برايان كوبنهافير
محمد الشيخ
يستحق الفيلسوف النهضوي الإيطالي بيكو الميراندولي (1463-1494) أن يندرس له أكثر من كتاب. لا فحسب لأنه يعد من فلاسفة النزعة الإيطالية النهضوية الذين لطالما ظُلموا كثيرا بتهميشهم حتى في التأريخ للفكر الفلسفي النهضوي الإيطالي ومنزعه الإنساني، ولكن أيضًا لأنَّ العالم العربي والإسلامي في حاجة إلى التعرف على هذا الفيلسوف، الذي يكاد يكون استثنائيا في تاريخ فلاسفة الغرب المحدثين؛ وذلك بسبب عدم تردده في أن يضع ترويسة لأحد أهم كتب عصر النهضة الفلسفية "خطبة في كرامة الإنسان" تشهد لمفكري العرب والإسلام بأنهم أنشأوا نزعة إنسانية عظيمة لا يُلتفت إليها اللهم إلا في ما ندر.
وكان بيكو الميراندولي هذا قد افتتح رسالته في كرامة الإنسان بالقول مخاطبًا رجال الكنيسة في روما ـ وكانت سطوتهم على النفوس والأبدان آنذاك سطوة عظيمة ـ بالقول الجريء الذي يكاد يكون استثنائيا في نظرة مفكري الغرب إلى مفكري العرب: "أيها الآباء المبجلون، قرأت في كتابات العرب أنَّ عبد الله المسلم لما سُئل عما يبدو له أنه يستحق في مشهد العالم هذا أن يكون موضع تساؤل، ما كان منه إلا أن أجاب: لا شيء يمكن أن يُعاين أطلب للعجب من الإنسان". ولعبد الله المسلم هذا قصة عجيبة طويلة تحتاج لوحدها إلى أن تفرد بمقال.
في كتابه السابق حول بيكو الميراندولي وخطبته في كرامة الإنسان، الموسوم باسم: "السحر وكرامة الإنسان: بيكو الميراندولي وخطبته في الذاكرة الحديثة" (2019) ـ وبعد أن صحب برايان كوبنهافير فكر بيكو لأزيد من خمسين سنة حتى استألفه ـ سعى كوبنهافير إلى تصحيح صورة بيكو الميراندولي وخطبته في ألحاظ المحدثين: كلا؛ ما اشتهرت أبدا هذه الخطبة في زمنها، وإنما لاقت الإهمال بسبب إدانة البابا إينوسانت الثامن لأطروحات بيكو الواردة في هذا الكتاب وفي كتاب الأطروحات. وكلا، ما كان قصد بيكو مفهوم "الكرامة" بمعناها الحديث؛ أي بالمعنى الذي رسخه خطاب كانط في كرامة الإنسان. وكلا؛ ما كان بيكو "بطل الكرامة والحرية" كما أساء قراؤه المحدثون قراءته: من تينمان إلى كريستلر مرورا ببوكهارت وجارسان وآخرين. وذلك بحيث أنهم سعوا إلى أن يصيّروا منه "بيكون التقدم" في الزمن الحديث، فكان أن احتفوا بخطبته في كرامة الإنسان أيما احتفاء، وذلك إلى حد أنهم جعلوا منها أداة اشتهاره بين المحدثين.
أكثر من هذا، يذهب النقد الراديكالي ببرايان كوبنهافير إلى حد أن ينفي أن تكون الرسالة الخطبة من تأليفه التأليف الحق، وإنما هي "توليفة" من بعض أعماله أنشئت كتابا وما هي بكتاب، بل شُبِّهَ لقرائه أنها كتاب خطبة. وإنما الرجل كان داعية وكان مبتغى دعوته في مختلف مشاريعه: إقناع المسيحيين أن يصيروا من أهل القبالة ـ التصوف اليهودي ـ بغاية إفناء أنفسهم في الرب، وإقناع الفلاسفة بأن طريقهم إلى صون الحكمة ما كان طريق خلاف وإنما هو طريق وفاق.
