فيصل الحضرمي
في مقالته المنشورة بمجلة التفاهم تحت عنوان "مدارس اللاهوت البروتستانتي الحديثة والتعددية الدينية"، يطرح الباحث المغربي محمد بنتاجة رؤيته النقدية لأهم نظريات اللاهوت المسيحي الحديثالمتصلة بتدبير الاختلافات الدينية بين المذاهب المسيحية، كما بين الأديان المختلفة. ويستهل الكاتب مقالته بالإشارة إلى أن توجه الأديان والمذاهب الدينية إلى التحاور فيما بينها بغية التعرف إلى بعضها البعض أمر حديث نسبياً يرجع إلى القرن الماضي الذي أجريت خلاله العديد من البحوث العلمية التي رمت إلى تفكيك مركزيات الأديان، بهدف الوصول إلى "نظريات خلاصية أكثر انفتاحية وتقاربية"، الأمر الذي أدى إلى تدشين مرحلة جديدة في التفلسف الديني.
ويرى الكاتب أن تعمق الموضوع يحتم التساؤل حول المنهجية التي يمكن اعتمادها بإزاء تدافع الأديان فيما بينها. كما تستلزم معالجة الموضوع الإجابة عن سؤال آخر يتعلق بالكيفية التي يمكن بها التوفيق بين سائر هذه الأديان، سيما مع الأخذ في الاعتبار مسألة "الحصرية الثقافية" التي تجعل من الدين السائد في مكان ما الخيار البدهي لأي شخص ينتمي لذلك المكان. كما أنَّ هذا الشخص يجد نفسه مطالباً بالدفاع العقلاني عن معتقداته، كما بالإجابة عن مجموعة من الأسئلة المحورية التي يأتي في مُقدمتها سؤالان يتعلق أولهما بافتراض وجود جوهرٍ واحد للأديان جميعها، ويتعلق ثانيهما بنجاعة الحوار في التوفيق بين الآراء المتناقضة للأديان المختلفة.
ويُشير بنتاجة إلى التقسيم الذيوضعه اللاهوتيون المسيحيون للتعددية الدينية. فالأخيرة تنقسم إلى تعددية داخل الدين وتعددية خارجه. وتفترض التعددية داخل الدين أن التفاسير المختلفة التي تنطوي عليها مذاهب الدين الواحد صحيحة بأجمعها، وأنها تقود إلى ما يشبه الجمع بين نقيضين. أما التعددية خارج الدين ففحواها أن الحقيقة موجودة في كافة الأديان، وأن كل واحد منها يكفل الطريق إلى السعادة نظراً لاحتوائه نفس الجوهر.وقد ارتكزت التعددية الدينية على عملية تفكيك قضية المطلق عبر صراع طويل مع الكنيسة الكاثوليكية،ما أدى إلى إرساء العقلانية الدينية التي تؤمن بنسبية الحقيقة.
ويضيف الكاتب أنَّ العقلانية الدينية أفرزت العديد من المدارس الفلسفية التي لكلٍ منها فهمه المختلف للمعرفة. فمنها ما يعتبر الإنسان منطلق المعرفة، مع نفي أي معرفة سابقة على شروعه بالمعرفة. ومنها ما يرى أن المعرفة لا تتحقق إلا فيما يتعلق بالظواهر، مع إنكار إمكان معرفة الذوات. وهذه الأخيرة تعتمد على التجربة البشرية وحدها، في إلغاءٍ كاملٍ لنظرية الوحي في تأسيس الأديان، وترى أن لغة الدين لغة رمزية،لا حرفية. وبحسب الظاهراتية، تخضع عملية تأويل النصوص المقدسة لقيود الثقافة البشرية الستة –القيد الطبيعي، والقيد التاريخي، والقيد اللغوي، والقيد الاجتماعي، والقيد البدني، والقيد العاطفي- ما يُؤدي إلى "سيولة المعنى"؛ أي تعدده وانفتاحه على مُختلف التأويلات.
