ثورات نقدية: 5 نُقّاد صنعوا تغييرًا في طريقة القراءة

ثورات نقدية.jpg

تيري إيغلتون

عزيز جاسم محمد (باحث وأكاديمي عراقي)

أبرز ما يقوم به المُفكر والفيلسوف الإنجليزي تيري إيغلتون في كتاباته النقدية هو ربط الأدب بالسياسة من جهة وبالدين من جهة أخرى، ويقوم إيغلتون باتباع فلسفة عميقة من خلال تلك العملية التي يراها لاهوتية ماركسية وهي التي يجمعها في شخصيته. هذا ما تعودنا عليه عند إيغلتون في أغلب كتبه الصادرة قبل هذا الكتاب، على الأقل في تلك التي صدرت في بداية القرن الحادي والعشرين، مثل (الفاجعة، وفلسفة الفكاهة، والثقافة، وعن الشر، ومشكلات مع الغرباء، وكيف نقرأ الأدب، والمادية وتضحية راديكالية) وغيرها من الكتب النقدية المتجذرة في فلسفتها الفكرية الحديثة. 

 

نجده يستمر في دعمه لنظرته اللاهوتية الماركسية التي تربط الدين بالسياسة والمجتمع؛ إذ لا يخلو هذا الكتاب من تلك النظرة لكن الكاتب لم يكن ميالاً إليها بشكل كبير هذه المرة حيث ركّز على طرائق التدريس والأفكار الأدبية الفلسفية التي استخدمها نُّقاد خمسة والتي أدت إلى حدوث اختلاف في طريقة القراءة في عصرنا الحالي. بَرَز النُّقاد الخمسة الذين اهتم إيغلتون بمفهومهم الأدبي والنقدي للتدريس الأكاديمي للأدب في مطلع القرن العشرين وهم على التوالي تي أس إليوت، وآي إيه ريتشاردز، ووليام إمبسون، وأف آر ليفيس، وريموند وليامز.  

لا يتميز الكاتب فقط في الربط بين الآيديولوجيتين اللاهوتية والماركسية فحسب، ولكنه يذهب إلى أبعد من ذلك ليضيف لنا في هذا الكتاب مَنْ سَهّل وفَتَح الباب للثورة النظرية الحديثة وساهم – من غير قصد – في نشوبها. لكن يبقى السؤال الذي يرد إلى ذِهن القارئ: لماذا هؤلاء النقاد الخمسة بالتحديد من بين الكثير؟ نجد أن إيغلتون أعطى جواباً لهذا السؤال من خلال السياق العام لسرده أحداث الكتاب إذ أشار إلى أنّهم من أبرز المؤثرين وأصحاب الإسهامات الأصلية في هذا العصر في مجال التدريس الأكاديمي خاصة. لا يقلون شأناً عن الميتافيزيقيين؛ لأنهم شكلوا ثورة نقدية مُهمة في بريطانيا القرن العشرين. تحدث عنهم بشكل خاص لأنهم جزء مُهم مِن ثورات نقدية استخدموا بها أساليب في النقد الحديث والتي كانت ممهداً رئيسياً للثورة النظرية التي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا. أشار أيضاً إلى أن هذه الثورات "حولت الدراسة الأكاديمية للأدب وأعطتها مركزية جديدة في بريطانيا وما حولها." 

تُعد ثوراتهم الجزء الأهم في تأسيس اتجاه لدراسة الأدب بطريقة أكاديمية جادة في جامعة كامبريدج. لا يُخفى أن الثورة النظرية أحدثت انطلاقة في الفكر الأدبي والنقدي الحديث وذلك منذ نهاية العقد الأول بعد منتصف القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت النظريات الفكرية الأدبية الفلسفية النقدية بالظهور والانتشار. على سبيل المثال، النظرية التفكيكية، ونظرية استجابة القارئ، والبنيوية في فرنسا وروسيا، والشكلية الروسية، والموجة الثانية من النسوية إلخ. أدت كل هذه النظريات وغيرها إلى خلق شكل من أشكال التحولات الاجتماعية السياسية منذ بدايتها حتى الوقت الحاضر وتوزّعت في اختلاف أهدافها منِها اللغّوية والطَبقية والجنسّية والإثنية. 