وها هو مؤلف الكتاب يعود، بعد مضي ثلاث سنوات على كتابه المذكور، إلى نكأ هذا الجرح الذي أحدثه في قراءة متن بيكو الميراندولي؛ وذلك في كتابه الجديد: "في محاكمة بيكو الميراندولي: "الهرطقة والحرية والفلسفة" (2022). وهو كتاب يُعد كما أسلفنا بمثابة الذيل والتكملة على كتابه السابق؛ إذ الغرض منه إظهار أنه بعد أن دبج فيكو خطبته، ما كان هو بالمفكر "التقدمي"، لا ولا بالحكيم "الإنسي" سواء بسواء. وإنما الشأن في كتاب الدفاع الذي ألفه بيكو محاماة عن نفسه من تهم الهرطقة ـ وهو كتاب ما كان كالخطبة من باب المظنون به على غير أهله، وإنما هو من باب المصرح به إلى الجمهور ـ أنه يبدي حقيقة دعوته أكثر من خطبته الشهيرة التي ما خطب بها قط وما أسرَّ هو أبدا بأفكارها وإنما صان سرها الصون. ولَئِنْ كان بيكو قد نهج في خطبته نهج الشيء المظنون به على غير أهله، فكان أن عمّى فيها التعمية وشعر فيها الشعر، فإنه بالضد من ذلك نهج في كتاب دفاعه هذا نهج الإعلان لا الإسرار والبيان لا الكتمان. وقد لاحظ المؤلف أن كتاب الدفاع قد تنوسي النسيان، ولربما لم تُستأنف قراءته منذ خمسة قرون مضت، ورجح أن يعود الأمر إلى حجمه الكبير بالقياس إلى صغر حجم الخطبة، وإلى طريقة تأليفه المتشعبة التي تخالف طريقة الخطبة السهلة التناول.
وقد يصدم المؤلف من يقرأ كتابه هذا لأول وهلة بتصريحه أنه: بما أن خطبة بيكو قد أسيئت قراءتها لزمن طويل، فقد صنعت منه "بطل الحداثة" و"نبي التنوير" صناعة. ويزعم مؤلف الكتاب أن البغية من خوضه في أمر محاكمة بيكو الميراندولي إنما هو إبطال هذه الصناعة، وذلك بالتأكيد على أنَّ الرجل ما كان لا بطلا للحداثة ولا نبيًا للتنوير؛ إذ كان حرر بيكو كتابه الثاني في الدفاع للمحاماة عن أطروحاته التسعمائة التي كان أوردها في إعلان الأطروحات ـ الاستنتاجات ـ والذي كان قد نشره أشهرا من ذي قبل. وكان إعلان الأطروحات قد تسبب في جلبة. وكان البابا قد أدان ثلاثين أطروحة منها بعد مضي أسابيع فقط من صدورها. وبغاية الرد على اتهامات البابا اتهامًا عمد بيكو إلى تقسيم دفاعه إلى ثلاثة عشر قسما سماها باسم "المسائل". ونظرا لتعذر الإحاطة بها جميعاً، فقد عمد مؤلف كتابنا هذا إلى انتقاء الثلاث مسائل الأولى منها بغاية الاستدلال على دعواه في هذا الكتاب التي تهدف إلى تفكيك صورة بيكو "بطل النزعة الإنسانية" و"نبي التنوير الغربي". فكان أن جاءت خلاصات فصول الكتاب على النحو التالي:
الفصل الأول: النزعة الإنسية تروح إلى الجحيم
بغية وضع المسائل في سياقها، تناول الفصل الأول كتاب الدفاع مأخوذا على وجه الجملة؛ وذلك بحيث أورد المؤلف سياق النزاع بين بيكو وقضاة البابا في أمر قضايا المذهب المسيحي العقدية الرئيسة؛ نظير عقيدة التجسيد، وهبوط المسيح إلى السماء، وجسد المسيح القرباني، وضرورة الاعتقاد في صحة هذه العقائد. ومعقد الجدل هنا قضية بشرية المسيح وربوبية واستدلال بيكو عليها بطريقة فلسفية أثارت حفيظة رجال الكنيسة. وهي الطريقة التي رأى فيها مؤلف الكتاب أن بيكو نهل من الفكر الوسيط الذي جعل من الرب مركز كل تفكير بشري، وهمش دور الإنسان، وقد ضحى بيكو ـ بنهله هذا من النزعة الربوبية وليس النزعة الإنسية ـ بكل النزعة الإنسانية التي نسبت إليه؛ مُطوِّحا بهذه النزعة الإنسية إلى أتون جهنم.
