فيل كلاي
محمد السماك
كثيرة هي الكتب التي تتحدث عن الحروب ومآسيها، وعن أسبابها ونتائجها. ولكن نادراً ما يتحدث عن الحرب جندي سابق. ونادراً أكثر أن يكون حديثه ليس عن المعارك والمغامرات العسكرية، ولا حتى عن أسباب الحرب وأبعادها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، إنما عن مشاعر المُقاتل الإنسان أثناء الحرب، وما بعدها. ويتطلب ذلك أن يكون الكاتب جنديًّا شارك في حرب ما باسم دولته، وأن يكون أديباً كاتباً في الوقت ذاته. وهذا ما ينطبق على مؤلف هذا الكتاب الأمريكي. ولذلك ليس غريباً أن يحصل على جائزة "أفضل كتاب وطني في الولايات المتحدة".
قبل هذا الكتاب، صدر للمؤلف كتاب آخر عن الحرب وأهلها. وكان الكتاب عبارة عن اثنتي عشرة قصة صغيرة يروي فيها وقائع الحرب الأميركية في العراق، سجلها الكاتب عندما كان جندياً في القوات البحرية (المارنيز) خلال عمليات 2007-2008 .
وبعد مرور ستة أعوام على صدور هذا الكتاب، صدر للمؤلف كتاب ثانٍ يروي فيه قصصاً عن تهريب المخدرات وعصابات الاتجار بها بكولومبيا في أميركا الجنوبية . وقد جرى اختيار هذا الكتاب بين أفضل الكتب التي صدرت في ذلك الوقت .
ولعل أبرز قصة يرويها المؤلف في كتابه الجديد عن ثقافة الحرب هي قصة اغتيال قاسم سليماني في عام 2020. واستناداً إلى ما أورده من معلومات، فإنَّ الهدف من وراء عملية الاغتيال كان تغيير مجرى الحرب في العراق.
ولأنَّ القاعدة العامة في أي كتاب تقول إن النصّ الأفضل هو النصّ الأقصر، فإنَّ المؤلف حرص في هذا الكتاب تحديداً على الالتزام بهذه القاعدة في التأليف؛ مع ذلك بلغ عدد صفحات كتابه 227 صفحة موزعة على ستة فصول، في كل فصل قصة موثقة عن حدث ما .
سبق للمؤلف أن نشر بعض هذه القصص في الصحف الأدبية الأميركية، ونالت قصصه إقبالاً شديداً . ولذلك قرّر جمعها في كتاب واحد. وكانت عملية التجميع تتطلب حياكة خيط يجمع بينها. وما كان ذلك على أديب وكاتب محترف في مستوى فيل كلاي بعسير .
أما هذا الخيط، وكما هو واضح في الكتاب، فإنه يدور حول علامة الاستفهام التالية: ماذا يعني أن تكون دولة في حروب متواصلة ومستمرة وأن يقوم بالقتال باسمها عدد ضئيل جداً من شعبها؟.
يؤكد المؤلف في مقدمة الكتاب على أن الحرب تلعب دوراً رئيساً في تحديد هوية الشعب الأميركي وخصوصياته . ويقول إن سدس موازنة الدولة الاتحادية يُنفق على الدفاع وعلى الإبقاء على جهوزية عناصر القوات المسلحة المنتشرين في 800 قاعدة عسكرية حول العالم. ويقول أيضاً إن هذه القوات تخوض حروباً محدودة ضد الإرهاب في خمس وثمانين دولة أخرى، مع ذلك فإن السلطة السياسية تمكنت بدهائها وحنكتها من أن لا تثير اهتمام الرأي العام بهذا الواقع.
فالرأي العام داخل الولايات المتحدة مهموم بقضايا أخرى تشغل اهتماماته تتعلق بتكاليف الحياة وصعوبات العمل والدراسة وتسديد الفواتير المستحقة، كما يقول.
يعرض المؤلف لإحصائية عسكرية – مالية – اجتماعية ملفتة للاهتمام يقول فيها إنه رغم سلسلة الحروب الطويلة التي خاضتها الدولة الأميركية، فإن انعكاساتها كانت محدودة بشكل لا يصدق؛ فالأميركيون –جميعهم- الذين قدموا خدماتهم العسكرية في العراق وأفغانستان وفي أي مسرح حربي أميركي آخر منذ الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر 2001، لا يشكلون سوى واحد بالمائة فقط من نسبة الرأي العام الأميركي .
