الدير: بنديكت السادس عشر.. 9 سنوات من باباوية الظل

الدير.png

ماسسيمو فرانكو

فاتنة نوفل

هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المُقابلات والشهادات والأسرار التي أسهمت في فهم التيارات التي تشابكت داخل أروقة الفاتيكان، فقد أدت تسع سنوات من التعايش في الفاتيكان بين الباباوات إلى تغيير ديناميكيات السلطة في الكنيسة لينتهي هذا الوضع غير المسبوق بإثارة سؤال حاسم للمُستقبل: إذا كان هناك باباوات فخريون آخرون، فكيف يجب تأطيرهم؟ الحقيقة هي أنه حتى الآن مجالات التأثير الخاصة لِجوزف راتسينغر وفرنسيس بيرغوليو على الأحداث التي تطورت داخل جدران الفاتيكان وخارجه، بدءًا من المُقاومة المتزايدة للتغييرات لجزء كبير ومتفرّع من قبل المؤمنين المقربين للاهوتي راتسينغر الذين وجدوا فيه منارة، وأولئك الذين يناصرون البابا الحالي ويُسَرّعون عمليات التجديد المُستمرة ليدركوا لاحقًا أنَّ هذا التطور أصبح مؤلمًا في كثير من الأحيان.

 

يركز كتاب فرانكو أكثر على الحديث عن البابا الفخري والعلاقة مع خليفته وبشكل أكثر تحديدًا على الدوائر المعنية من المستشارين والأصدقاء الذين اضطروا أيضًا إلى تكييف السلوكيات والمواقف العامة خلف الكواليس مع حالة غير مسبوقة ومُعقدة بشكل واضح لكي تبدو طبيعية على الرغم من كل شيء.

الدير هنا هو رمز المُعْضِلة في هذه المرحلة من الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان. بنديكت السادس عشر البابا الفخري الذي تغير مفهوم شخصيته بعد تلك الإيماءة التي قام بها مُعلنًا تَنَحِّيَه وما نتج عنها من أوضاع شاذة متتالية والتي، بعد تسع سنوات من باباوية فرنسيس، لا تزال قائمة وتؤثر على توازن الكنيسة. الأول: على وجه التحديد اختيار بنديكت للاستقرار في دير الكنيسة على قمة حدائق مشذبة، تنتشر فيها حدائق الورود والصبّار ونقاط الحراسة التابعة لقوات الدرك: أحد أكثر الأماكن غموضًا والتي يتعذر الوصول إليها في ظل قبة القديس بطرس حيث انتقل للعيش فيه في أيار/مايو 2013 بعد التخلي عن البابوية. كان لدى البابا الفخري "الجرأة" للنجاة من استقالته؛ مما أثار الشكوك حول الأسباب الحقيقية للقرار؛ لأنه لم يصرح بأنَّه سيكون هناك "البابوية الموازية". ربما كان خائفًا من أن يصاب بمرض مثل يوحنا بولص الثاني وأن يكون مشروطًا بدائرته المختصة، أو ربما كان يعتقد أنه لن يبقى طويلًا على قيد الحياة، بينما أصبح الآن بابا فخريًّا لفترة أطول من البابا: 9 مقابل 8 سنوات. 

 

ثقَل راتسينغر -على الرغم من أنه لم يعد مسيطرًا- كثيراً ما طغى على خليفته لدرجة جَعْلِ الدير الذي يعيش فيه مكانًا مرجعيًّا للأشخاص الذين لا يتفقون مع فرنسيس. بمرور الوقت، نشأ نوع من "لوبي البابا الفخري" على الرغم من أن بنديكت شخصيًّا لم يرغب أبدًا في تشجيع الأمر.

أخذ الدير الذي يعيش فيه راتسينغر كذلك وبشكل متزايد ودون رغبة أو طلب منه، دورَ المضاد للصواعق والتوترات والحصارات التي تهدد بابوية فرنسيس، والفقاعة الشعبية التي انتشرت من حوله، وهو التوليف الجيد الذي أجراه ماسيمو فرانكو من خلال قراءة مفصلة وموضوعية للتأثيرات الناتجة عن هذين القطبين ما بين الإصلاحات الحكيمة والفوضوية إلى حد ما والتغييرات الجوهرية.

من ناحية أخرى، في فندق سانتا مارتا داخل أسوارالفاتيكان اختارالبابا فرنسيس مقر إقامة رسميًّا له والذي  تبلور إلى مركز قوة شبيه بالمحكمة يتردد عليه الأصدقاء القدامى، اليسوعيون المقربون في الفاتيكان يسمونه "الدائرة السحرية"؛ لأنها قادرة على التأثير على فرانسيس وعزله في آن واحد. 