الفصل الثاني: ما الذي تضمنته لفظة؟ الماورائيات والدلاليات
واصل المؤلف في هذا الفصل بحث المسألة العقدية بين بيكو ومتهميه، وذلك بضرب من النزعة التحليلية التي تسعى إلى تحليل اللغة المستعملة في الخطاب تحليلا لسانيا دلاليا ومنطقيا، وذلك على عادة مناهج الفلسفة الأنجلوسكسونية؛ ذلك أن بيكو كان قد لجأ في تسويغ هذه العقائد إلى النهل من اللاهوت السكولائي الوسطوية، وذلك لا فقط على النحو الذي نجده عند توما الأكويني ودانس سكوت ووليام الأوكامي، ولكن أيضا عند جون كابرول وبيير بالود وجون كيدرو وأسماء أخرى أقل اشتهارا. وبالجملة، بغاية إسناد دفاعه الإسناد، عمد بيكو إلى الاستنجاد بحفنة أعلام من مرجعيات القرون الوسطى من مغموري المفكرين ومشهوريهم سواء بسواء، وإلى الاستعانة بألفاظهم التي دلوا بها على المعاني التي أرادوها ـ وكانت ألفاظا مدارها بين التخصص والغموض ـ ساعيا هو إلى المُكْنة من هذه الاصطلاحات. وفي الجملة، يظهر هذا الفصل تعقد وعمق ما تعلمه بيكو من آل القرون الوسطى، كما يؤكد نهله من تراث ربوبي المنحى والمركز معاديًا بالطبع لكل نزعة إنسية تحررية تقدمية.
الفصل الثالث: ما الذي يمكن إقلاله؟ قضية بيكو الرابعة
مدار الفصل الثالث على تحليل رواية بيكو عن تعاليم عقيدة التجسد. وهي الرواية التي كان قد خصها بأطروحة من أطاريحه التسعمائة، والتي أثارت حفيظة البابا الذي سرعان ما هاجمها المهاجمة صحبة اثنتي عشر أطروحة أخرى. وهنا يتساءل المؤلف: ترى، أيهما كان على صواب وأيهما كان على خطأ فيما يخص عقيدة التجسيد: أهو بيكو أم معارضوه البابويون؟ وجواب المؤلف أن الأمر موقوف على طريقة استعمال الألفاظ للتعبير عن هذه الأمور العقدية. أما بيكو، الذي ما كان ماضيا في دعواه مشتطا فيها، فكان يوقر كنيسة تعدم أناسا مثله، قبل وبعد محاكمته بتهمة الهرطقة؛ وذلك لأن رجال الكنيسة كانوا يعاملون الأجوبة الفاسدة الواردة عن الأسئلة كما لو كانت هي خطايا جسيمة ـ وليست مجرد سوء تفاهم ـ عادّين إياها بحسبانها إهانات في حق الرب تستحق أن تعاقب بالإعدام. ومن هنا باتت الأخطاء في الألفاظ توشك أن تكون مهلكة.
الفصل الرابع: أين جسد الرب؟ قضايا بيكو السادسة والتاسعة والعاشرة
يتناول الفصل الرابع من الكتاب ثلاث مسائل عقدية مدارها على مسألة تجسد الرب. ذلك أن بيكو، الذي كان رجلا مسيحيا تقيا ورعا، لما كان يأتي إلى الكنيسة ويصلي، كان يعتقد أن من شأن المسيح أن يحل في جسده في عين مكان تواجده، وذلك بحيث أن من شأن بيكو، وهو يصلي كما الجماعة التي ترافقه في صلاته، أن يعاين الرب وقد تجسد على المذبح. وسائر المسيحيين يعتقدون أن المسيح يأتي في كل يوم ـ بلحمه ودمه، بروحه وربوبيته ـ إلى مذابح الكنائس أنّى وُجدت هي. على أن لا أحد منهم عاين الجسد أو الدم. وفي كل هذه الأماكن، ما يعاين إنما هي طقوس الخبز والخمر يباركها قس: فكيف إذن يمكن ذلك؟ عالج بيكو هذه المسائل في ثلاث من أطروحاته المدانة، فضلا عن أطروحة عقدية رابعة يوردها المؤلف بحيثياتها.
الفصل الخامس: ترى هل الهرطقة إرادية وقصدية؟
في هذا الفصل يغادر المؤلف إمبراطورية اعتقادات التجسيد هذه التي دارت عليها فصوله السابقة، ودلالة الألفاظ التي أعملها بيكو وتحرجت منها الكنيسة، إلى ما يسميه "أخلاقية الاعتقاد"؛ أي إلى ما يعتبره مؤلف الكتاب الوسط أو المحيط الخلقي لأنظار بيكو في أمور الإيمان؛ شأن عقيدتي القربان والتجسيد، وإدانة معارضيه لأنظاره. ذلك أن رجال البابا الذين أدانوا ما كان اعتقده بيكو حسبوا أن بعضا من العقائد لا يمكن المس بها بأي حال، لأنها هي طريق النجاة الأوحد، وما يحيد عنها إلا هالك. وبيكو يوافقهم الرأي، من حيث المبدأ، لكنه من الوجهة العملية كان عليه أن يدافع عن نفسه في محاكمة بالبدعة أو الهرطقة.