دعا إيغلتون هؤلاء النُّقاد بـ "نُّقاد كامبريدج" على الرغم من أنه بيَّن عدم شمولية إليوت بالتدريس في جامعة كامبريدج لكنه أثنى على إسهامه في هذا المجال وعزز بشكل كبير من إسهام ويليامز الذي يعتبره الوريث الكبير لهؤلاء النُّقاد؛ لأن إيغلتون استمع إلى محاضراته عندما كان طالباً في جامعة كامبريدج. 

 

وضح الكاتب فكرته الرئيسية المرادة في هذا الكتاب من خلال المقدمة التي عرضها في إحدى عشرة صفحة وسرد فرضياته وتعزيزه لما طرح من أسئلة تخص الأسباب التي أدت إلى الثورات النقدية التي فجرها النُّقاد الخمسة في تغيير طريقتنا بالقراءة في الخمسة فصول التي تلتها، والذي توزع في كل فصل منها شرح وافٍ عن أحد النُّقاد المندرجين في محتوى الكتاب. تَطَّرق إلى كل من هؤلاء بشكل تفصيلي فيما يخص الأفكار النقدية التي تبنوها والأسس التي بنوا عليها نقدهم مما جعلهم في مسار واحد – كما يراه إيغلتون – نحو اختلاف النقد الحديث. كرّس إيغلتون جل اهتمامه على الناقد ريموند ويليامز الذي ظهر في الفصل الخامس من الكتاب، كونه وكما أشرنا سابقاً من بين من عاصرهم إيغلتون أثناء فترة دراسته. 

رَكّز إيغلتون على أهم الوسائل النقدية التي سعى من خلالها هؤلاء النُّقاد الخمسة أثناء التدريس إلى تعزيز مركزية الدراسة الأكاديمية للأدب والتي شرحها بشكل تفصيلي مع الأمثلة النصية في كل فصل من فصول الكتاب الخمسة. وبذلك يتبين للقارئ أن جوهر الكتاب هو التركيز على وسائل استخدمها الكتّاب في النقد الحديث والتي أصبحت الأداة التي حولت أسلوب الدراسة الأكاديمية وغيّرت مسار القراءة عندنا في هذا العصر. لكي يتم ذكر هذه الوسائل وتنوعها واختلافها لابد أن نُشير إلى السؤال الأهم هنا: ما هي الثورات التي صنعها هؤلاء والتي أدت إلى حدوث تغيير في طريقتنا بالقراءة؟

إذا نظرنا إلى ما أحدثه الكُتّاب واحداً تلو الآخر نجد أن تي أس إليوت – الذي ظهر عنواناً للفصل الأول من الكتاب – معادياً للرومانسية بشراسة. ذلك العداء الذي أحدث ثورة فكرية واضحة من خلال رفضه لفكرة "شخصية الشِّعر" التي أرادها كل من الشعراء الرومانسيين أمثال ويردزورث وشيلي وكيتس وكولريدج. دافع إيغلتون عن مفهوم إليوت لـ "عدم شخصية الشعر" إذ أكد على أن ذلك "لا يعني أن القصيدة هي كائن قائم بحد ذاته، كما هو الحال بالنسبة "للنقد الأمريكي الجديد". إذا كانت القصيدة متحررة من مؤلفها والقارئ وقائمة بحد ذاتها، تكون بذلك مرتكزة على سياق تاريخي محدد (48)." وقف إليوت أيضاً بطريق المشاعر في تحليله لطريقة الشعراء في كتابة القصيدة حيث أكد على "الدور المركزي للمشاعر" في القصيدة ووافقه إيغلتون الرأي عندما بيّن أن "العاطفة تجد طريقها إلى الشعر بشكل غير مباشر فقط، تتبلور في مجموعة من المواقف الخارجية التي تعمل كرمز أو اختصار للحالات الداخلية." (52)

 إلى جانب تركيز إليوت على فكرة "التقليد" و"عدم شخصية الشعر" سعى إيغلتون إلى إبراز فكرة تبناها إليوت في إطار تحويل أسلوب القراءة عند القارئ وهي "نمط الإحساس" والتي تعتبر مكوّنا رئيسا من مكوّنات الأدب الحديث والتي باركت تلك الثورة عند إليوت. المثال واضح في مقالته "التقليد والإبداع الفردي" التي أشار إليها إيغلتون والتي رأى من خلالها أنه على الناقد أن يأخذ بعين الاعتبار مكونات أساسية للكتابة وهي "التاريخ والفلسفة واللاهوت والاقتصاد وعلم النفس، حتى لو كان إليوت نفسه نادراً ما يشارك في مثل هذه التحقيقات" (48). 

