تأليف: فرانكو كارديني وسيرجيو فالزانيا
عرض: فاتنة نوفل
انعقدَ مُؤتمر باريس للسلام في الفترة المدرجة من 18 يناير 1919 إلى 21 يناير 1920 ليكون إحدى المناسبات العديدة التي نشأت بعد الاضطرابات التي حدثتْ في عصر الحرب العظمى والتي بدأت بسبب عدم قدرة الطبقة الحاكمة الأوروبية على إدارة التغييرات العنيفة الجارية في المنطقة من التطور الصناعي الألماني السريع إلى ولادة الأحزاب الجماهيرية.
كانت لحظة مُهِمَّة مثل بضع لحظات أخرى في تاريخ القرن العشرين؛ حيث كانت النيّة المُعْلَنٌة عنه هي الوعد بأن حرب 1914-1918 ستُنهي جميع الحروب. كان الهدف من الاجتماعات الدبلوماسية التي عُقَدت في العاصمة الفرنسية هو التصميم على إرساء أُسُس موسم طويل من السلام بعد السنوات الرهيبة من الحرب العالمية الأولى، وخلق توازن دولي جديد؛ حيث عملتْ الدبلوماسية الدولية على إعادة تنظيم النظام السياسي العالمي وخلق سياق مشترك كان بلا شك من بين الأكثر أهمية، وإن كان من بين الأقل نجاحًا.
بدأ "الأربعة الكبار" في المؤتمر كلٌّ من: وودرو ويلسون رئيس الولايات المتحدة، وديفيد لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا العظمى، وجورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا، وفيتوريو إيمانويل أورلاندو رئيس وزراء إيطاليا، في جدولة مُسوَدّة ليتم تعميقها لاحقًا ومناقشتها في جلسات على مراحل متتالية لجميع المشاركين؛ حيث لم يتم إعداد أعمال المؤتمر ولا وضع تقويم ولا أساليب لتنفيذه، ليتضح مع مرور الوقت أن الاتفاقيات التي تم التوصل إليها بِشُقّ الأنفس اتخذت طابعًا نهائيًا دون مناقشة مع الدول المهزومة.
سَعَى الكاتبان فرانكو كارديني وسيرجيو فالزانيا إلى توضيح الأسباب، أو على الأقل بعض الأسباب لهذا الفشل، دون ادِّعاء بإعادة بناء شامل: "مؤتمر باريس للسلام، نتائجه واعتباره تقريبًا كيوميات سفر فالرحلة في منطقة خبرها الكثيرون، لكنها لا تزال تحتفظ بالألغاز والمناطق غير المعروفة". من أجل ذلك، يتناول المؤلفان مجموعة من الحقائق والشخصيات ذات الأبعاد الهائلة والتي ركَّزَت بشكل أساسي على شخصية الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي لعب دور الحكم الدولي باعتباره المسؤول الرئيسي عن هشاشة هذه الاتفاقيات الدبلوماسية.
دُخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الأولى كان يميل لخلق التوازن والوفاق؛ حيث أَجْبَرَت ألمانيا وحلفاءها على تعليق القتال وتركت الشؤون السياسية والاقتصادية والمالية في العالم للفائزين بالحرب للتَحَكُّم بها وتقرير ما يجب القيام به وكيفية القيام بذلك. فبعد سنوات الدمار الطويلة في أوروبا، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العظمى، ليس فقط كقوة عالمية مزدهرة اقتصاديًّا، لكن جميع الدول الفائزة كانت مديونة لها. خلال ذلك الوقت، كانت قد اختفت الإمبراطورية الروسية، وإمبراطورية هابسبورج، والإمبراطورية العثمانية؛ بسبب نتائج الحرب السلبية عليهم كخاسرين والاضطرابات الاجتماعية التي أثارتها تلك الخسارة.
