظام ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب بأن تتم المواجهة بين القوى العظمى في هذه الظروف، نادرا ما تكون القوى العظمى في وضع يُمكنها من اتباع سياسة خارجية ليبرالية كاملة، مادام هناك قوتان أو أكثر على هذا الكوكب فليس أمام كل قوة سوى إيلاء اهتمام وثيق لوضعها في ميزان القوى العالمي. تنتهج القوى العظمى الليبرالية سلوكا ثابتا باستمرار، فهي تتبنى خطابا ليبراليا وتتصرف كالواقعيين، وإذا اعتمدوا سياسة ليبرالية تتعارض مع المنطق الواقعي فإنهم يندمون فيما بعد. تواجه الديموقراطية الليبرالية في بعض الأحيان توازنا إيجابيا للقوى، بحيث تكون قادرة على تبني الهيمنة الليبرالية، ومن المرجح أن تنشأ هذه الحالة فقط في عالم أحادي القطب، حيث لا يكون ثمة داع للقلق إزاء تعرض أي من القوى العظمى الوحيدة لهجوم من جانب قوى أخرى، نظرا لعدم وجودها من الأساس، فالقطب الليبرالي الوحيد سوف يتخلى عن الواقعية ويعتمد سياسة خارجية ليبرالية. الدول الليبرالية لديها عقلية متصلبة، ومن الصعب كبح جماحها، لأن الليبرالية تثمن مفهوم الحقوق غير القابلة للتصرف أو الحقوق الطبيعية.
يشعر الليبرالون التقليديون بقلق عميق إزاء حقوق كل فرد على هذا الكوكب. إنّ هذا المنطق العالمي يخلق مصوغا قويا للدول الليبرالية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان التي تنتهك بشكل خطير حقوق مواطنيها، كما تعتبر أنّ أفضل طريقة لضمان عدم التعدي على حقوق الأجانب هي أن يعيشوا في دول ديموقراطية ليبرالية، ويؤدي هذا المنطق إلى سياسة نشطة لتغيير النظم، حيث يتمثل الهدف في الإطاحة بالأنظمة المستبدة ووضع ديموقراطيات ليبرالية مكانها، ولا يخجل الليبراليون من هذه المهمة، ويرجع ذلك إلى أنهم غالبا ما تكون لديهم ثقة كبيرة، وإيمان عميق في قدرة دولتهم على القيام بالهندسة الاجتماعية في الداخل والخارج على حد سواء، ويعتقدون أيضا أن إيجاد عالم تقطنه ديموقراطيات ليبرالية هو صيغة مثلى لتحقيق السلام العالمي، و يؤدي إلى القضاء على الحرب، بل ويذهبون إلى أنه يقضي على ويلات الإرهاب والتهديدات النووية، إنها طريقة مثالية لحماية الليبرالية في الداخل والخارج.
تفشل استراتيجية "الهيمنة الليبرالية" غالبا في تحقيق أهدافها على الرغم من هذا الحماس، وتكون تكاليف هذا الفشل باهظة، ومن المرجح أن ينتهي الأمر بالدولة الليبرالية بحروب لن تنتهي، مما سيزيد من مستوى الصراع على مستوى السياسة الدولية بدلا من أن يقلل منه، وبالتالي يزيد من تفاقم مشاكل انتشار الحروب والإرهاب. وعلاوة على ذلك، فإن السلوك العسكري للدولة يكاد يكون من المؤكد أن ينتهي به الأمر إلى تهديد قيمها الليبرالية الخاصة. فإنهم يعتقدون أنّ التحرير في الخارج يؤدي إلى تأمين الليبرالية في الداخل، وأخيرا حتى لو حققت الليبرالية أهدافها وتم نشر الديموقراطية قريبا وبعيدا، وإنشاء مؤسسات دولية – وتعزيز العلاقات الاقتصادية، فإنها لن تحقق السلام الدولي.
