قصة العمل: تاريخ جديد للبشرية

قصة العمل.jpg

جان لوكاسين

علي الرواحي

لم يتوقف الباحثون والكُتاب منذ فترة طويلة عن كتابة سرديات مختلفة تهدف لكتابةٍ جديدة للتاريخ البشري، مرة عن طريق الاستخدام البشري للغة، ومرة عن طريق الاختراعات، وهذه المرة في هذا الكتاب عن طريق تتبع تاريخ العمل وتحولاته في التاريخ البشري من الصيد، وجمع الثمار والمحاصيل، وصولاً إلى العمل عن بُعد كما هو الوضع الحالي، وعمل الإنسان الآلي أو الروبوتات.

فالعمل أو الشغل كما يُستخدم في الكثير من البلدان العربية، لا يقتصر فقط على الدخل المالي، بالرغم من مركزية وأهمية هذا الجانب، بل كان في مرحلة من مراحله عاملاً من عوامل الاستقلالية الفردية وبشكلٍ خاص للمرأة ولبعض الطبقات والأعراق التي عانت لفترة طويلة من الكثير من المظالم والاضطهاد، كما كان يُنظر للعمل على أنَّه المحرك الأساسي في التغيير الناعم للكثير من المجتمعات، وعاملاً من عوامل الإنتاجية التي يقاس بها تقدم الشعوب من عدمها؛ فالعمل بهذا المعنى تتنازعه رغبات مختلفة: جمع المال، والوصول للمناصب، والوجاهة الاجتماعية، وتغيير النمط الفكري للمجتمع. لذلك يرى جان لوكاسين بأننا نعمل ليس لأننا مضطرون لذلك، ولكن أيضاً لأننا نحب ذلك: فمن أزمنة الصيد وجمع الثمار منذ أكثر من آلاف السنين إلى العصر الحالي حتى العمل عن بُعد، عمل البشر دائماً على جعل العالم من حولهم يخدم احتياجاتهم.

 

في هذا الكتاب يقدم لوكاسين تاريخاً شاملاً للعمل البشري على مر العصور وتحولاته المختلفة من المنزل والقبيلة والمدينة والدولة، ويتناول أيضاً كيفية تقسيم العمل بين الرجال والنساء والأطفال؛ وتلك اللحظة الفاصلة لاختراع المال؛ والعمل الجماعي للعمال، وتأثير الهجرة والعبودية وفكرة الترفيه، من الفلاحين في المجتمعات الزراعية الأولى إلى الوجود غير المُستقر لعمال الوظائف المؤقتة اليوم.

قد لا تكون قصة العمل تتطور بشكلٍ مباشر منذ ذلك الحين وحتى الآن، ولكن هناك منطقا داخليا (وإن كان معقدا) لها، وذلك من خلال الأسماء البارزة في العلوم الاجتماعية. حيث توقع كل من آدم سميث وكارل ماركس وماكس فيبر وجود نوع من المُحركات أو الحوافز تدفع لهذه التغييرات في علاقات العمل، بغض النظر عن اختلاف تفكيرهم بشأن هذه المحفزات، وسعتها، ومردودها الاقتصادي؛ فالقاسم المشترك بين هذه الأسماء – كما يرى المؤلف - هو القوة الحاسمة التي ينسبونها للسوق بالمعنى الحديث، وذلك منذ بداياتها في أوروبا الغربية، وخاصة في الجمهورية الهولندية. بالنسبة إلى سميث، كانت تأثيرات هذا السوق خلاقة في نهاية المطاف؛ بينما كانت مدمرة بالنسبة لماركس. في حين رأى ماكس فيبر في كتابه "الروح الرأسمالية"، وجود عقلية مُعينة تركز على تحقيق الربح، وهو شرط ضروري لنجاح اقتصاد السوق. 

ففي هذه الأيام، يقضي معظم النَّاس على هذا الكوكب أكثر من نصف ساعات حياتهم في العمل، بما في ذلك التنقل بين مكان العمل والمنزل؛ وحتى في لحظات استراحاتهم المختلفة يقيمون علاقات غير مباشرة بالعمل، بما في ذلك التخطيط للعمل، وعقد الاجتماعات، والتفكير في الترقيات، وانتظار الراتب، وتحديد المشتريات وغيرها من العلاقات العمودية المختلفة، و إذا نظرنا إليها بهذه الطريقة، فإن قصة العمل هي إلى حد كبير تاريخ البشرية. فما هو المقصود بالعمل؟

المشكلة الرئيسة في التعريفات المختلفة التي لا حصر لها للعمل، هي أنها أحادية الجانب بشكل عام؛ حيث يؤكد البعض على جوانب معينة للعمل مع إهمال جوانب أخرى. على سبيل المثال، غالباً ما يتم التغاضي عن عمل المرأة مقارنة بالرجل، والعمل خارج جدران المصنع مقارنة بما يجري داخله، والعمل الفكري الذي يقاس بالعمل اليدوي، والعمل في المنزل يتناقض مع العمل خارجه، وبين العمل المنتج وغير المنتج.

