تأليف: شتينا ميليتيلو وسيرينا نوشيتي
عرض: عزالدين عناية
يتألَّف هذا الكتاب من مجموعة أبحاث ومحاضرات لجَمْعٍ من الباحثين والباحثات واللاهوتيين واللاهوتيات، أُلقِيت ضمن مؤتمر علمي في إيطاليا عُنِي بقضايا الإصلاح، على صلة بقضايا المرأة والإصلاح الديني. توزَّعت بين الطرح التاريخي والطرح الفكري، وتناولت قضايا لاهوتية واجتماعية على صلة بالمرأة، حامت حول سؤال الإصلاح. فلا شك أن الكنيسة قد عاشت سؤال الإصلاح فيما يخص المرأة بأشكال متفاوتة، وحاولت من داخلها تناول أوضاعها وأحوالها، سيما المرأة المكرسة حياتها للرهبنة، بغرض إدخال تحويرات على أوضاعها بمنظور محافظ، ولكن تلك النظرة الكنسية جابهتها أيضا نظرة إيمانية خارجية.
وفي الراهن الحالي، نرصُد توجهات في معالجة قضية الإصلاح؛ من بينها: مقاربة تنحو للتحريك البنيوي للجهاز الكنسي بقصد خلق تحوير جذري، كما تمثلهُ جملة من اللاهوتيين على غرار هانس كونج وكارل راهنر وإيف كونجار وآخرين. كما نجد مقاربة إصلاحية محافِظة ومحتشمة على الشكل الذي تطالب به أطراف من الداخل، دون مس بالهياكل التقليدية القائمة. وأخرى تجاوزت طروحاتها الكنيسة وباتت تدعو إلى طرح نِسوي ينحو صوب التصادم مع طروحات الكنيسة.
فمطلب الإصلاح الدائم والمتواصِل للكنيسة هو مَطْلَب مُلح؛ تقديرًا لأن الجمود والثبات اللذيْن يصيبان إرادات التغيير هما عاهةٌ تشل حركة الفكر، في مقابل الحفاظ على الواقع الذي هو البنية الرئيسية المتحكمة بالدين. ليست الكنيسة جامدة، وليست بمنأى عما يجري في العالم المحيط، غير أن عملية المواكَبة للتحولات تأتي وفق منظورها ووفق رؤاها، ذلك ما تتناوله الكلمة التمهيدية.
فالجليُّ أنَّ ثمة إحساسا بالحاجة الملحة للإصلاح؛ حيث ترتفع أصواتٌ عدة داخل الكنيسة وخارجها مطالبة بخوض تحويرات وتجديدات، بَيْدَ أن خوضَ العملية يتطلب جرأةً عاليةً وقدرةً خارقةً، سيما وأن المؤسسة الماسكة بزمام التسيير والتوجيه لكافة مفاصل الحراك الديني، تنظر بعين الريبة لكل عملية تقع خارجها. وفي الحقبة المعاصرة مثل "مَجْمَع الفاتيكان الثاني" قوة دافعة باتجاه الإصلاح، بما بثه من روح تجديد، سواء في التعاطي مع الواقع المسيحي أو مع الواقع غير المسيحي، لكن الواقع السائد داخل الكنيسة يبدو في حيرة من خوض عملية إصلاح جريئة تضاهي تلك الحاجة التي رافقت انعقاد ذلك المجمع. فوَضْعُ المرأة بعد الفاتيكان الثاني لم يشهد تحولات في ما يتعلق بالمسألة الجنسية، وبالمسألة الليتورجية، بشكل عام، وهي من الملفات المغلَقة، في حين شهدت ملفات على غرار التعليم والمشاركة في تشكيل الجمعيات انفراجا مهما داخل الكنيسة. وهناك من يعيد ذلك الوضع في الراهن إلى غياب التجربة التاريخية الكبرى التي تضاهي الأحداث الكبرى التي سبقت المجمع ورافقته. وثمة من يعيد الأمر أيضا إلى غيابالإرادة الإصلاحية الواسعة وانحصارها في نطاق نخبوي ضيق. ومع ذلك، يحاول المساهمون في هذا النص طرح إشكالية: كيف تجري عملية الإصلاح ضمن ثنائية المرأة الكنيسة من منظور إيماني؟ سيما وأن الطروحات في عمومها هي طروحات دينية محافظة.