 

آمن كل من آي إيه ريتشاردز ووليام إمبسون في الفصلين الثاني والثالث – الذي حمل كل منهما عنوان فصل على التوالي – بالعقلانية. أشار ريتشاردز إلى الأهمية الكبرى في التحليل النقدي وهي "القراءة عن كثب" والتي تمثلت في كتابه المشترك مع تشارلز كي أوغدن الذي حمل عنوان (معنى المعنى) والذي بين فيه أن "فكرة كون الكلمات بمعنى معين هي جزء مما تمثله، أو لها معنى ثابت مستقل عن استخداماتها المحددة" (88). كان لكتابه (النقد التطبيقي) صدى كبير في الأوساط الأكاديمية كونه يحمل اختلافا واضحا في طريقة قراءة الأدب وتدريسه. علّق إيغلتون على هذا الموضوع بالقول: "الكتاب هو سجل لتجربة أسطورية أجراها ريتشاردز مع مجموعة من طلاب كامبريدج، حيث سلمهم قصائد دون إطلاعهم على مؤلفيها أو سياقاتها، وطلب منهم تحليلها وتقييمها. تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من أن اسم ريتشاردز مرتبط بشكل لا يمكن فصله بما يسمى بالنقد التطبيقي او العملي، وهو مصطلح اخترعه بالفعل، إلا أنه لا يفعل سوى القليل منه بنفسه في كتاباته المنشورة" (134).

ماذا أراد ريتشاردز "بالقراءة عن كثب"؟ الحقيقة أن إيغلتون لم ينسَ ذلك حيث علّق على معنى "القراءة عن كثب" في النقد والتي "تعني نوع القراءة التي تتشبث بعناد بشكل الجُمل - بإيقاعها وصوتها ونغمتها وملمسها والشكل النحوي لها وما إلى ذلك - ويأتي بأحكام وتفسيرات على هذا الأساس" (135). 

بينما كان ريتشاردز منهمكا في توضيح معنى "القراءة عن كثب" نجد إمبسون ميالاً إلى "الغموض" في التحليل النقدي وهذا الأمر واضح في دعمه للاختلاف والتنوع الذي أدى إلى ثورة أحدثت تغييراً في طريقتنا بالقراءة من خلال تأكيده – كما أسهب إيغلتون – على مناقشة أنواع الغموض في عمله بالنقد الأدبي المُعّرف بـ (سبعة أنواع من الغموض) والذي "يتتبع فيه ما يسميه 'مراحل تقدم الاضطراب المنطقي'" (154). ذكر إيغلتون السبعة أنواع بالتفصيل ليعطي للقارئ فكرة مفادها أن مفهوم الغموض عند إمبسون هو لغوي ناتج عن عدم قدرة القارئ على فهم العديد من الكلام الذي يقرأه في أي نص من النصوص الأدبية لاختلاف قدرة التأويل.  

ما يُميّز ليفيس عن زملائه في هذا الكتاب أنه يظهر في الفصل الرابع على أنه غريزي إلى حد خلقه لنموذج نقدي جديد في النقد الحديث. بينما كان إليوت مؤمنا بالله – أشار إيغلتون – إلى أن ليفيس وضع إيمانه في نسخة علمانية من الإله والتي تُعرف بالحياة. حيث تبنى ليفيس النصوص الأدبية أثناء تدريسه الأدب في جامعة كامبريدج النموذج النقدي الذي دعاه "بالدين العلماني". هي إشارة إلى ما كان يعتقده ليفيس بالمجتمعات التي تنشأ ما بعد المسيحية. أضفى ذلك صبغة جديدة على الأدب وتدريسه خارج الإطار الديني المعهود. وبهذا سارع ليفيس إلى التأكيد على نقيض المحسوس وهو "الملموس" و"النقد الأدبي". أبرز ما أكد عليه ليفيس في الملموس هو أن يدخل الناقد فعلياً في حيازة العمل وبالأخص في ملئه الملموس والقيام "بالشعور بالشيء" بشكل كامل بدلاً مِن التعامل مع العموميات المسطحة (214). وبهذا صادق إيغلتون على هذه الفكرة من خلال طلب تمييز النقد من النظرية والفلسفة إذ من الممكن أن تكون هنالك وظيفة مهمة للذكاء العقلي الذي يستطيع تمييز الملموس منه والنظري. تتميز العلاقة بين الملموس والنقد الأدبي عند ليفيس في أنها عملية القفز من الفلسفة اللغوية الباردة الملمس إلى قساوة الحياة اليومية الصلبة الملمس. اعتبر إيغلتون النقد الأدبي عند ليفيس تدريباً على كل من الذكاء العقلي المتمثل بالملموس من جهة والمحسوسات من جهة أخرى، وهو بطبيعة الحال متعدد الأغراض. مدح إيغلتون النقد الأدبي واعتبره الطريق الملكي إلى الأدب لأنه (أي إيغلتون) وضع فرع العلوم الإنسانية في قمة هرم الجامعات الذي اعتبره المحرك الرئيسي للتعليم بعد ان توَّج الأدب مَلَكيّة هذه العلوم. 

