التقشف: عندما يعمل وعندما لا يعمل 

Picture1.jpg

مجموعة مؤلفين

عرض: محمد السالمي

سياسة التقشف المالي مُثيرة للجدل بشكل كبير؛حيث يرى المؤيدون أن عجز الموازنة يجب معالجته بقوة في جميع الأوقات وبأي ثمن.وفي المقابل، يجادل المعارضون بأنه يمكن أن يؤدي ذلك إلى كبح النمو.ويشير مصطلح "التقشف" إلى سياسة التخفيض للعجز الحكومي؛ وذلك عن طريق خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب أو كليهما. يَبْحث هذا الكتاب في تكاليف التقشف، وأنواع سياسات التقشف التي يمكن أن تحقق الأهداف المعلنة بأقل التكاليف، والآثار الانتخابية للحكومات التي تنفذ هذه السياسات.هذا الكتاب من تأليف الثلاثي الإيطالي الشهيرالبرتو اليسينا، وكارلو فافيرو، وفرتانشيسكو جيافزي.فالبرتو اليسينا هو أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هارفرد، وقد شغل منصب رئيس قسم الاقتصاد سابقاً. أما كارلو فافيرو، فهو يعمل أستاذاً في تسعير الأصول والتمويل في جامعة بوكوني كما يعمل كخبير اقتصادي لدويتشه بنك،بينما فرتانشيسكو جيافزي فهو أستاذ الاقتصاد في جامعة بوكوني، وقد عمل سابقا مستشارا للحكومة الإيطالية لمراجعة الإنفاق وأيضا عمل كمستشار لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

يتناول مؤلفو هذا الكتاب عواقب تدابير التقشف في مناطق جغرافية متعددة على مدار السنوات وتحليل ردود الاقتصادات على تدابير التقشف هذه. لقد قاموا بتصنيف عينات التقشف والتركيز بشكل خاص على الاختلافات بين تدابير التقشف القائمة على الضرائب والإنفاق. تظهر النتائج تفوق التقشف القائم على تخفيض الإنفاق بدلا من رفع الضرائب.

ويهدفُ مُؤلفوهذا الكتاب إلى شرحالتجارب الحديثة مع خطط التقشف التي تم تنفيذها بعد الأزمة المالية، خاصة في أوروبا، بما في ذلك الأحداث في اليونان. في الفصل الثاني من الكتابيراجع الكتاب "نظرية" السياسة المالية الأساسية بدأً بالنظرية الكينزية البسيطة، ثم يضيفالمؤلفانعددًا من العناصر بما في ذلك تأثيراتالعرض والتوقعات والتشوهات الضريبية. وفي الفصل الثالث،يقوم الكتاب بمراجعة عدة أمثلة لخطط التقشف التي تم تنفيذها قبل الأزمة المالية من حيثمقارنة الخطط الأكثر أو الأقل تكلفة، بما في ذلك أمثلة من خطط التقشف التوسعية. يستعرض الكتاب في الفصل الرابع أدلة الاقتصاد القياسي السابقة حول آثار التقشف والأدلة التجريبية ذات الصلة والمتمثلة في "المضاعفات المالية". أما في الفصل الخامس، فيتم عرض المنهجية الرئيسية للكتاب وهي فكرة الخطط المالية. وفي الفصل السادس يتمحور حول البيانات وقد وضع المؤلفان بالاتفاق مع دار النشر رابطاللبيانات في حال أراد القراء الاستفادة منها. أما الفصلالسابع، فيعرض النتائج الرئيسية حول آثار خطط التقشف القائمة على النفقاتمن الضرائب. كمايناقش التأثيرات على الناتج المحلي الإجمالي ومكوناته من الاستهلاك والاستثمار وصافي الصادرات وأيضًا على ثقة المستهلكين والأعمال وعلى أسعار الفائدة. إضافة إلى دور السياسات المصاحبة من تخفيض قيمة العملة والسياسة النقدية والإصلاحات الهيكلية في أسواق السلع والعمل. ويركز الفصل الثامن على الجولة الأخيرة من خطط العمل التي تم تنفيذها بعد الأزمة المالية. حيث يتم مناقشتها من منظور ما إذا كانت تبدو مختلفة عن الحالات السابقة وما إذا كانت أكثر تكلفة من حيث خسائر الإنتاج. ويرى المؤلفون أن أحد الأسباب التي تجعل تقشف ما بعد الأزمة في أوروبا أكثر كلفة بشكل خاص، هو أنه بدأ عندما كانت الاقتصادات لا تزال في حالة ركود عميق. وفي الفصل التاسع،يناقش الكتابالفرق الذي يحدثه إذا تم تقديم خطة تقشف في وقت يكون فيه الاقتصاد في حالة نمو بدلاً من الركود. يقدم المؤلفون تساؤلا في الفصل العاشر حول ما إذا كان التقشف يمثلقبلة الموت أو النهاية بالنسبة للحكومة التي تنفذه.