ويبقى السؤال الذي يجابه الجميع؛ وهو: كيف يَصنَع المسارُ السوسيولوجي المتحكم بالمؤسسات الرهبانية والمؤسسات الخدماتية والمؤسسات ذات الصلة بالمرأة مطلبَ التحول؟ وضمن تلك الطروحات تبدو العملية إصلاحيةً أكثر منها تحويرًا جذريا لبنى راسخة. فهناك تقاليد في العمل المؤسساتي الكنسي متجذرة، يبدو إدخال التحويرات والإصلاحات عليها هو المطلوب، وهو ما يجري بالفعل منذ الفاتيكان الثاني.
وليس الإصلاح المطلوب، بالكلمة والفكرة والموعظة فحسب، بل هو إصلاح بنيوي لمؤسسة الكنسية في احتضانها للمرأة المتدينة (الراهبة) والمتدينة (المدنية) وغير المتدينة (العلمانية)، وهو ما يحتاج إعادة نظر وتحويرا عميقا إيمانا بتعددية مستويات الإصلاح. ولا يمكن حصر العملية في أُطر لاهوتية نظرية على أمل تحوير النظر حتى يتحول الفعل، بل تبدو العملية في الحالة الكنسية مركبةً وهو ما تشير إليه المتدخلة سيرينا نوشيتي في مداخلتها "النساء والإصلاح والكنيسة".
ويشترك مجمل المتدخلين في الإلحاح على إعادة تفكيك مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة داخل الكنيسة، بما يتجاوز مجرد السماح للمرأة بالالتحاق بالتعليم اللاهوتي، فضلا عن المطالبة بخوض عملية أعمق تعيد النظر للمرأة كشريك في الكنيسة، لا مجرد كيان خادم وتابع للرجل. تقديرا لأن هناك دورا مشلولا للمرأة في الكنيسة. والواقع أن إعادة توزيع الأدوار في الكنيسة هو تفكيك للثوابت الاجتماعية بما يتمخض عن إعادة توزيع للسلطة، لكن السلطة الدينية الرمزية والفعلية تبقى في قبضة الرجل وليس من الهين التفاوض بشأنها.
هناك من يطرح عملا بنيويا لبلوغ تلك المستويات التجديدية، على اعتبار أن العملية تقتضي إعادة نظر في مفهوم الجندر داخل الكنيسة، لغرض إعادة توزيع الأدوار توزيعا عادلا. لكن مفهوم الجندر -كما نعرف- هو مفهوم ناشئ خارج الإطار الديني المحافظ، وأن عملية مَسْحَنَتِه وإضفاء الطابع الإيماني عليه يستدعي اشتغالا لاهوتيا معمقا حتى يتيسر الانطلاق من الأسس الجندرية، وهو ما يبدو أساسيا لخوض عملية صائبة في الكنيسة.
إذ لا تزال العراقيل في تشريك -المرأة اللاهوتية على غرار الرجل اللاهوتي- في العملية الكنسية برمتها الطقسية والسلطوية تحديدا جمة. نتبين مصادَرةً مستمرة لحضور المرأة في الكنيسة حتى الراهن. فلا يمكن الحديث عن إصلاح كنسي بالوكالة، يأتي مسقَطًا على المرأة ولا تُسهم في إنتاجه، في ظل وضع كنسي ذكوري سائد، ذلك ما تخلُص إليه في ختام مداخلتها سيرينا نوشيتي. فهناك وصاية على مطالب المرأة كما تشير نوشيتي ينبغي فسح المجال فيه لصوت الضحية، ولا يعني ذلك الإلحاح على استقلالية المرأة حرصًا على الانفراد بالقرار الإصلاحي، وإنما خشية أن ينحرف الأوصياء بمطالب المرأة، ولا تُلبى المطالب على الشكل المراد.
وحين ترتفع الوصاية على الإصلاح النسوي يغدو الإصلاح حلما بـ"مدينة النساء"، كما تعبر عن ذلك غابريالا زاري، تلك المدينة التي تمثل نقيضًا لـ"مدينة الذكور" التي تستمد مشروعيتها من واقع كنسي متصلب، ومن منظور لاهوتي ذكوري، ومن تأويلية كتابية موجهة تتموضع في براديجمات قروسطية، مع أن الواقع هزته الحداثة بقوة. ليست الانحرافات الواقعة ضمن ثنائية المرأة الرجل وليدة اللحظة البدئية المسيحية، بل هي نتاج انقلابات وتحولات اجتماعية حادثة في التاريخ المسيحي. لذلك يصر أنصار "مدينة النساء" على الدعوة للعودة للتجربة المسيحية المبكرة التي يُقدر انتفاء الميز منها.