 

فالعمل يشمل أي جهد بشري يضيف قيمة ومنفعة للسلع والخدمات، وهذا يشمل الكثير من الأعمال كالديكور والمواد الإباحية والبستنة وتنظيف المنزل وإصلاح الألعاب المكسورة، كل ذلك يتطلب العمل إلى حد أنها تزيد من الرضا الذي يكسبه المستهلك منها، فقبل القرن العشرين، كانت الغالبية العظمى من العاملين في العالم يؤدون الجزء الأكبر من عملهم في أماكن أخرى غير الوظائف ذات الرواتب كما نعرفها اليوم.  حتى اليوم، في جميع أنحاء العالم، يتم معظم العمل خارج الوظائف العادية، غير أن التحيز الذي ولّدته الرأسمالية الغربية وأسواق العمل الصناعية فيها هو الذي يثبت الجهد المضني الذي يتم إنفاقه لدفع المال خارج المنزل باعتباره "عملًا حقيقيًّا"، مما يحول الجهود الأخرى إلى التسلية والجريمة وغيرها من الأعمال.

فعلى مدى الفصول السبعة المنتظمة حسب الترتيب الزمني والموضوعي، يتناول المؤلف في الفصل الأول وهو الأطول إلى حد كبير، من ظهور الإنسان العاقل (الذي، بناءً على الحسابات الجينية، انفصل عن إنسان نياندرتال قبل 700000 عام) إلى العصر الحجري الحديث أو الثورة الزراعية. ففي البداية، بحسب نقطة الانطلاق هذه، لم يكن هناك أساساً أي تمييز بين محاولات الإنسان والحيوان للبقاء على قيد الحياة، ولكن من خلال تطور الكلام البشري وظهور أشكال جديدة من التواصل، نمت أشكال جديدة من التعاون. حيث كان الفرد يعيش داخل منزل، وشكلت الأسر الكثير من القيود، التي أعاقت الكثير من الأنشطة، لذلك نجد أن الكثير من الأعمال حدثت داخل هذه الوحدات الصغيرة.

بالإضافة لذلك، كانت المعاملة بالمثل لفترة طويلة هي القاعدة مع ثورة العصر الحجري الحديث منذ ما يقرب من 12000 عام.ومع ذلك، فقد عرضت فرص متزايدة للحصول على الطعام وتخزينه، وبالتالي لتقسيم العمل، مما قد يؤدي إلى إثراء أكبر لبعض الأسر، وفي النهاية، إلى التفاوتات بينها. من هنا، نشأت بذرة عدم المساواة، إلى جانب التعاون، كما ظهرت أيضًا في الجانب الآخر التبعية. ومع ذلك، كانت الفروق صغيرة في الفترات الزمنية اللاحقة، التي توضح من خلال المثال الأفريقي أنه لا توجد علاقة سببية بين الثورة الزراعية وعدم المساواة الاجتماعية.

كما ساهم العمل علاوة على ذلك في ظهور المدن، لأول مرة في بلاد ما بين النهرين منذ حوالي 7000 عام، وذلك في وقت متأخر للغاية من تطور الإنسان العاقل وبعد ذلك بقليل في الصين والهند، أصبح تقسيم العمل بين المناطق الحضرية والريفية وبين سكان المدن سهلا، ومن الممكن متابعته، حيث أدى ظهور المدن، والدول منذ 3000 قبل الميلاد إلى تعزيز هذا الاتجاه. إلى جانب الأفراد والأسر، أصبحت الأنظمة السياسية مع مؤسساتها لا غنى عنها، بدءًا من النظام السياسي (المدينة أو المعبد أو الدولة)، التي جمعت فائض الإنتاج، ثم أعادت توزيعه (عملت على إعادة توزيع الروافد المالية، كما في مصر القديمة وأمريكا ما قبل الكولومبية)، ففي الولايات الأولى، ظهرت أربعة أنواع جديدة من علاقات العمل: العمل بأجر مجاني، والعبودية والعمل الحر (بما في ذلك من قبل المستأجرين)، وأخيراً، رب العمل. من هذه النقطة، يمكن النظر إلى التاريخ البشري على أنه منافسة بين علاقات العمل المختلفة، مع تذبذب العلاقات بين التعاون والتبعية، وهذا بدوره يحدد التصنيف في الفترات اللاحقة.