وتركَّز اهتمام المؤلفين بعد ذلك على القرارات المؤسفة التي اتخذها الرئيس باعتباره بطل المؤتمر المطلق والضغوط التي تعرض لها؛ حيث ارتكب رئيسا الولايات المتحدة سلسلة من الأخطاء السياسية والدبلوماسية التي أدت لفشل مؤتمر السلام في باريس. كانت أكبر نتيجة مباشرة لهذا الفشل هي استمرار سنوات من الأعمال الحربية في أوروبا الشرقية وآسيا للوصول إلى استئناف عام للأعمال العدائية على المستوى العالمي في أقل من 20 عامًا من الاختتام الرسمي لجلسات مؤتمر باريس.
فقبوله باريس كمكان لعقد المؤتمر هو واحد من أقوى وأخطر الأخطاء التي ارتُكِبت حتى قبل المفاوضات ما ينِمُّ عن جهل بالآليات والمفاوضات الدبلوماسية في التقاليد الثقافية الأوروبية وقرار الرئيس أن يتولى شخصيا هذه المهمة لأول مرة بالرغم من نُصحِ معاونيه له بعدم القيام بذلك، وعدم معرفتة الدقيقة بما حدث في أوروبا منذ أكثر من أربع سنوات من الحرب ومدى صعوبة الخسائر التي تحملتها فرنسا في تحقيق النصر، دون مناقشة الضغوط النفسية التي بإمكانها ممارستها على المشاركين في المؤتمر؛ باعتبارها الدولة المضيفة.
علاوةً على ذلك، فإنَّ عُصبَةَ الأمم -الضامن للنظام الدولي المستقبلي- التي روّج لها الرئيس الأمريكي، قد أضعفها بشدة حقيقة أن الولايات المتحدة لم تدخلها؛ لأن مجلس الشيوخ بالأغلبية الجمهورية لم يُصادق على الاتفاق الذي تبناه وودرو ويلسون الذي لم يكن حذرًا بما فيه الكفاية لإيجاد اتفاق مقدما مع خصومه السياسيين المحليين.
ودرو ويلسون لم يعرف كيفية إعطاء مضمون لمقاصده المثالية المتمثلة في بناء نظام عالمي متوازن، والحَدُّ الذي يمكن فيه استخدام هذه الصفة في المجال السياسي. وضع مبدأ تقرير المصير للشعوب، والذي كان من المفترض أن يكون حجر الأساس لهذا البناء الجديد دون احترام هذا المبدأ (فعلى سبيل المثال، نجحتْ إيطاليا في ضم جنوب التيرول الناطق بالألمانية واليابان شاندونج بأغلبية صينية)؛ وبالنسبة لألمانيا، عوملتْ كأمة إجرامية أكثر من كونها دولة مهزومة وتم فرض شروط سلام قاسية ومُهينة وَلَّدَتْ في البلاد شعوراً بالثأر لدي شعبها. كما ورد في كتاب لجون ماينارد كينيز "العواقب الاقتصادية للسلام"، الذي حَذَّرَ بالفعل في نفس العام 1919 من المخاطر التي يُمكن أن تأتي من هذا السلام المفروض على الألمان.
فنحن نعرف نتائج المؤتمر وهي المطالبة بأنَّ تُنسب إلى ألمانيا وحلفائها جميع المسؤوليات المرتبطة بالكارثة التي تمثلها الحرب العظيمة وتبعاتها. فتلك المعاهدة والتي من الأصح تسميتها "المعاهدات" التي تلت تلك الأعمال وعقدت مع القوى المهزومة الوحيدة: ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، والسلطنة العثمانية. بالمعاهدة تم الاستيلاء على مساحة 65000 كيلومتر مربع من الأراضي من ألمانيا وسبعة ملايين من السكان ذوي اللغة والثقافة الألمانية؛ ليصبح المجموع 13 في المائة من مساحة البلاد.