الفصل السادس: بيكو الحر وغير الحر
يتساءل المؤلف هنا: بالنظر إلى الزمن ـ نهاية القرن الخامس عشر ـ وإلى المكان ـ إيطاليا ـ تُرَى، من ذا الذي كان محقا في مسائل العقيدة ومن ذا الذي كان مبطلا فيها: أهو بيكو أم مهاجموه؟
والنتائج التي ينتهي إليها تتمثل فيما يلي: منذ منتصف القرن الماضي، عملت معظم التصانيف المدرسية التي بذلت إلى الطلبة على تبيان وجه واحد فقط لبيكو الميراندولي: هو وجه بطل النزعة الإنسية التقدمية "المزعوم". لكن موقفه في كتابي الأطروحات والدفاع، والذي كان نتاج الثقافة الوسيطية المتأخرة، ما كان بأي وجه من الوجوه موقفا تقدميا. ذلك أن بيكو المستأنَس به والموجِّه وجهه صوب التقدم ما كان هو بيكو الذي حرر كتاب الدفاع. وإنما من فعل ذلك كان هو بيكو الآخر: وجه بيكو المظلم، الخائض لمعركة حفظ حياته وصون شرفه، ولو بالتنكر لمبادئه، بما من شأنه أن يذكرنا بالقرون الوسطى حيث كان يتم احتقار تاريخ البشر بوصفه مجرد حوليات للخطيئة. وإنه لوجه بيكو القروسطي القائم على تقليد شيوخ القرون الوسطى.
يخلص مؤلف الكتاب إلى ما يلي: خلال سحابة حياته ـ التي كانت شديدة القصر ـ ما سمح بيكو بطبع اللهم إلا ثلاثة مؤلفات من مؤلفاته ـ كتاب الدفاع وكتاب الأطروحات وكتاب هيبتالوس ـ وما كان أي واحد منها يمثل مشروعا إنسيا. فكيف أمكن، يا ترى، لهذا أن يصير أيقونة النزعة الإنسية وهو الذي ما حرر اللهم إلا القليل النادر في النزعة الإنسية، وما نشر منه اللهم إلا النزر القليل؟ الحال أن من شأن كتابات بيكو، التي يجدها المؤلف غارقة في القروسطية، أن تبدو غريبة لقراء محدثين يقبلون عليها لأول وهلة. وإنها ليست تعبر تعبيرا حقيقيا عن النزعة الإنسية، على نحو ما نعثر عليها عند روادها الحقيقيين المغمورين، شأن بوجيو براتشوليني وأنيولو بوليزيانو ولوننزو فالا وآخرين هم أقل منه اشتهارا، إنما أولئك الذين ينطبق عليهم بحق توصيف "أصحاب نزعة إنسية".
أما بيكو، فلا يرى فيه المؤلف ـ انطلاقا من دراسته لغير الخطبة الشهيرة ـ سوى رجل كان تفكيره "وسطويا" و"سكولائيا"، وما كان تقديمه لنفسه "حديثا"، لا ولا حتى "ممهدا لما هو حديث". ولئن كان بيكو الميراندولي قد أمضى أعواما في الانكباب على تدارس الفلسفة، وتسمى باسم "الفيلسوف" على وجه الدوام وبإلحاح منه شديد، فإن مؤلف الكتاب يرى أن بيكو كان محقا في دعواه، على أنه كان فيلسوفا وسطويا على طريقة توما الأكويني ودانس سكوت وجليوم الأوكامي؛ لكن حسب أنظار الفلاسفة التحليليين اليوم، فإنهم باتوا يجدون طريقته في التفلسف غريبة حقا وغير مجدية. ولذلك لطالما اطرحوا هم فلسفته، بل حتى ما عدوها هم فلسفة بحق.
ينتهي مؤلف الكتاب بالإقرار بأن كتابه هذا إنما كان يسعى إلى النظر إلى بيكو الميراندولي من خلال أدوات الفلسفة الأنجلوسكسونية المعاصرة، وأنه إذ فعل ذلك تبين له أنه ما كان على شيء. على أن ما يمكن أن يعاب على المؤلف أنه عمد إلى تضييق واسع، وذلك بأن جعل الفلسفة الأنجلوسكسونية عيارا على الفلسفة بعامة. وما هي بالعيار الأوحد الأفرد، بل هي مجرد عيار بين عيارات أخرى أوسع وأرحب ما التفت إليها المؤلف مع الأسف.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: في محاكة بيكو الميراندولي:الهرطقة والحرية والفلسفة
اسم المؤلف: برايان كوبنهافير
دار النشر: مطابع جامعة أوكسفورد
سنة النشر: 2022