  

ختم الكاتب أطروحته بلفت الأنظار إلى معلمه ريموند وليامز الذي لعب الأخير دورا كبيرا في إظهار "بنية الشعور أو الإحساس" التي دعمها وصادق عليها إيغلتون في الكتاب. تحدث إيغلتون عن جميع الاتجاهات التي أثّرت به من خلال استماعه لوليامز وهي الثقافية والمادية والماركسية والتاريخية واللاهوتية وسبل دعمها للنظرية النقدية التي ساهمت في تغيير طريقة القراءة التي يهدف إليها هذا الكتاب. تبنى وليامز فكرة الثقافة التي تُعتبر المحور الأساس الذي تُبنى عليه كل الدراسات واعتبرها "طريقة الإنتاج في حد ذاتها" وهي التي تنطوي عليها بعض العلاقات الاجتماعية والظروف التاريخية وهذا ما يجب توليه في زمام أمور النقد الأدبي الحديث. على الرغم مما يبدو من نقيض في التعامل عند وليامز في مفهوم التنوع والالتزام نجده يحمل هذه الصفة كواحدة من "نقاط القوة البارزة في عمله" وهي التي من الممكن أن تكون السبب الذي جعل منه وارث النُّقاد الأربعة الذين سبقوه وتكمن فكرته أساساً في "أن التنوع والالتزام ليسا في رأيه على أقل تقدير." إستطاع إيغلتون في نهاية المطاف الخوض في تحليلات الوسائل النقدية التي استخدمها النُّقاد الخمسة وبين أنها هي السبب الرئيس في جعل هذا الاختلاف والتغيير في طريقة قراءتنا للأدب. لقد نجح كل من الكاتب والكتاب في نقل الأفكار التعليمية الأكاديمية التي تبناها هؤلاء الأيقونات التي عززت من حصر مفهوم النقد الأدبي داخل إطار الأكاديميا الحديثة.

ربما تعلم إيغلتون من أستاذه ريموند وليامز الكثير بنفس الطريقة التي تتلمذ بها أرسطو على يد أفلاطون. ولكن لم يحد إيغلتون عن مسار وليامز بالطريقة التي حاد بها أرسطو عن أفلاطون؛ وليس في ذلك ما يجعل من إيغلتون أقل شأناَ من أرسطو. أرسطو العصر الحديث الذي تجده في كل رف من رفوف المكتبات العربية والأجنبية لابد أن يكون حاضراً في مناهج التدريس العربية أيضا. وبهذا يكون الكتاب في المكتبة العربية له أهمية لكل من الدارسين والقارئين للأدب والنقد الأدبي الحديث على حد سواء. وعلى الرغم من ترجمة العديد من كتب إيغلتون إلى العربية لكن تبقى المكتبة العربية مفتقرة لمثل هذا الكتاب الذي يحمل الفكر الفلسفي المُغطى بإطار أدبي أكاديمي صرف. 

 

تفاصيل الكتاب:

العنوان: ثورات نقدية: خمسة نُقّاد صنعوا تغييرا في طريقة القراءة

المؤلف: تيري إيغلتون

الناشر: Yale University Press

لغة النشر: الإنجليزية

سنة النشر: أبريل/ 2022

عدد الصفحات: 323

أخبار ذات صلة