بعد ذلك يروي المؤلف انطباعاته وتجاربه العسكرية الخاصة، ويضيف إليها لمسة روحانية إلى جانب خلفية تاريخية؛ ففي فصل عنوانه "تاريخ الإرهاب" (يقول المؤلف إنه كتبه بعد حادثة لاس فيغاس الإرهابية التي جرت في عام 2017 وقُتل فيها 58 شخصاً وجُرح أكثر من 400 شخص آخر على يد رجل واحد)، لم يكن القاتل يتمتع بأي قدرات استثنائية للتصويب القاتل . كان عليه فقط أن يضغط على الزناد وأن يوجه البندقية الأوتوماتيكية نحو المارة؛ وهكذا كان الأبرياء يتساقطون من دون أن يعرف أي منهم من أين ينهمر الرصاص القاتل ولماذا؟، وهو ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا نتيجة لفعالية قطعة السلاح وليس لفعالية حاملها .
ويؤكد المؤلف على أن الحرص على تملّك وحمل الأسلحة في المجتمع الأميركي هو نتيجة ثقافة الجموح نحو العسكريتاريا، وأن تملّك الأسلحة الثقيلة (الرشاشات الأوتوماتيكية) من الأفراد بدلاً من الأسلحة الخفيفة (المسدسات) يمكن أن يؤدي، ولقد أدّى بالفعل إلى ما لا تُحمد عقباه .
ويؤكد أنه بدلاً من الاعتماد على قوات الأمن فإن امتلاك السلاح يجعل من كل مواطن رجل أمن يحاول أن يطبّق العدالة على مزاجه، وكما يرى هو ذلك مناسباً من زاوية ثقافته وحساباته وردود فعله الشخصية.
ثم أنه بدلاً من بضع طلقات "تحذيرية" يطلقها رجل الأمن الرسمي فيحاول التحذير دون وقوع مأساة، فإن وابلاً من الطلقات القاتلة يطلقها رجل منفرد تؤدي إلى مآسٍ، كما حدث مراراً أمام المدارس أو المجمعات التجارية في العديد من كبرى مدن الولايات المتحدة .
وينقل المؤلف عن مخترع سلاح (أر-15) الرشاش أنَّه لم يكن يتصوّر أبداً أن يكون هذا السلاح بيد مدنيين؛ فهو قطعة سلاح عسكرية قتالية حربية وليست للأمن الداخلي أو للأمن الذاتي، وليست بصورة خاصة للاستخدام في المدن .
وفي فصل من الكتاب عنوانه " المغامرة المعنوية والعسكرية الحديثة"، يتحدث المؤلف فيل كلاي عن "غياب" الواحد بالمائة من المواطنين الأميركيين الذين يلبسون الزيّ العسكري الرسمي، وعن مشاعر الأسى والندم التي تتملّكهم نتيجة سوء تقدير أعمالهم وتضحياتهم . ويصف ذلك بأنه نتيجة عدم الاكتراث بأثمان الحرب على المعنويات الشخصية وعلى المشاعر الإنسانية .. وهي مشاعر يقول المؤلف إنها بعيدة عن حسابات الآخرين.
وفي فصل آخر عنوانه "رجل الحرب"، يروي المؤلف كيف أن خدمته العسكرية مع سلاح البحرية الأميركية علّمته "الإيمان بالله"، وبالإحساس مع الجماعة. ويقول إن هذا الإحساس تفجّر لدى عودته إلى الجماعة المدنية. ويقول إن هذه المشاعر لا يحسّ بها الناس عادة، بل إنها تتفجّر من داخل معاناة الوحدة والعزل ومواجهة الأخطار .
ومن خلال سرد المؤلف لوقائع حياته في البحرية العسكرية يقول إن المسؤولين يقدمون للجنود كتباً عن ما سمّاهم "القديسين العسكريين" من الرجال والنساء الذين ضحّوا بحيواتهم بنيران العدو الذي كان يهاجمهم بالقنابل اليدوية. كما يروي قصصاً عن الحياة الشخصية لزملائه العسكريين وعن الأسرى من رجال العدو الذين يجري اعتقالهم وتعريضهم للتعذيب من أجل استخراج معلومات عسكرية منهم؛ فالحصول على المعلومات يتقدم على الحرص على حياة الأسير.
لا يقدّم المؤلف شيئاً من هذه المعلومات ولا يفسر العلاقة بين القداسة والعسكريتاريا، ولكنه يذهب إلى حدّ اعتبار كل جندي مشروع ضحية، وكل ضحية رمزاً للقداسة.
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب : الأرض المضطربة : المواطنة في عصر الحرب غير المرئية
المؤلف : فيل كلاي Phill Klay
الناشر : بنجوان للصحافة Penguin Press
التاريخ : 2022
الصفحات : 272