ناصر الكندي
يتناول أستاذ الفلسفة الإسلامية د. مهدي سعيدان في مقالته "الأخلاق في الفكر الفلسفي الإسلامي"المنشورة في مجلة التفاهم مسألة الأخلاق في الفكر الفلسفي الإسلامي، إذ يُشير إلى أنه لم يكن للفلاسفة المسلمين دائمًا اهتمام بهذه المسألة خلافًا لمباحث أخرى مثل المنطق والإلهيات والطبيعيات.
وقد أدى هذا النقص إلى إثارة سؤال مهم: هل يوجد فعلاً فلسفة أخلاقية في الفكر الإسلامي؟ وينبه الكاتب إلى أنَّ الإجابة لا ينبغي أن تكون من منظور الفلسفة اليونانية إذ يمكن أن يوجد طرح لهذا الموضوع من منظور آخرغيرمنظور الفلسفة، ويمكن القول بشكل عام أن المبحث الأخلاقي هو المبحث المتعلق بقيادة الفرد لأفعاله، وبناء على هذا التعريف يمكن تحديد جملة من المفاهيم التي تدخل في مجال البحث الأخلاقي مثل: الحرية، والقيم، والسعادة.
وفيما يتعلق بالحرية، لاشك أنَّ ما تطرق إليه اليونان من قضايا تحت لفظ "الحرية" لا يشبه ما خاض فيه المسلمون، فأغلب المفكرين اليونانيين رأوا أنَّ القول بأنَّ الإنسان حرهوتحصيل حاصل أو من المسلمات وذلك لارتباطه بالمدينة وتدبير الشؤون الدنيوية فيهاخاصة السياسية منها، فالإنسان عند أرسطو قادر على الاختيار طواعية بين السيئ والأسوأ، أما في الجانب الإسلامي، فقد تم تناولها في علاقة بالقدرة الإلهية، وهل الإنسان خالق لأفعاله أم لا؟ وعليه اختلفت المُقاربة مع الفكر اليوناني إذ إنَّ مسألة الحرية استبعدت من المجال العملي.
وينوّه الكاتب إلى أنَّ تاريخ النظر في قضية الحرية من قبل المسلمين هو تاريخ تأويل الآيات التي تتعلق بأفعال الناس وأعمالهم ومسؤولياتهم من جهة وبمشيئة الله من جهة أخرى، وأن ازدواجية المسألة المتعلقة بالقدر واتصالها بالشأن السياسي جعلها مسألة معقدة أدت إلى صراعات مذهبية خطيرة، ورغم أن مفهوم الاستطاعة كان أحد المفاهيم الأساسية التي دارت حولها نقاشات المتكلمين، فإنَّ مفهوم القدر هو الذي أخذ نصيب الأسد في النقاشات. واختلفت الفرق الإسلامية في فعل الإنسان بين الجهمية القائلة بإلغاء حرية الإنسان إلى المعتزلة القائلة بقدرة خلق الإنسان لأفعاله والأشعرية القائلة بنظرية الكسب.
وقد تطرق ابن سينا لمسألة الحرية ولكن تحت مقولة القدر، إلا أنَّ معالجتها كانت بمفاهيم فلسفية، فقد قام ابن سينا بوضع أفعال الإنسان في نظام وفقاً لمقولة الفيض بالنقيض مع الغزالي المنطلق من إرادة الله "كن". ويتصور ابن سينا العالم على أنه يخضع لأسباب تحدد منزلة الإنسان فيه وهوتصور غير مادي بل قائم على العلل الغائية، ولا يقف ابن سينا في ترقي العلل إلى الأجرام السماوية وإنما يخضعها للتدبير الإلهي، لهذا لا مكان في عالم ابن سينا للحرية من حيث هي هدف لا علة له، إذ إن ما لا علة لا معنى له.