إنهما شخصان مختلفان تمامًا وكلاهما يدرك الصدمة التي تعرضت لها الكنيسة باستقالة بندكيت، وبالتالي فهما عازمان على الحفاظ على وحدة الكنيسة. لهذا السبب، طلب فرنسيس في البداية من بنديكت ألا يكون منعزلًا جدًّا للمشاركة في الاحتفالات العامة، ثم وضع نوعا من "كوباباتو" الباباوية المشتركة، تحرك فيها البطلان بسهولة غير معهودة مع وجود نوع  من الرضا المتبادل والرضا عن النفس لأنهما نجحا في دوائرهما ومع "أنصارهما" في السير في هذا الطريق الجديد المعقد للفاتيكان والكنيسة على الرغم من أن "حاشية" راتسينغر وبيرغوليو هما مرآة لفكرتين، ومفهومين متناقضين للكنيسة الكاثوليكية في مواجهة تحديات عالم اليوم. لكنهما أيضًا وقبل كل شيء، مركزان للقوة يواجهان بعضهما البعض على مسافة بضع مئات من الأمتار.

 

قام فرنسيس بمتابعة الإصلاحات التي لم يتمكن بنديكت من إتمامها. لكن بمرور الوقت، عندما واجهت الإصلاحات مشكلة، اعتبرت دائرة برغوليو الديرعائقًا وتدخلات بنديكت غير مناسبة. وفي النهاية، كان ينظر رجال بيرغوليو إلى الدير على أنه رمز لنوع من القوة المضادة، أو قطب مضاد تتحرك خلفه سلسلة تقليدية قوية. وقد اعتبر العديد من أتباع راتسينغر فندق سانتا مارتا بمثابة نوع من الحلف، لم يغير فقط ميزان القوى بل النهج العقائدي والمراجع الدبلوماسية التقليدية للكرسي الرسولي. وهذا على الرغم من أنه يجب إعادة التأكيد على التزام "الباباوين" بتجنب الكسور والصدامات الداخلية. 

 الكاردينال غيرهارد مولر، محافظ مجمع الإيمان حتى عام 2017 وتمت تنحيته لإفساح المجال لليسوعي لاداريا، المؤهل لاهوتيًّا بنفس القدر، ولكنه بالتأكيد أكثر مرونة ومستعد لإيجاد حلول وسط، أوضح أن المشكلات المطروحة على الطاولة قد تراكمت في السنوات الأخيرة بسبب هذا الانقسام، بدايةً من الانقسام في الكنيسة في ألمانيا، حيث توجد مجموعة من التقدميين الذين يسيرون على طريقتهم الخاصة ما يزيد من احتمال الانشقاق هناك. يعرّف مولر كذلك "الدائرة السحرية للبابا" بـ "الدائرة الخطرة"، الناس الذين يفكرون سياسيًّا وليس لاهوتيًّا لا يعرفون شيئًا عن المجلس؛ دفعوا فرنسيس إلى إلغاء لقب نائب المسيح من الكتاب السنوي البابوي وتحويله إلى لقب تاريخي لا قيمة له.

 

يكرر مولر أن السلطة التعليمية البابوية لا يمكن أن توجد بدون لاهوت عميق ومستشارين جيدين. يتحدث الكاردينال الألماني أيضًا عن الهجرة كما يفعل علم الاجتماع. "الرعاية البابوية الحقيقية بالمعنى اللاهوتي هي الوعظ بالإنجيل والاحتفال بالأسرار المقدسة وإرشاد الناس في مشاكلهم اليومية". 

لا يتورع مولر عن القول عن حقيقة أن العدالة في الفاتيكان أصبحت الآن شيئًا مرنًا ولم تعد تخضع لقانون: مثل مراسيم محاكمة كاردينال في الفاتيكان بعد أن قرر البابا بالفعل العقوبة قبل الحُكْم بنزع رتبة الكاردينال عنه؛ مؤكِّدًا أن عقلية أمريكا اللاتينية تشوه معيار القانون الأوروبي. في أوروبا تم تقسيم السلطات، لكن مهما حدث، سواء عُقِدت المحاكمة أم لم تعقد، وسواء تمت تبرئته أو إدانته، فإنَّ السموم والوحل سيصلان إلى الكنيسة.

التنحي أو "الاستقالة"، كان حدثًا مهمًا وغير مسبوق من أجل تعيين البابا فرنسيس. الدير هو شعار لا يزال يُعْتبر من المحرمات: لدرجة أنه بعد تسع سنوات، لم يتم تنظيم استقالة البابا بأي قانون ولا يزال هناك حديث عن "اثنين من الباباوات" ولم يتم الاعتراف بصحة استقالة بنديكت وتم اتهامه بترك مساحة كبيرة لفرنسيس و"ثورته". في الواقع، قام كلاهما بإلغاء مركزية المؤسسة البابوية بطرق مختلفة.

لقد غيروها بمعنى "إضفاء الطابع الإنساني" على البابا مع نتائج مثيرة للجدل للغاية ما زالت موضوع نقاش وإحراج. القضية الأساسية التي لم يتم التطرق إليها علنًا، هي ما إذا كانت استقالة راتسينغر هي استقالة أحادية أو سابقة من شأنها أن تمهد الطريق لاستقالات بابوية أخرى. ومع ذلك، فإن الانطباع هو أنه في السنوات القليلة المقبلة ستكون المحاولة لإعادة بناء شخصية بابوية على افتراضات مختلفة لتقوية حكومة الفاتيكان ولإعادة التأكيد على الدور الأساسي لروما. 