 

فقبل حوالي 500 عام قبل الميلاد، حدث تجديد في المعاملات البشرية في ثلاثة مواقع في العالم، مع نتائج بعيدة المدى على علاقات العمل القائمة وذلك من خلال ظهور العملات .هذا "الاختراع"، ولا سيما اختراع العملات المعدنية الصغيرة للاستخدام اليومي، سهّل توسيع معاملات السوق، وخاصة دفع الأجور وإنفاق هذه الأجور على شراء المنتجات الغذائية والحرفية اليومية من العاملين لحسابهم الخاص. بالنظر إلى أنَّ هذه الأشكال من العمل أصبحت مهمة جداً، إن لم تكن بديهية، فقد تم تخصيص فصل في هذا الكتاب لتلك الأجزاء من العالم حيث تطورت مدفوعات العمل المأجور والأجور النقدية على نطاق واسع.

في الواقع، كانوا قادرين على الازدهار في الدول الناجحة على المدى الطويل، حيث كان توحيد الدول على سبيل المثال بنفس أهمية التوسع والغزوات. و يمكن العثور على أمثلة لذلك في أجزاء مختلفة من أوراسيا بين 500 قبل الميلاد و1500م، والتي تشكل الفترة الرابعة: على وجه الخصوص، التسلسل الفارسي - اليوناني - الروماني - البيزنطي - العربي في غرب أوراسيا، والإمبراطورية الهندية في جنوب آسيا وسلالات هان وسونغ في الصين، مقارنةً بتكوين الدولة في أماكن أخرى، دون العمل المأجور، وخاصة في أفريقيا والأمريكتين.

كما نجد أن بعض الدول حققت نجاحاً كبيراً، أيضًا وبشكل خاص على المستوى الاقتصادي، لدرجة أنها توسعت عالمياً فيما يصنفه المؤلف على أنه الفترة الخامسة، أي حوالي 1500-1800. كان هذا وقت "العولمة" كما يرى المؤلف، بالمعنى الحالي للكلمة، ففي هذه القرون، اتخذت المنافسة بين الكيانات السياسية أشكالاً جديدة بحيث بدأ تنظيم العمل في أجزاء مختلفة من العالم يتباين على نطاق واسع. فمن ضمن الأمثلة الأكثر لفتاً للنظر، نجد التوسع في العمل الحر في أوروبا الغربية بأشكال جديدة من التعاون، وعلى العكس من ذلك، أشكال جديدة من التبعية تحت ستار القنانة في أوروبا الشرقية والعبودية في إفريقيا والأمريكتين، وأيضاً في جنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه، في كل من شرق آسيا وأوروبا الغربية، وبشكل مستقل عن بعضهما البعض على ما يبدو، كان هناك تكثيف لعمل أسر الفلاحين مع زيادة في عمل المرأة، أو ما يسمى بالثورة الكادحة.

في حين نجد الفترة السادسة والأخيرة (مقسمة موضوعياً بين الفصلين 6 و 7) تبدأ بالثورة الصناعية، حيث أدى تقسيم العمل والمهارات إلى خلق عدد لا يحصى من المهن الجديدة، وبالتالي القضاء على العديد من المهن الأخرى؛ فعمل الروبوتات هو عنوان المرحلة التي نعيشها الآن، وقد أدى هذا أيضاً، وإن كان في فترات متقطعة، إلى تحول كبير في علاقات العمل ببطء ولكن بثبات، حيث انخفضت أهمية العمالة المحلية المستقلة وغير المجانية في السوق، وقد بشر ذلك بإلغاء الرق في هايتي، وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، والعبودية في أوروبا الشرقية، وبلغت ذروتها في إنشاء منظمة العمل الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

 

في هذا السياق، لا ينبغي النظر إلى التحولات في علاقات العمل، وبالتأكيد التقارب العالمي لعلاقات العمل في القرنين الماضيين، على أنها ظاهرة طبيعية، ولكنها في المقام الأول كنتيجة للاستراتيجيات الفردية والجماعية والإجراءات التي يقوم بها العاملون. وبالتالي، استعاد التعاون والتبعية بعض التوازن.علاوة على ذلك، لم تتقارب علاقات العمل العالمية فحسب، بل أيضا وبدرجة كبيرة، علاقات العمل بين الرجال والنساء.