يتناول الكتاب المذاهب الثلاثة "الليبرالية، القومية، والواقعية" وكيف يتم التفاعل بينهم للتأثير على السياسة الدولية، وهي أيديولوجيات شكلت سياسة العالم لقرون عدة ولا يمكن معرفة حدود الليبرالية دون تحديد تلك الأيديولوجيات، القومية أيديولوجية سياسية قوية للغاية تدور حول تقسيم العالم إلى مجموعة واسعة من الأمم المكونة من وحدات اجتماعية هائلة، ولكل منها ثقافة مميزة، فكل أمة تقريبا تفضل أن تكون لها دولتها الخاصة بها، تنبع أهمية الدولة القومية في كونها الضامن الأول لحقوق مواطنيها، ولقد نشأ مصطلح "الدولة القومية" مرتبطا بصورة الدولة الحديثة في الغرب منذ القرن التاسع عشر. وكانت فلسفة القومية تعني الجمع بين الوحدتين الطبيعية والسياسية، فلا تقوم وحدة سياسية على أكثر من أمة، ولا تتوزع بين عديد من الدول، أو بعبارة أخرى يعني مبدأ القوميات، حق كل أمة في أن تشكل دولة مستقلة، ويلاحظ أن الدولة الحديثة تربط بين عناصرها البشرية برباط القومية، ففي إطار إقليم الدولة "ثمة مواطنون يترابطون فيما بينهم وبين الدولة برباط سياسي دعامته القومية ويترتب على ذلك أن هؤلاء المواطنين يشغلون السلطة المنظمة في الدولة "وأنهم حين يبلغون سنا معينة يصبحون مواطنين citizens" وفيما عدا هؤلاء من المقيمين على إقليم الدولة فهم أجانب تختلف مراكزهم السياسية القانونية تماما عن مركز المواطنين الذين طالما سموا أيضا بالرعايا. إننا نعيش في عالم يكاد يقتصر على الدول القومية، مما يعني أن "الليبرالية والقومية" يجب أن تتعايشا، ولكن عندما تتصادمان فإن القومية تفوز تقريبا، وكثيرا ما يقوض تأثير القومية السياسة الليبرالية الخارجية. تركز القومية على سبيل المثال تركيزا كبيرا على حق تقرير المصير، وهو ما يعني أن معظم الدول ستقاوم جهود القوى الليبرالية العظمى للتدخل في سياساتها الداخلية - وهو بالطبع ما تدور حوله الهيمنة الليبرالية. تصطدم العقيدتان (القومية والعقلانية) مع حقوق الإنسان، ويذكر الكاتب بإيجاز أن القومية والعقلانية تتفوقان على الليبرالية غالبا، فلقد تشكل جزء كبير من عالمنا من هاتين النزعتين القويتين (القومية والعقلانية)، وليس الليبرالية. وتعني العقلانية صدور الممارسات السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج. تبالغ الليبرالية في تقدير الحقوق الفردية، ويعتقد الليبراليون أن كل فرد له نفس الحقوق، بغض النظر عن الوطن الذي ينتمي إليه، بينما القومية أيديولوجية متصاعدة من أعلى لأسفل، مما يعني أنّها لا تتعامل مع الحقوق على أنّها غير قابلة للتصرف. لا تهتم معظم الدول في جميع أنحاء العالم كثيرا بحقوق الأفراد في دول أخرى بنفس قدر اهتمامهم بحقوق مواطنيها.