مع بدء المطالبة بالإصلاح، ومع أول مجمع سينودالي للكنيسة الفالدية، ذات التوجه الإصلاحي، انعقد خلال العام 1532، تقرر تكريس المرأة راعية في الكنيسة، وهو قرار تاريخي. فقط بعد 430 سنة جرى تبني ذلك القرار الرعوي وإن كان بشروط منحصرة في النساء العازبات. حصل تململ هائل مع الإصلاح البروتستانتي، لكن ذلك الإصلاح لم يعرف تأثيرا في أوضاع المرأة، صحيح بث الاحتجاج البروتستانتي تململا في علاقة الكنيسة بالإنسان، وبالرأسمال القداسي، لكن ذلك التململ لم يمس بشكل مباشر أوضاع المرأة. فقد كان النظر لروما من قِبل تيارات الاحتجاج ورواد الإصلاح في ذلك العهد، على أنها مؤسسة صانعة للميز الديني سواء في علاقة الفرد بربه أو في علاقة الأفراد بعضهم ببعض. جاء الاحتجاج كحالة غضب من داخل الكنيسة وما كان حركة هادئة، تستطيع أن تكون تغييرا هادئا، بفعل العنف المتفجر الذي رافق "الإصلاح"، وحتى عملية "الإصلاح المضاد" فقد جاءت ردة فعل أشرس على واقع متوتر ومتفجر.
وفي خضم دعوات الإصلاح المتنوعة يبدو الملف الجنسي مجمدًا داخل الكنيسة. حين قرر الراهب والمصلح مارتن لوثر الزواج تزوج في سن متأخرة (قرابة 42 سنة) ومن راهبة، وقد كان يطمح لكسر تقليد عزوبي دخيل على المسيحية. ما كانت العملية تسير ضمن مخطط واسع وواضح المعالم يستهدف تحوير النظر للمرأة، أكان داخل المجتمع أو داخل الأدْيِرة. صحيح لقيت طروحات رواد الإصلاح، مارتن لوثر وجون كالفن وهولدريخ زوينغلي، صدى في أوساط النساء المكرسات وغير المكرسات، وناصرت النساء بشكل عام، ولكن ذلك الحراك ما كان يستهدف تحوير أوضاع المرأة المتدينة والمكرسة بشكل عام. كانت العملية الإصلاحية (الاحتجاجية) المبكرة متسرعة إلى درجة افتقدت إلى أسس لاهوتية وتحويرات تتوجه إلى أوضاع المرأة.
وفي ظل التحولات التي أحدثها الفاتيكان الثاني، وكذلك تحت تأثير موجة النسوية، نشأ ما يُعرَف بـ"كنيسة النساء". عبرت عن تلك الموجة ماري دالي في كتابها "الكنيسة والجنس الثاني" (1968) الذي تطرقت فيه إلى مجمل القضايا النسوية المطروحة. كانت العملية التحررية من منظور دالي على غرار عملية "الخروج" التحرري من براثن فرعون وآله وبحث أتباع موسى (ع) وأنصار التوحيد عن ملجأ يشيدون فيه فضاء حرا يتساوى فيه الرجال والنساء. لقد كان مقصد الخروج تحرير النساء والرجال وإقرار المساواة بين الطرفين، لكن ماري دالي هجرت المسيحية وفقدت أي أمل في كنيسة إصلاحية.
لقد نشأت "كنيسة النساء" في مناخ كاثوليكي، وداخل موجة تحرر هزت العالم، لم يَبْقَ فيها الدين بمنأى عن التحولات، فقد مثل استحواذ العنصر الذكوري على الشأن الليتورجي وعلى السلطة الكنسية انتهاكًا واحتكارا لمقاليد التسيير الكنسي، من هذا الجانب مثلت مطالبة المرأة المسيحية بتفكيك تلك السلطة وبإعادة توزيع الرأسمال القداسي مطلبا ملحا. لقد كان مشروع "كنيسة النساء" مشروعا تنويريا إصلاحيا أكثر منه مشروعا ليتورجيا، ولذلك جمعت الكنيسة التي استهدفت النساء شَتاتًا من الرؤى الدينية اِلتفت حول القضايا النسوية.
وللذكرِ، وجدت "كنيسة النساء" تطورا خارج الفضاء الكاثوليكي، سيما في الوسط البروتستانتي، لكن الملاحظ أن التطور المهم حصل في الأطراف البعيدة، ولم يحصل في الفضاءات التقليدية في أوروبا وفي الغرب بوجه عام، أطل من كوريا الجنوبية ووجدت "كنيسة النساء" تطورا مع بعض التجمعات النسوبة البروتستانتية.
لكن الملاحظ أن مع مطلع التسعينيات قد بدأت تظهر بقوة "كنيسة نسوية" تحرص على انتزاع الحق الكنسي النسوي، مع إلحاح على تغيير البنية الليتورجية داخل الكنيسة وداخل القداس بهدف دفع المرأة إلى أدوار قيادية. لعل مناخ القرب من مصادر القرار في حاضرة الفاتيكان هو ما جعل الساحة الإيطالية أكثر ترشحا لقيادة هذا الدور.