ومع ذلك، فإنَّ قصة الباباوات كانت علامة على التعاون والتفاهم الشخصي المتبادل الذي لا يبدو واضحًا، مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف الواضح بين الاثنين، في تعايش استمر لفترة طويلة. 

تَعايُش كان على الألماني والأرجنتيني أن يبتكراه كل من وجهة نظر شخصية ولاهوتية وسياسية؛ لقد مهدوا معًا الطريق لموسم للكنيسة الكاثوليكية وحكومتها المركزية لا يمكن الرجوع عنه. في الواقع، يمكن أن يحدث أن يكون هناك ثلاثة باباوات في الوقت نفسه.

 

يستخدم اليسوعي الأرجنتيني بذكاء واضح كل قوته في المرحلة الأخيرة من حَبْريّتِه -التي تتضح من صوره وهو جالس على كرسي متحرك- مع الأخذ في الاعتبار ما فعله سلفه، فعل عكس البابا بنديكت السادس عشر الذي غادر المشهد فجأة في عام 2013 ما لم يتح الوقت للكرادلة الأقرب إلى البابا الألماني تحضير خلافة مستمدة من نهجه؛ بينما يستعد البابا فرنسيس على اختيار خليفته، متخيلًا من بعده بابا يتحرك على خطى حبريته. آخر خطوة هي تعيين واحد وعشرين كاردينالًا جديدًا، ستة عشر منهم دون سن الثمانين قادرون على المشاركة في الاجتماع السري المقبل، وبما يتماشى مع تفكيره ومع الكنيسة التي ستصادق على التعيينات، سيكون هناك ثلاثة وثمانون -من أصل 132 عضوًا في كلية الكرادلة- أمراء الكنيسة على خطى البابا "الذي جاء من بعيد جدًا" وهو قادر على انتخاب من يريده.

يميل الفاتيكان إلى النظر إلى نفسه وتقديم نفسه كمؤسسة تضمن الاستمرارية ويحدث هذا أيضًا عندما تتكيف الاستمرارية مع الأزمنة الجديدة. البابا بنديكت كان بابا أوروبيًّا وإيطاليًّا، حاول إحياء الكاثوليكية في الغرب لمن يؤمن بقيمه؛ لكن العملية فشلت. فرنسيس أمريكي وهو ابن لأمريكا اللاتينية التي أصبحت من أرض الرسالات أو يُعْتَقد أنها أصبحت أرضًا تبشيرية، دُعيت لإعادة التبشير بأوروبا والغرب اللذين يُعتبران غير مسيحيين وبدون مستقبل. هذا هو السبب في أن بيرغوليو كان يُنظر إليه على أنه بابا ما بعد الغرب، أوضح وجهة نظره في أمور كثيرة تتعلق بالعالم الثالث؛ وبالتوازي مع العلاقات مع روسيا لرأب الصدع مع الديانة الأرثوذكسية ومع الصين، والاتفاق على تعيين أساقفة، ومشروع الكاثوليكية في آسيا حيث يكافح من أجل اختراقها. لكن العدوان العسكري الروسي على أوكرانيا، أظهر حدود وتناقضات هذه الإستراتيجية حيث مُنِع البابا من ممارسة نشاطه من أجل السلام على الأقل حتى بداية أيار/مايو حيث كان الفاتيكان تاريخيًّا سيدًا. كانت كلماته لصالح أوكرانيا واضحة وقوية. وحقيقة أنه خلال شهرين أو أكثر من الحرب لم يتكلم بنديكت مطلقًا، تُظْهِر كيف حتى لو كانت هناك اختلافات في الحكم؛ فقد ساد خط من الوحدة والطاعة لفرنسيس من دير بنديكت؛ لتجنب سوء الفهم والتكهنات في الكنيسة الكاثوليكية بسبب التوترات العميقة وغير المحلولة التي ترافق البابا الأرجنتيني حتى الآن، وأنه كان سيؤيده ويساعده عن قصد ودون أن يطلب منه.

 

كتاب ماسييمو فرانكو يأخذنا عبر أسرار الدير؛ يروي فيه تطورات التوازن المعجزة بين اثنين من "الباباوات"، تميزت بالتوترات وصدامات القوى. في الخلفية يبقى موضوع استقالة البابا الذي لم يُحَل؛ ليصبح الدير حاسمًا في فك رموز مصائر ليس واحدًا بل اثنين من الباباوات والكنيسة كلها.

 

تفاصيل الكتاب: 

العنوان: الدير: بنديكت السادس عشر، تسع سنوات من باباوية الظل

المؤلف: ماسسيمو فرانكو

دار النشر: سولفيرينو

بلد الاصدار: إيطاليا

لغة الكتاب: الإيطالية

تاريخ الاصدار: نيسان/ أبريل 2022

عدد الصفحات: 288 

أخبار ذات صلة