ينطلق هذا الكتاب من الرغبة في فهم السياسة الخارجية الأمريكية في المرحلة الأخيرة والتي تتبنى استراتيجية الهيمنة الليبرالية، فقد خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة باعتبارها أقوى دولة في النظام الدولي، بينما كان الاتحاد السوفييتي ينهار في عام 1991، وهو وضع مثالي لمتابعة فرض "سياسة الهيمنة الليبرالية" على دول العالم. استعانت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية بهذه السياسة الطموحة بقدر قليل من التردد، وقدر كبير من التفاؤل حول مستقبل الولايات المتحدة والعالم، ويركز الكتاب على الفترة ما بين 1993إلى 2017، عندما كانت تسيطر إدارات "كلينتون، بوش، أوباما" على السياسة الخارجية، والتزمت تلك الإدارات التزاما كاملا بمتابعة الهيمنة الليبرالية، على الرغم من أنّ الرئيس أوباما كان لديه بعض التحفظات على هذه السياسة، إلا أنّ هذه التحفظات لم تكن بالأهمية لتأخذ في الاعتبار الكيفية التي كانت تمارس بها إدارته سياستها في الخارج. ولا يعتبر الكاتب إدارة ترامب ناجحة لسببين، أولا: لأنّه من الصعب تحديد الشكل الذي ستبدو عليه السياسة الخارجية للرئيس ترامب، على الرغم أنّه وضح في خطابه أثناء حملته عام 2016 أنّه يدرك أنّ سياسة "الهيمنة الليبرالية" واجهت فشلا ذريعا، وأنه يود التخلي عن مفاتيح تلك الاستراتيجية. ثانيا: الاعتقاد بأنّ صعود الصين ونهوضها أعاد سياسة تعدد القوى العظمى إلى الطاولة، في نهاية المطاف، لن يكون لترامب خيار سوى التحرك نحو استراتيجية كبرى تعتمد على الواقعية، حتى لو قوبل ذلك بمقاومة كبيرة في الداخل.
يطرح الكاتب تساؤلا حول ماهية الليبرالية وأسسها الفكرية، وميز بين ما يعرف بـ" ليبرالية فيفندي"، و"الليبرالية التقدمية"، " ليبرالية فيفندي" هي نهج لتسوية مؤقتة مقبولة بين المواطنين لا يتوافر فيها الإجماع الأخلاقي العميق الذي طالب به العديد من الليبراليين. هناك اختلاف أساسي بين "ليبرالية فيفندي"، و" الليبرالية التقدمية"، فالأولى تحصر الحقوق بشكل كبير في الحريات الفردية، حيث يتصرف الجميع دون خوف من تدخل الحكومة، وتعد حرية التعبير والصحافة أمثلة لهذه الحقوق، والحكومة موجودة لحماية هذه الحريات من التهديدات التي تنبثق إما من داخل المجتمع، أو من العالم الأوسع خارجها، بينما تمنح "الليبرالية التقدمية" نفس الحريات الفردية، والتي تسمى أحيانًا "حقوقًا سلبية"، لكنّهم أيضًا ملتزمون بشدة بمجموعة من الحقوق التي تروج لها الحكومة بنشاط. على سبيل المثال، لكل شخص الحق في تكافؤ الفرص، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بمشاركة حكومية نشطة. إذن تختلف ليبرالية "فيفندي" عن الليبرالية التقدمية بشدة حول الدور الذي ينبغي أن تتحمله الدولة، فبينما تصر "ليبرالية فيفندي" على أنّ الدولة يجب أن تتدخل في المجتمع بأقل ما يمكن، وليس بالأمر الغريب أنهم يميلون إلى رفض أن تكون الحكومة قادرة على القيام بهندسة المجتمع، بينما يأخذ الليبراليون الرأي المعاكس، إنهم يفضلون دولة نشطة يمكنها تعزيز الحقوق الفردية، ولديهم إيمان أكبر بقدرة الحكومات على القيام بالهندسة الاجتماعية. وغالبا ما تنتصر الليبرالية التقدمية لأنّ تعقيدات ومتطلبات الحياة في العالم الحديث لا تترك للدول أي خيار سوى المشاركة بعمق في الهندسة الاجتماعية، بما في ذلك تعزيز الحقوق الإيجابية. هذا لا يعني إنكار أن بعض الدول تشارك في هذا المشروع أكثر من غيرها، أو أن عمق مشاركة الدولة يمكن أن يختلف باختلاف الوقت والظروف السياسية. يرى الكاتب أنا نعيش في عصر الدولة التدخلية، وهي الدولة التي تدعم التدخل من الحكومة في اقتصادها الداخلي، أو التدخل في شؤون دولة أخرى، وليس هناك سبب للاعتقاد بأن هذا سوف يتغير في أي وقت قريب.