وبوجه عام، بات الإصلاح في الأوساط الكاثوليكية مقبولا من قِبل الكنسية، غير أن تنزيل العملية وتفعيلها بقي مشروطا بمنظور الكنيسة. وبالتالي ثمة إرادتان في الإصلاح؛ إحداهما من داخل الكنيسة، والأخرى من خارجها. فالكنيسة تحرص في العملية على توجيه فعل الإصلاح والتحكم بمساراته. ولو عدنا إلى التاريخ السالف نلحظ أن مطلب الإصلاح بشكلٍ عامٍ قد كان حاضرًا في الكنيسة الرومانية منذ عهد غريغوريوس السابع (1015-1085م) الذي حاول خوض إصلاح داخل الكنيسة يكون كفيلا بصد التوجه العلماني، ولتصلب الطرح الإصلاحي، افتقد المسعى القدرة للخروج بالكنيسة من حيز المنظور القروسطي إلى منظور مستنير يتيح للكنيسة السيطرة ثانية على مفاصل المجتمع. لكن لو تمعنا ذلك الإصلاح الغريغوري من الداخل نلحظ هيمنة الرؤية المحافظة، وطمس المطالب الإصلاحية التنويرية الحقيقية، فضلا عن عزل الأصوات النسوية المطالبة بتحويرات فعلية. لقد كانت توجهات الرهبنة الزاهدة، التي اختارت حياة النسك، رد فعل على تغول كنسي دنيوي، مثلت كيارا داسيزي هذا التوجه جنب حركة "الأبوستوليشي".
وفي خضم تلك الطروحات الإصلاحية التي اعتملت داخل الكنيسة، مثلت التوجهات الصوفية خلال القرن السادس عشر مع ماريا مادالينا داي باتسي ضربًا من ضروب الإصلاح الكنسي. لم يكن التوجه الصوفي انعزالا عن العالم، وإنما انغماسا بشفافية في قضاياه، فكما يقول إيف كونغار إذا لم يلب الإصلاح حاجة إنجيلية في العالم فلا شيء يرجى منه. لم يمثل التصوف قبولا بالواقع السائد، وإنما مثل رفضًا لأوضاع اجتماعية ودينية رثة ومحاولةً لطرح بديلٍ روحي في التعاطي مع الواقع. فقد لمس التوجه الصوفي خواء العملية الدينية في ظل الدنيوية المستفحِلة داخل المؤسسة الدينية وخارجها. فاللافت أن هناك مسعى إصلاحيا من داخل التوجه الصوفي يغاير أشكال الإصلاحات الأخرى، لا يستهدف إجراء تحويرات مؤسساتية، بل ينشد تحويرات روحية بالأساس.
ولو جئنا إلى الفترة المعاصرة، نتبين أن الساحة الإيطالية -على إثر الحرب العالمية الأولى- قد شهدت منشأ العديد من التنظيمات النسائية الكاثوليكية، وقد هدفت إلى خلْقِ نظير لا بديل للتنظيمات العلمانية النسائية التي شهدت تطورا. وما ان تحكمت الفاشية بمفاصل المجتمع، حتى تراجعت التنظيمات النسائية الكاثوليكية عن أهدافها المدنية والاجتماعية واقتصرت على دور ديني شعائري.
ميزة هذا الكتاب في عرضه مشهدا بانوراميا لقضايا الإصلاح المتصل بالمرأة المسيحية عبر التاريخ، بما يجعله وثيقة مهمة في تتبع موضوع بالغ التعقيد والتداخل.
*****
نبذة عن المشرِفتين على الكتاب:
شتينا ميليتيلو وسيرينا نوشيتي أستاذتان جامعيتان تهتمان بالفلسفة وبقضايا اللاهوت. الأولى تدرس في الجامعة الجريجورية في روما، ولها جملة من المنشورات تهتم بقضايا المرأة. أما الثانية، فهي علاوة على كونها أستاذة، تنشغل بالبحث في أوضاع الكنيسة والمرأة، وقد نشرت مجموعة من الأعمال القيمة في الشأن النسوي.
-----------------------
تفاصيل الكتاب.
- الكتاب: "النساء وإصلاح الكنيسة".
- المؤلف: شتينا ميليتيلو وسيرينا نوشيتي.
- الناشر: منشورات ديهونيان (بولونيا)، 2018، باللغة الإيطالية.
- عدد الصفحات: 311 صفحة.