ويتطرق الكاتب بعد ذلك إلى مفهوم "القيم"، إذ لا يوجد مصطلح القيم كما نفهمه اليوم في الفكر اليوناني ولا في الفكر الإسلامي. ويعد سقراط حسب شهادة شيشرون أول من جعل النظر في أسس الفعل الأخلاقي مركز البحث الفلسفي. وقد حوّل أرسطو المبحث الأخلاقي من مبحث نظري ميتافيزيقي أفلاطوني إلى مبحث أقرب إلى الاهتمام بالحياة الفعلية للبشر. ولم يقطع المسلمون تمام القطع مع القيم التي كانت سائدة قبل الإسلام، ولكن تمَّ تعويض الروح القبلية بروح الإخاء على الدين. وستطرح مسألة القيم في العلاقة بأوامر الله ونواهيه. واختلفت الفرق الإسلامية بشأن مفهوم الحسن لذاته والقبح لذاته المتبع في الفلسفة الأفلاطونية القائلة بنظرية المثل، ويؤكد الكاتب أن المماثلة بين القيم الأفلاطونية والإسلامية غير صائبة وذلك أنَّ المعتزلة أنفسهم ينكرون مفهوم الماهية.
ويستطرد الكاتب بأنَّ الحسن والقبيح من المنظور الإسلامي لا يوجدان إلا تبعاً لأوامر الله ونواهيه ومن ثم فإنه ليس للخير والشر حقيقة في ذاتهما، والغزالي يعبر عن ذلك حين يقول إن العقل يعزل نفسه بمجرد أن تظهر له حقيقة النبوة فيترك مكانه للخير المستفاد منها. ويذهب الحارث بن أسد المحاسبي إلى منحى يعلي فيه من قيمة العقل والمعرفة، وذلك من خلال تصنيف المتدينين إلى أصناف ومراتب، وجعل المنزلة الاجتماعية تتحدد وفقا لمدى التدين، وهنا نوع من الإرداة والحرية في اختيار الفعل. ووجود الشيطان في نفس الإنسان ومجاهدته يعطي الإنسان نوعًا من الحرية كما ذكر ذلك الغزالي، وعلى الرغم من اتفاق الفلاسفة على إنكاروجود الشياطين إلا أن ابن سينا لم ينكره بالجملة، فقد أحاله إلى القوى الباطنية مقابل الحواس الظاهرة.
وينتقل الكاتب إلى مفهوم "السعادة" مستعرضا إشكاليات التعريف الأرسطي له من خلال مفهوم "كمال الفضائل" هل هي اجتماع عدد من الفضائل للخير الأسمى أو الاكتفاء بفضيلة واحدة؟ وعلى الرغم من محاولات ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق"لإنزال الفعل الإنساني إلى المرتبة الدنيوية السياسية مثلما فعل اليونانيون، إلا أن الفشل في ذلك حصل في التحليلات اللاحقة لها والبعيدة عن الفكر الأرسطي، وذلك أن المتكلمين يرفضون في الأساس وجود النفس غير الجسمانية عكس الفلاسفة الذين يقرّون بها، وبالتالي فإنَّ الحوار بين الفريقين سيكون معدومًا، فغير الفلاسفة يجعلون المسائل المتعلقة بقيادة الفرد لحياته لتحقيق الخير الملائم له تنحصر في الاستجابة للأوامر الإلهية التي يُحددها الفقه.
وهناك محاولات لوضع العقل في مرتبة مقبولة للصراع مع الهوى كنوع من تأسيس مبحث إسلامي عن السعادة، ومن الأمثلة على ذلك كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي، كما يؤكد ابن سينا على أن الانهماك في اللذّات من شأنه أن يقطع السكينة الإلهية عن صدر الإنسان فيمنع الفيض الربوبي عن الحلول فيه، وسينحو ابن سينا، مثل أخوان الصفا، منحى نخبويا إذ سيجعل من المعرفة واكتساب العلوم العقلية أساسا للفوز بالآخرة دون العبادات والفرائض.