تحظى الليبرالية باهتمام كبير في عالم الأفكار، وفي الممارسة العملية، ويقدم الكاتب وهو يعرف الليبرالية مذهبين آخرين يصنفان كصور لليبرالية السياسية، هما "مذهب المنفعة"، و" الليبرالية المثالية". وصف "جيرمي بنتام" الأب الروحي للمذهب النفعي الحقوق الطبيعية بأنها "هراء بلاغي بلا ركائز"، كما نقد الكاتب "كارز" الليبرالية الكلاسيكية في كتابه "أزمة العشرين سنة 1930، ونقد تطبيقها في السياسة الدولية، وأولى اهتماما أقل بالليبرالية العملية والتقدمية، والتي لم تكن تحظى في ذاك الوقت بتقدير كاف، ويهتم أكثر بالمذهب المثالي ومذهب المنفعة وقد كانا أكثر تأثيرا في بريطانيا آنذاك.
يجب الإشارة إلى أن مصطلحي الليبرالية والديموقراطية يتقاطعان فيما يعرف بـ "الديموقرطية الليبرالية"، والمفهومان مختلفان، ومن المهم للتمييز بينهما معرفة العلاقة بينهما، يعرف الكاتب "الديموقراطية" بأنّها نوع من الحكومات لها امتياز واسع، وأن كل مواطنيها يمكنهم اختيار حكامهم عبر الانتخابات، وبعد ذلك يضع هؤلاء الحكام القواعد التي تحكم الدولة وينفذونها، وعلى الناحية الأخرى الليبرالية هي كل ما يتعلق بالحقوق الفردية. تمتاز الدولة الليبرالية بالاهتمام بحقوق مواطنيها وحمايتهم من خلال القانون. إنه من الممكن أن يكون لدينا ديموقراطية ليبرالية وتسحق الأغلبية المنتخبة حقوق الأقلية وهو ما يطلق عليه بطغيان الأغلبية. الدول الليبرالية غالبا ما تكون ديموقراطية؛ لأن مفهومها ينطوي على الحقوق غير القابلة للتصرف، وهي حقوق يجب التمتع بها كالحصول على صوت في الانتخابات.
وضح ماركوس فيشر أنّ العلاقة بين الليبرالية، والديموقراطية علاقة اختلاف؛ الليبرالية تدل على المؤسسات الديموقراطية في أعلى درجاتها، بينما الديموقراطية تتضمن الحقوق الليبرالية فقط في أدنى صورها، وقد يمكن طرح فكرة الدول الليبرالية ضد الديموقراطية عندما تؤسس الأقليات للحقوق والتي تتعارض مع آراء وقرارات الأغلبية.
يثبت عالم العلاقات الدولية الشهير "جون ميرشيمير" أن "الهيمنة الليبرالية" كسياسة خارجية تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة محكوم عليها بالفشل، ويرى أنّ من المنطقي أن تتبنى واشنطن سياسة خارجية أكثر تحفظا تستند إلى فهم سليم للكيفية التي تقيد بها النزعة القومية والواقعية. هناك اعتقاد على نطاق واسع في الغرب أنّ الولايات المتحدة يجب أن تنشر الديموقراطية في جميع أنحاء العالم، وتعزيز الاقتصاد الدولي المفتوح، وبناء المؤسسات، كان من المفترض أن تعيد هذه السياسة تشكيل العالم بصورة الولايات المتحدة التي تعمل على حماية حقوق الإنسان، وتعزيز السلام، وجعل العالم آمنا، ولكن هذا لم يحدث، وبدلا منه انتهى الأمر بالولايات المتحدة كدولة عسكرية محاربة، تقوّض السلام، وتضر بحقوق الإنسان، وتهدد القيم الليبرالية في الداخل.
---------------------------------------------------
تفاصيل الكتاب
عنوان الكتاب: الوهم الكبير: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي
المؤلف: جون.ج ميرشمير.
الناشر: جامعة يالا بريس، 2018
اللغة: الإنجليزية