وينوه الكاتب بالخصائص الأربعلنسبية الحقيقة الدينية،والمتمثلة في: حركية الحقيقة الدينية؛ أي سهولة تغيرها بفعل تأثرهابالقيود الستة، وشخصانية الحقيقة الدينية؛ أي ارتباطها بطبيعة المتدين وأحواله، وخفاء الحقيقة؛ أي غموضها نتيجة ما تراكم عليها من "طبقات التاريخ" و"فهومات الثقافة" المختلفة، وكون البحث عن الحقيقة الدينية أكثر أهمية من الحقيقة نفسها. ويرى الكاتب أنه لا يمكن تعميم "النسبية التأويلية" على مجمل النص القرآني، فالقرآن الكريم، وفق ما ورد في سورة آل عمران، ينقسم إلى آيات "محكمات" لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التعددية، لأنها تمثل الحقيقة الدينية الإسلامية، وآيات أخرى "مُتشابهات" يمكن قبول التعددية فيها.بعد ذلك يستعرض الكاتب النظريات المختلفة التي طرحها فلاسفة الدين المسيحيون لتطوير تدابير يمكنها احتواء الاختلافات الدينية. وأولى هذه النظريات نظرية شلاير ماخر وكارل يونغ التي ترى أن الدين يتكون من لبٍ وقشور، حيث يكمن لب أي دين في الانفصال عن الذات والتوجه إلى الله، بينما تشكل التعليمات والأحكام والطقوس التي يشتمل عليها ذلك الدينالقشور التي تحفظ لبه وجوهره. وترى هذه النظرية أنَّ الأديان تتشارك اللب نفسه، بينما تختلف في الطقوس والمعتقدات الأخرى التي لا ينبغي أن يؤخذ بها بقطعية مطلقة. ويُجمل الكاتب رده على هذه النظرية في عدة نقود.أحدها، أن إهمالالقشور -حامية اللب- يشكل خطراً على اللب نفسه. كما أنه يتعذر أحياناً تمييز اللب من القشور، نظراً لارتباط أحكام الدين الواحد في "شبكية مرجعية". وثانيها، أن الأديان الأخرى اعتورها التحريف والتبديل، فما عادت تصلح لتكون منهاجاً للتقرب إلى الله. وثالثها، عدم وجود دليل على أن هناك جوهراً يوحد بين سائر الأديان.
والنظرية الثانية هي نظرية بول تيلّيش، والمعروفة باسم "التجربة الوحيانية الدينية". وتقول هذه النظرية بوجود ثلاثة عناصر في التجربة الدينية، وهي: عنصر السرية والخفاء، والعنصر العرفاني، وعنصر النبوة.كما يتحدد الدين وفق هذه النظرية من خلال ما يعرف بمبدأ "الاهتمام المطلق"، أو الهاجس الأكبر. وهو مبدأ يمنح الدين شموليةأوسع، ويُفضي إلى استحالة "العلمانية الراديكالية"، ما دام لا يمكن لأحد أن يحيا دون اهتمام مطلق. ويرى كاتب المقالة أن ضعف هذه النظرية يكمن في ربطها التجربة الدينية بعنصر النبوة التي هي "منحة إلهية لمن اصطفاهم الله من البشر"، ولا يمكن تحصيلها من طريق التجربة الدينية.
أما النظرية الثالثة فهي نظرية كارل بارث وديتريخت بونهوفر، القائلة بأن مركزية الله لا تتأتى إلا من خلال مركزية الإنسان، وهو ما عبّر عنه بارث في مقولته الشهيرة "الله في السماء، والإنسان في الأرض". وهي نظرية تفرّق بين الإيمان والدين، حيث الدين هو بحث الإنسان عن الله، وحيث الأديان ليست إلا تعبيراً جماعياً عن الإيمان. ويرى بنتاجة أنه لا يمكن الموافقة على زعم هذه النظرية أن الدين نتاجٌ من نتاجات التجربة البشرية، وأن الطقوس الدينية لا أهمية لها. غير أنه، بالمقابل، يشدد على الجانب المشرق في نظرية بارث وبونهوفر، والمتمثل في طابعها "الأكثر انفتاحية على باقي الأديان".ويخلص محمد بنتاجة في خاتمة مقالته إلى أن اللاهوتيات المسيحية الحديثة لا يُمكنها أن تؤسس كنيسة عالمية مقدسة رغم ما في اجتهاداتها من جِدةٍ وابتكار.وسبب ذلك، من وجهة نظره، أنها تتعامل مع الدين المسيحي من خلال أزماته الظرفية العابرة،وليس باعتباره كلمة الله المتجاوزة للزمان والمكان. وهو ما لا يمكنها إثباته على أية حال،نتيجةَ ما طال الكتاب المقدسمن تبديلٍ وتحريفٍ نجم عنهما تعقيد عملية تأويله، وتقويض عملية استيعاب لغته وتعاليمه.
