التجربة الدينية إرث تتشاركه الإنسانية

أم كلثوم الفارسي

لطالما شكل الدين، ويشكل، أحد أهم المكونات التي تتحكم في الإنسان،وتؤثر في جوانب عديدة ومهمة من شخصيته وحياته ككل. وتختلفأبعاد الظاهرة الدينية باختلاف الثقافات والمجتمعات، بل باختلاف الأفراد أنفسهم، فالدين كتجربة تظل عبارة عن كل أو مجموع معقد ومتشابك من العواطف والمشاعر التي يصعب إخضاعها لقانون عام.

و مما تجدر الإشارة إليه أن للدين  القدرة على أن يجعل الإنسان يرتفع ويسمو عما قد يصيبه من نواقص وأمراض نابعة من عالم الحس والتجربة ،لذلك نجده قد بات يعيش على وعي بوجود علاقات تربطه بعالم آخر فوق بشري، وأصبح واثقا يدرك أنه مادام قد خَبر هذا الشعور الديني، فإنّ حياته قد تغيرت واتسعت وتمجدت.

إنّ هذا الشعور المتصاعد نحو الروح أُطلق عليه (التجربة الدينية) وهذا الموضوع تناوله الدكتور -محمد الشيخ- بالدقة والتفصيل في مقاله ":مسألة التجربة الدينية عند الفلاسفة المحدثين" حيث تتطرق إلى  محاور عدة تدور حول ماا لذي يقصد عادة بالحديث عن "التجربة الدينية"؟ أهو نفسه ما نقصده بالحديث عن "التجربة الروحية" أو "التجربة الباطنية" أو "التجربة الجوانية" أو حتى "التجربة الصوفية"؟ ما الفرق بين هكذا تجربة وما نعتبره "التجربة العادية"؟ ومن ذا الذي لا تحصل له هذه التجربة؟ ومن ذا الذي تحصل له؟وقبل هذا وذا هل هي تجربة تعم أم هي تجربة تخص؟وكيف نسمع عنها حين تحدث؟ وما الذي يمكن أن تفيده مثل هذه التجربة؟ بل كيف يمكن تأويلها؟

ثمة مضامين عدة من لحظات حياة الإنسان تدخل تحت مسمى "التجربة الدينية": شعور المرء بالحاجة إلى المغفرة، وحيرته في لغزالموت، واستفهامه عن سرالألم، وتأديته لشعيرة الصلاة. والحال أن مضامين هذه التجربة حتى وإن هي كانت منغرسة بأشد انغراس يكون في "ذاتية الفرد" إلا أنها لا تبقى مركونة في مجال الذاتية منزوية فيه، إنما هي تجارب تتم داخل تقليد وتراث، وما عادت كما ظُنت لزمن طويل في الفلسفة تجارب دينية خاصة وغيرعقلانية؛ أي خبرات متأبية عن التعقل الذي هو شغل الفلسفة الأساسي.

فالتجربة الدينية تجربة ذاتية، يُقرر الفرد فيها التواصل مع واقع متسامٍ (متعالٍ)، لقاءً أو اتحادًا مع عالم اللاهوت. وغالبًا ما تضمن مثل هذه التجربة الوصول إلى بعض المعرفة أو البصيرة التي لم تكن سابقًا متاحةً لهذا الموضوع بالرغم من عدم خضوعها للمساءلة أو عدم توقعها وفقًا للإطار المفاهيمي المُعتاد أو النفسي الذي يُستخدم من خلاله الموضوع للتشغيل. تجلب التجربة الدينية عمومًا فهمًا جزئيًا أو كليًا للأمور الشخصية الأساسية التي قد تكون سببًا (سواء أكانت مُعترفًا بها بوعي أم لا) للكرب أو الاغتراب للموضوع لفترة زمنية محددة. ويمكن تجربة هذا كشكل من أشكال الإبراء أو التنوير أو التحول. وقد مكَّنت أوجه التشابه والاختلاف بين التجارب الدينية عبر مختلف الحضارات الباحثين من تصنيفها للدراسة الأكاديمية.