كما هو متعارف عليه، إذا اتبعت الحكومات سياسات مالية كافية في معظم الوقت، فلن نحتاج إلى التقشف أبدًا. تشير النظرية الاقتصادية والممارسة الجيدة إلى أنه ينبغي للحكومة أن تواجه عجزًا خلال فترات الركود وذالك عندما تكون إيرادات الضرائب منخفضة وينخفض أيضاً ​​الإنفاق الحكومي. ومن هنا ينبغي موازنة هذه العجوزات بالفوائض أثناء الطفرات وعندما تكون احتياجات الإنفاق منخفضة. وإضافة إلى ذلك، قد ترغب بعض الحكومات في تجميع الأموال "في الأيام الممطرة" لاستخدامها عندما تكون احتياجات الإنفاق مرتفعة مؤقتًا واستثنائيًة. إذا اتبعت الحكومات هذه الوصفات، فلن تكون هناك حاجة إلى التقشف.

وبدلاً من ذلك، تعد فترات التقشف شائعة نسبيًا، وذلك لسببين. أولاً: لا تتبع معظم الحكومات الشروط المذكورة أعلاه: غالبًا ما تتراكم العجوزات حتى عندما ينمو الاقتصاد ولا يتم تعويض العجز الناتج خلال فترات الركود عن طريق الفوائض أثناء الطفرات. ونتيجة لذلك، فإن العديد من البلدان قد تراكمت عليها ديون عامة كبيرة حتى في الأوقات "العادية" تمامًا. تراكمت على إيطاليا وبلجيكا وإيرلندا ديون كبيرة في أواخر السبعينيات والثمانينيات عندما كان نمو الناتج المحلي الإجمالي قوياً نسبيًا. وقد تُفسر بإن الاضطرابات السياسية المختلفة قد تقود الحكومات إلى عدم فرض ضرائب كافية على الإنفاق الزائد.

السبب الثاني وراء الحاجة للتقشف هو أن الإنفاق الحكومي الاستثنائي في بعض الأحيان والناتج عنحرب أو كارثة كبرى، ربماتكون نتائجه أكبر مما كان متوقعًا؛ بحيث يخلق الكثير من الديون التي لا يمكن تخفيضها ببساطة مع النمو الاقتصادي. في بعض الحالات، نمت بعض الدول من الدين، لكن هذا ليس ممكنًا دائمًا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، كان معدل التضخم مرتفعًا بدرجة كافية لتخفيض الديون المتراكمة خلال سنوات الحرب. لكن في العقود الأخيرة، لم يكن هذا هو الحال عمومًا. في الواقع، فإن ارتفاع الدين في حد ذاته هو في بعض الأحيان عائق أمام النمو،وذلك يتمثل في الضرائب المرتفعة اللازمة لتمويل الفائدة على الديون. غالبًا ما يؤدي مزيج الديون المرتفعة والنمو المنخفض إلى أزمات الديون حيث يفقد المستثمرون ثقتهم في قدرة الحكومة على سداد الدين. ثم يتم تقديم سياسات التقشف في محاولة لاستعادة الثقة.خلاصة القول هي أن تدابير التقشف مطلوبة أحيانًا بسبب أخطاء السياسات السابقة، أو مزيج من أخطاء السياسة والصدمات السلبية الغير متوقعة. ولحسن الحظ أن هذه الأخيرة نادرة نسبيًا، لذا فإن التقشف دائمًا ما يكون نتيجة لضعف التبصر والإنفاق الزائد بالنسبة لعائدات الضرائب.

ويقوم المؤلفون بتحليل التقشف قبل الأزمة المالية وبعدها، واستخلصوا أن التقشف القائم على خفض الإنفاق لا يؤدي إلى تدهور طويل الأجل في النمو، وغالبًا ما يؤدي إلى تحسين الثقة من القطاع الخاص. علاوة على ذلك، فإن الكتاب يحلل العواقب السياسية لتنفيذ التقشف على إعادة الانتخاب ولا يجد أي علاقة في ذلك،حيث تشير النظريةالشعبية سابقاأن الحزب الحاكم غير محبذ لإعادة انتخابهوهذا غير صحيح. فعندما يفهم السكان الحاجة إلى التوحيد المالي، فلن يعاقب الناس الحكم الرشيد. يسأل مؤلفو الكتاب سؤالًا عن سبب استمرار التقشف الضريبي في مجموعة من الأدوات على الرغم من العيوب النسبية الواضحة التي تواجهه في معالجة مشاكل حول الوكيل الرئيسي في الحوكمة. دون أن ننسى أن أحد أقوى جوانب الكتاب هو مجموعة البيانات المرتبطة التي يمكن تحليلها.