كانت النمسا والمجر ستُعاقب بنفس الطريقة مع حظر النمسا من الانضمام سياسيا إلى ألمانيا بانتهاك واضح لمبدأ تقرير المصير للشعوب. وهو المساهمة الإيجابية الوحيدة للرئيس الأمريكي في المؤتمر، حيث كان الميل للاعتراف بمناطق للفائزين ورفض قبول آراء المهزومين. فالرئيس الأمريكي لم يجد صعوبة في منح إيطاليا بولزانو وميرانو وكامل التيرول الجنوبي ذي الثقافة الألمانية، لكنه عرقل بعناد ضم مدينة فيومي لإيطاليا لدرجة المخاطرة بفَضّ المفاوضات الباريسية على الرغم من أن المدينة والمناطق المحيطة بها كانت تتحدث الإيطالية.
حتى مشكلة أضرار الحرب لم يتم تناولها من حيث الحاجة إلى سداد الديون المتعاقد عليها من قبل الفائزين مع أصحاب الصناعات الحربية وقبل كل شيء مع البنوك الأمريكية.
من المُناسب التذكير بأنه وبعد مرور عامين على اختتام مؤتمر باريس، تم عقد مؤتمر عالمي آخر في واشنطن بين 12 نوفمبر 1921 و 6 فبراير 1922 بدعوة من خليفة الرئيس ويلسون الجمهوري وارين هاردينج عام 1922، بحضور جميع من شاركوا في مؤتمر باريس مع الفرق الوحيد للمؤتمر، وهو النظر إلى الرقعة المتعلقة بالمحيط الهادئ بدلاً من المحيط الأطلسي بتركيز كبير على القضايا البحرية. وفي مؤتمر واشنطن، وباستخدام أكثر أساليب الدبلوماسية واقعية وفعالية من تلك المستخدمة في باريس، استطاع الرئيس الجديد الحصول على قبول لدى الدول الكبرى في العالم لخفض التسلح الذي تم العمل به لغاية الحرب العالمية الثانية.
كان هناك العديد من القضايا الأخرى على المحك في مؤتمر باريس، ولا توجد وسيلة لذكرهم جميعًا، ولكن ربما لا تزال هناك إشارة تستحق، وهي العقلية الاستعمارية التي تمت بها المطالبة بإدارة أراضي الشرق الأوسط بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية والتي تعتبر للأسف أحد الأسباب التي تكمُن في الأحداث المتضاربة الموجودة اليوم في ذلك الجزء من العالم، وبعد قرن من الزمان، يُمكن القول إن عواقب إفلاس اتفاقات السلام هذه لم تكتمل بعد.
ما كان على المِحَكّ في مخاطر تحرير العالم العربي من نَيْر التركي هو إقناع العرب الحصول على دولة، فكرة الأمة كما هي الحال في الغرب؛ حيث ظَلَّ العالم العربي مرتبطًا بالقبيلة والانتماء إلى الأمة المسلمة؛ فهُوية العرب الدينية توحدهم مع الأتراك والفرس والأكراد والأفارقة وجميع المسلمين. وهذا ما كان ليعجب ويكفي الأوروبيين الذين انتبهوا له منذ القرن الثامن عشر، واعتبروه عاملا قويا لتعطيل الهيكل العثماني وبعبارة أخرى: كان من الضروري حث العرب على إقناع أنفسهم تدريجيًّا بأن القيمة الجديدة، هويتهم الوطنية، تعرضت للإهانة والإنكار بسبب حقيقة اعتبارهم الخليفة "قائد المؤمنين" وهو تركي، أجنبي ظالم. فكان من الضروري جعل هذه العملية أسرع.
ظهر اقتراح لتنظيم الهيكل العثماني بشكل جديد بتقسيمه إلى خمس محافظات تتوافق مع آسيا العثمانية: سوريا، وفلسطين، وأرمينيا، والأناضول، والجزيرة - العراق؛ لتخضع هذه المنطقة بطريقة ما للسيطرة البريطانية، وتزويدها بسكة حديد، تبدأ من ميناء الإسكندرون على البحر الأبيض المتوسط وفقًا لكيتشنر، وحيفا وفقًا لسايكس، وصولا إلى الخليج العربي. وبهذا تم ضمان "الطريق إلى الهند". خلال العمل، برزت فكرة داخل اللجنة مفادها أن تركيا بعد الحرب يجب أن تختفي مع أراضيها السابقة التابعة لها.