ومع ذلك، وكما يعلمنا التاريخ الحديث لأوروبا الغربية وروسيا والصين، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية، فإنَّ هذا ليس تطوراً بسيطاً وغير متقطع، وذلك في نفس الوقت مع تزايد الرخاء العالمي، ولا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، الذي من خلاله ازداد عدم المساواة بين العمال. يختتم الكتاب بالتأمل في التطورات المستقبلية، ويجعلنا نتساءل ما الذي يمكن أن تخبرنا به الأنماط التاريخية طويلة المدى الكامنة وراء المخاوف الحالية بشأن القضايا الملحة مثل الهجرة والروبوتات والمساواة الاجتماعية حول مستقبل العمل؟ كيف ستظهر حاجتنا الأساسية للعمل في عالم سريع التغير؟ هل يمكننا اختيار الشكل الذي ستبدو عليه حياتنا العملية بعد ذلك؟

يقترح هذا الكتاب أنَّ هناك إجابات لهذه الأسئلة، فالخبرة الطويلة للبشرية لا تُظهر أن العمل ضروري لبقائنا فحسب، حتى في عصر الروبوتات، بل يساهم العمل أكثر من ذلك، فالشعور بالإنجاز الذي يجلبه يجعله لا غنى عنه لتقديرنا لذاتنا واحترام أقراننا. قد يُنظر إلى تاريخ البشرية على أنه متداخل بين توترين أساسيين: تاريخنا التطوري ووجودنا كصيادين وجامعين للمحاصيل قبل بضعة آلاف من السنين، هو الذي يحدد سعينا الأساسي نحو تعويض عادل لجهودنا، ومع ذلك فإن تقسيم العمل في مجتمعات أكثر تعقيداً يُظهر عدم المساواة. كما توضح قصة العمل أيضاً أن الأيديولوجيات القوية التي تدافع عن عدم المساواة قد تكون ناجحة في حالات كثيرة، لكن العولمة تشير إلى اتجاه آخر، على الرغم من المستويات المتدنية من الأجور غير العادلة في القرون الماضية، يبدو أن الجاذبية العالمية للعدالة هي السائدة الآن، الأمر الذي يجعلها موضع التنفيذ دون الخضوع لإغراء اليوتوبيا من أي نوع كانت مهمة صعبة تنتظرنا.

 

في العقود الأخيرة، أجري الكثير من الأبحاث الجديدة في أماكن وفترات تاريخية مختلفة، جعلت من الممكن صياغة مسار جديد لتطور علاقات العمل. فمن الضروري التمييز بين مسارين مهمين لاقتصاديات السوق: العلاقات المتبادلة، السائدة بين الصيادين وجامعي الثمار ولكنها لا تزال نابضة بالحياة اليوم داخل الأسر في كل مكان، ومجتمعات إعادة توزيع الموارد المالية. علاوة على ذلك، لم تظهر اقتصادات السوق مرة واحدة فقط بل على فترات تاريخية مختلفة وفي أماكن متفاوتة من العالم، وفي كثير من الحالات اختفت أيضاً. لذلك نواجه تغييرات جذرية ذات صلة في علاقات العمل في مواقع مختلفة. ثانياً، نشأ العمل بأجر على نطاق واسع، والعمل بالسخرة، والعمالة الذاتية على فترات تاريخية مختلفة، وغالباً ما تتخذ مسارات متفاوتة. وثالثاً، لا يتوافق مستوى الأجر للعمل المأجور بالضرورة مع الحد الأدنى للأجر المطبق ولكنه يظهر اختلافات وتقلبات قوية في الكثير من العوامل المتغيرة كالوضع المالي وغيرها.

أخيراً، يرى الكاتب أن هذه التقلبات في الأجور ليست نتيجة لأهواء من هم في السلطة أو قوى السوق العمياء، ولكنها بسبب الإجراءات الفردية والجماعية التي يقوم بها العمال أنفسهم، حيث تلعب الكثير من الآراء حول المكافأة العادلة للعمل دوراً حاسماً في ترسيخ اللامساواة بين الأفراد.

 

تفاصيل الكتاب:

عنوان الكتاب: قصة العمل: تاريخ جديد للبشرية

المؤلف: جان لوكاسين Jan Lucassen.

الناشر: مطبوعات جامعة ييل Yale University Press.

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات: 544.

لغة الكتاب: الإنجليزية.

أخبار ذات صلة