السريالية في الفكر العربي (1938- 1970)

السريالية في الفكر العربي.png

أرتورو موناكو

عزالدين عناية*

يندرج الكتاب ضمن مجال دراسات سوسيولوجيا الأفكار، ويعالج تحديدًا قضية ظاهرة السريالية من حيث الظهور والتطور والتفاعل في الفكر العربي، في مصر وسوريا ولبنان. يُحدّد المؤلف الإطار الزمني للبحث (1938-1970). كما يضبط المؤلف الحيز المكاني المنحصر بالبلدان المشرقية الثلاثة المشار إليها. وقد جاءت السريالية العربية صدى للحركة الأم التي دشّنها الفرنسي أندريه بريتون (1896-1966)؛ إذ شهدت الحركة أول ظهور لها في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم شملت بلدانا أخرى مثل سوريا ولبنان والعراق، لتمتدّ لاحقاً إلى بلاد المغرب.

 

وزَّع الباحث كتابه إلى أربعة محاور رئيسة وهي: التجليات الأولى للسريالية العربية؛ والسريالية في مصر بين النزعة الفرنكفونية والنزعة العروبية؛ والسريالية في سوريا كتجربة معزولة؛ والسريالية في لبنان من الترجمة إلى إعادة الصياغة؛ هذا فضلاً عن مقدمة ضافية وخاتمة للكتاب.

يطرح المؤلّف سؤالا ضمن الباب الأول وهو هل السريالية مستوردَة أم هي نتاج تفاعل داخلي؟ ثم يشرح أنّ التيارات الثقافية الغربية قد شغلت الحركة الفكرية العربية، وكانت عاملا مؤثرا في بنية جملة من الأعمال وفي مضامينها. ولا ينفي هذا وجود توجّهات ومدارس فكرية عارضت الأنماط الدخيلة والمستورَدة، وكانت ترتئي أنّ الفكر العربي الحافل بتاريخ طويل وثري هو في غنى عن التحوّل إلى تبيع ومقلّد لتقليعات وافدة. والواقع أنّ الفكر العربي في الفترة التي تناولها البحث بالدراسة كان فكر مثاقَفة مع الغرب، وليس فكر اتّباع أو انجراف نحو الغرب. صحيح عرف العرب تيارات أخرى سابقة ونهلوا من مناهجها ومضامينها، ولكنّهم لم يتماهوا معها إلى حدّ نسيان هويتهم الثقافية أو التنكر لها.

وعلى هذا الأساس ذهب مؤلف كتاب "السريالية في الفكر العربي" إلى أنّ طبيعة العلاقة التي سادت هي علاقة تفاعل وتثاقف وليست ذوبانا أو إمّحاء، وهو تقريبا المسار العام الذي طغى في أوساط رواد السريالية الأوائل. بعد المحور التمهيدي العام الذي انطلق برصد بدايات ظهور السريالية في الأوساط الثقافية العربية. تلاه محور لاحق تناول ظهور السريالية في مصر وتطوراتها، ترافقت مع أجواء بدأ يسري فيها حسّ التحرّر من ربقة الغرب وانتشار الحسّ القومي، وهو ما جعل السريالية تغدو مصنَّفة ضمن التوجهات الثقافية الأجنبية المناوئة لمسار التحرّر.

حاول الكاتب في مستوى أول تتبّع حركة "الديوان"، ثم تيار الرمزية مع اللبناني سعيد عقل (1911- 2014)، والتنظيرات المبكرة حول السريالية في العالم العربي، مع استعراض المساهمات الأولى لمصطفى صادق الرافعي (1880- 1937) بوصفه أحد رواد الرمزية المنفتحين على التيار السريالي، حيث يضعه المؤلف في منزلة وسطى بين الرمزية والسريالية. كما يركز مؤلف الكتاب على فترة الثلاثينيات من خلال تتبّع آثار الحركة في الوسط الكوسموبوليتي السائد حينها في مدينتيْ القاهرة والإسكندرية، سواء جراء الجاليات الأوروبية المقيمة أو جراء الوافدين العرب من شتى أصقاع البلاد العربية. فقد تعزّزت الموجة السريالية، وفق ما يذهب إليه الباحث، بانشغال مجلّات مصرية مهمّة في تلك الحقبة بالموضوع على غرار "مجلة الرسالة" و "مجلة التطور" و "المجلة الجديدة"، لتبلغ الحركة نضجها بظهور المؤسس الفعلي للحركة السريالية في مصر جورج حنين (1914- 1973). وضمن هذا المحور يُبرز الباحث دور النخبة الفرنسية المقيمة في مصر، في دعم هذه الحركة وفي تحول السريالية من موجة فرنكفونية إلى ظاهرة محلية.