 ويمكن أن نفسر التجربة الدينية بأنها منهج استنباطي للصلة بين النفس والإله، حيث أن لكل مجرب طريقته الخاصة في السير نحو الذات العلية (الله)، لذلك تكمن حقيقة التجربة الدينية في مجموعة التجارب الذاتية وبالرغم من اختلاف مضامين ومواضيع ومنطلقات التجارب الدينية، فإن هذا لا يلغي وجود صلات تقارب واتصال وتفاهم بينهم في مختلف الجوانب الروحية والفكرية والسلوكية ضمن إطار التجربة الدينية ومنطقها.

يعد الفيلسوف وليام جيمس من الأوائل الذين تحدثوا عن أهمية (ما تحت الشعور) في جعل الإنسان يعيش تجارب روحانية وعرفانية ودينية، كالإخلاص والصفح والمحبة والتكفير عن الذنب وبذل النفس، فكانت هذه أبرز نقطة يلتقي عندها الدين والعلم بأنه صار على اتصال بالله.

فكرة جيمس حول "التجربة الدينية أنها التجربة الحاسمة التي تمثل ولادة جديدة للمرء الذي يعيش هذه التجربة. ذلك أنه أمام التجربة الدينية ثمة أنواع من الأنفس: ثمة مايسميه "الأنفسا لسليمة" التي ولدت مرة واحدة ولاتحتاج إلى ولادة ثانية. وثمة "الأنفس السقيمة" التي لا ترى في هذا العالم سوى الألم والضياع والشر والمعاناة. لكن جيمس يتماهى مع الضرب الثاني من الأنفس وكأن حديثه عنها حديث عن نفسه وعن تجربته الخاصة. إذ يجد أنّ الأنفس المعذبة من شأنها أن تكون أعمق وأشرق إذا ما خاضعت لتجربة دينية وفتحت نوافذ روحها باتجاه الرب.

وفي نظر الغزالي فإنّ الأشخاص الذين يمتلكون التجربة العرفانية فإنّ تجربتهم من جنس التجارب النبوية ولذلك يدركون معنى النبوة ويصدقون بذلك الكلام النابع من هذهالتجربة ويفهمون ويعلمون مصدر هذا الكلام والمرتبة التي نالها المتكلّم. وعلى هذا الأساس فإنّ الطريق لمعرفة ماهية النبوة والتعرف على النبي مفتوح لكلّ إنسان. ومن العجيب أنّ النبي نفسه فتح هذاالطريق للآخرين.

 وخلاصة القول، أنّ التجربة الدينية تتجدد كفضاء لما هو روحاني في عمق التاريخ. فهي مرتبطة بشكل خاص، كظاهرة أنثروبولوجية، بالوجودالإنساني. وكل محاولة تسعى لانتزاع تعريف دقيق وحصري لها، تصطدم بمعيقات تحول كل مجهود مبذول في هذا الاتجاه أو ذاك إلى مجرد تبخيس لمحتوى تجربة فريدةوحية، لها منا لدلالة ما لايمكن احتواؤه في تعاريف يغلب عليها طابع العمومية. فلم تكن التجربة الدينية في أي وقت من الأوقات رهينةً بثقافة أوعقيدة خاصتين، لأنّها وبكل بساطة إرث تتشاركهالإنسانية باختلاف الأزمنة والثقافات.

إن هذه التجربة الدينية، من منظورها الكوني والتاريخي، لم تكلّ من استفزاز مخيلة الكثيرمن المفكرين و فضولهم، سواء كانوامن أولئك الذين جعلوا من جاذبيتها نمطاً لحياتهم، أومن أولئك الذين شكّكوا في حقيقتها التجريبية والمعيشة. هؤلاء كما الآخرين لم يستطيعوا، كل من موقعه، أن يتجاهلوا فرصة خوض مغامرة البحث عن المعنى وفهم طبيعة ونمط وجودها. فمنذ أن استطاعت التجربة الدينية أن تغادر قلعتها الحصينة المليئة بالخصوصية، وتنفتح على مجال اللغة، أصبحت التساؤلات المطروحة حول طبيعتها ونمط وجودها أكثر إلحاحا ولا يمكن تجاهلها.

أخبار ذات صلة