كما تطرق الكتاب لموضوع التقشف التوسّعي والذي يحدث عندما يقترن التخفيض في الإنفاق الحكومي بزيادة في المكونات الأخرى للطلب الكلي والمتمثلة في الاستهلاك، والاستثمار، وصافي الصادرات، والتي تعوض أكثر من ذلك عن تخفيض النفقات الحكومية، وهذا ما يفسره البعض. بينما يرى الكتاب أن التقشف توسّعي عندما يكون النمو إيجابياً خلال فترة التقشف أو في أعقاب ذلك مباشرة. لنتخيل أن التقشف يحدث في فترة تشهد فيها معظم الدول طفرة في الاقتصاد بينما البلاد ذات التقشف،أداؤهاكان أسوأ من المتوسط ​​ولكن مع النمو الإيجابي. تنطبق الحجة المعاكسة عندما تنفذ دولة التقشف في فترة الركود العالمي. يعني التعريف البديل أن التقشف توسّعي عندما يكون مصحوبًا بنمو في الإنتاج أعلى من عتبة معينة. هذا هو التعريف الذي يتبناه الكتاب.

ويقدم هذا الكتاب العديد منالمساهمات في السياسة المالية؛ أولهاهي البيانات؛ حيث يستطيع الجميع الحصول على بينات هذا الكتاب، فقد قام مؤلفوه بحصر ما يقرب من 200 خطة تقشف متعددة السنوات نفذت في 16 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECDمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى عام 2014.

أما المساهمةالثانية، فهي المنهجية؛ حيث يقوم النهج القياسي بتقييم فترة السياسة المالية حسب الفترة، ودراسة التحولات الفردية في الضرائب أو الإنفاق، والتي يشار إليها غالبًا باسم "الصدمات المالية". ويطل هذا النهج على نقطتين مهمتين. الأولى هيطبيعةالتعديلات المالية متعددة السنوات. فعندما تقرر الهيئات التشريعية إطلاق برنامج دعم مالي، نادراً ما يتكون هذا من تحولات معزولة في نوع الضريبة أو في بند نوع الإنفاق، بدلاً من ذلك، فإن ما يتم تبنيه هو عادة خطة متعددة السنوات تهدف إلى خفض عجز الموازنة بمقدار معين كل عام إلى الحد الذي تتطابق فيه التوقعات بالنسبة لخطط المستهلكين والمستثمرين. الملاحظة الثانية هي أن القرارات المتعلقة بخفض الإنفاق ورفع الضرائب مرتبطةبهدف تخفيض العجز ولا يمكن افتراضها مستقلة عن بعضها البعض. بمجرد أخذ هذه القرارات في الاعتبار، يبدو أن تحليل السياسة المالية في كل عام يكون غير مكتمل ومضللا إحصائياً. يعالج الكتابهذه المخاوف من خلال وضع خطط مالية متعددة السنوات ووصف آثارها على الاقتصاد.

وتشكل نتائج التحليل المساهمة الثالثة للكتاب؛حيث يوضح الفرق الحاد بين خطط التعديل التي تعتمد في الغالب على الزيادات الضريبية والخطط القائمة في الغالب على تخفيض النفقات. وأخيرًا،فإن المساهمة الرابعة للكتاب تكمن في تساؤلمؤلفي الكتاب ما إذا كان التقشف يعني نهاية الانتخاب للحكومات التي تتبنى هذه السياسات. نستنتج أنه ليس كذلك، أو على الأقل ليس بالضرورة.

كتاب التقشف هو إنجاز علمي مثير؛ فقد أثار اهتمام القراء والنقاد، وتم تصنيفه ضمن أفضل الكتب الاقتصادية لهذا العام من قبل بلومبيرج والفايننشيال تايمز؛ فهذا الكتاب يجسد عقودًا من البحث ويتجه ليكون بمثابة محك للدراسات المستقبليةسواء من جانب أولئك الذين سيبنون عليها ومن جانب أولئك الذين سيحاولون هدمها. فهو دليل رائع لصانعي السياسات والباحثين الأكاديميين على حدٍّ سواء.

-----------------------

تفاصيل الكتاب

- الكتاب: "التقشف: عندمايعملوعندمالايعمل".

- المؤلفون: Alberto Alesina , Carlo Favero , Francesco Giavazzi.

- الناشر: Princeton University Press، 2019، بالإنجليزية.

- عدد الصفحات: 296صفحة.

 

أخبار ذات صلة