وفي 23 نوفمبر 1915، بدأت المفاوضات في لندن بين الوفد البريطاني برئاسة السير آرثر نيكولسون وكيل وزارة الخارجية، الذي تولى مارك سايكس مهامه في ديسمبر والوفد الفرنسي برئاسة فرانسوا جورج بيكو، مؤيد قوي للحقوق والمصالح الاستعمارية لبلاده، ويدافع عن "الحركة من أجل سوريا الفرنسية" و"المهمة التاريخية" لفرنسا في الشرق الأدنى التي كانت نشطة في البرلمان وفي الرأي العام.
انتهت باتفاق تقوم فرنسا على أساسه بحكم لبنان بشكل مباشر لغاية الموصل وأغلب سكانه من السنة، في حين أن بغداد والبصرة، عواصم محافظات بلاد الرافدين الوسطى والجنوبية، أو العراق الآن ومعظم سكانه من الشيعة إلى إنجلترا. أما بالنسبة لفلسطين، فقد كان الإنجليز قد فازوا بالمنطقة الواقعة بين عكا وحيفا بقطعة أرض لبناء خط سكة حديد مباشرة إلى بلاد الرافدين (ميسو-بوتاميا)، بينما تخضع البقية لإدارة القانون الدولي، وتبقى الأقاليم العربية المتبقية موحدة في دولة واحدة أو مقسمة فيما بينها إلى دول تخضع لسيادة إحدى الدولتين.
تمَّت الموافقة نهائيًا على اتفاقيات سايكس بيكو من قبل الحكومتين الفرنسية والإنجليزية في أوائل فبراير 1916، ولكن في الوقت ذاته وفي أقصى درجات من السرية صمت النَّصّ عن المساحة التي ستمنح للحركة الصهيونية في فلسطين.
حتى ظهور وثيقة جديدة في تاريخ 2 نوفمبر 1917 والمعروفة باسم "إعلان بلفور" من وزير الخارجية البريطاني إلى البارون ليونيل والتر روتشيلد ممثل المنظمة الصهيونية العالمية. ذكر فيها أن الدبلوماسية البريطانية ترحب بتحويل المستعمرات الصهيونية التي أقيمت بالفعل في فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى وطن للشعب اليهودي، والخطوة الأولى نحو تأسيس دولة المستقبل وتبعات كل ذلك إلى يومنا هذا.
بالضبط المسافة بين النوايا والنتائج التي حققتها الدبلوماسية العالمية في العام 1919 وجذور الاهتمام الذي حرَّكَ المؤلفين في صياغة هذا النص. شخصية الرئيس وودرو ويلسون الذي ندين له ببعض الدوافع المثالية، والقرارات الملموسة الأقل توازناً التي أظهرته كرجل لم يكن يعرف شيئا في دبلوماسية أوروبا.
يجب علينا أخيرًا التذكير بأن القارة التي عقد فيها مؤتمر باريس للسلام وأن نتائجه وتبعاته لم تنته بعد ولم يكشفها أحد في مجملها وتحتاج لأكثر من مستكشف واحد، ولا توجد خرائط تفصيلية ولكن خرائط غير مؤكدة فقط مثل تلك التي وجهت المسافرين في القرن التاسع عشر، ولكن لا تزال تحافظ على أسرار ومناطق مجهولة.
-----------------------
تفاصيل الكتاب
- العنوان : "السلام المفقود.. مؤتمر باريس ونتائجه".
- المؤلف: فرانكو كارديني وسيرجيو فالزانيا.
- الناشر: ليشييي، موندادوري للنشر، 2018، بالإيطالية.
- عدد الصفحات: 234 صفحة.