 

في الباب الثالث المخصَّص لسوريا، يحاول الباحث التركيز على الواقع الثقافي السوري، وعلى العزلة التي ميزت السريالية السورية، من خلال التعرض لأورخان ميسر وتنظيراته المبكرة، والنزعة السريالية في الفكر والأدب والفلسفة، ولا سيما في كتاب "سريال". ثم ينتقل الباحث إلى الحديث عن علي الناصر (1896- 1970) رفيق أورخان. يستعيد الباحث مجموعة من أعمال أورخان والناصر ويترجمها إلى الإيطالية ثم يقوم بتحليلها مستحضرا الأوضاع الاجتماعية التي ألمّت بالصياغة. تعود قلّة المواضيع والقضايا المطروحة في هذا المبحث إلى شحّ المعلومات عن هذه الفترة، بحسب تبرير الباحث. ونشير إلى أن المحور المخصَّص لمصر أتى أثرى وأشمل من المحور المخصص لسوريا.

فحين كتب أندريه بريتون "مانيفستو السريالية" أو "البيان السريالي" (1924) عرّف السريالية بكونها تقوم على التلقائية النفسية التي يُعبّر من خلالها الفرد عمّا يختلج في داخله، سواء قولا أو كتابة أو بأي شكل آخر، عن كيفية اشتغال الفكر في غياب أي رقابة عقلية وبعيدا عن أي هواجس جمالية. وبوصف السريالية العربية قد قامت على عناصر أساسية منها إعلاء شأن اللاوعي بمدلوله النفسي؛ وتبني مبدأ الحرية بكون الكاتب ثائرا على الجمود؛ والتلقائية حيث الإبداع هو تداع حر غير منضبط بضوابط شكلية؛ واللامعقول حيث الإقرار بعدم قدرة العقل على تلبية حاجات الفعل؛ والحلم بعوالم تتخطى الزمان والمكان؛ والإيجاز وكثافة العبارة. على هذه الأساسات حاول أرتورو موناكو إبراز المدى الذي وصل إليه الفكر العربي في الوفاء للمحددات الأولية وفي صنع مختلف الإضافات. وبالتالي شكّل السؤال المحوري لكتاب موناكو: كيف تجلّت السريالية في الفكر العربي؟

في واقع الأمر، لأول مرة يَصدر كتابٌ في إيطاليا يتناول علاقة الفكر العربي بالحركة السريالية. وأما في البلاد العربية فالمؤلفات في الشأن قليلة. ولهذا يُعَدّ الكتاب، ضمن المنشورات الإيطالية المعاصرة، متفرّدا في دراسة أحد المواضيع ذات الصلة بالفكر العربي، وإحدى المغامرات الجادة والموفقة للباحث، لسببين أساسيين: أنّ جلّ المنشورات الجادة والعلمية التي أُعدّت في إيطاليا قلّة منها اعتمد أصحابها المصادر العربية ولهذا مثّل هذا المؤلف إنجازا متفردا؛ أنّ الباحث موناكو لم يرتهن للمقولات القائمة على أحكام مسبَقة، أو مستوحاة من قراءات سالفة، بل غامر ببناء بحث يقوم على استقلالية منهجية ورؤية مستقلّة رغم أن الأمر مغامرة شائكة لباحث مبتدئ.

وفي ضوء ذلك نرصد في الكتاب إحاطة موفقة للباحث بالمدرسة السريالية في تمظهراتها الغربية، واطّلاعا جيدا على الكتابات العربية، وهو ما خوّل له إدراك التمثل العربي (في حدود كتّاب البلدان الثلاثة التي انحصر بها البحث)، ومن ثَمّ متابَعة مظاهر الاتصال والانفصال عن التيار السريالي العام سواء منه الناطق بالإنجليزية أو الناطق بالفرنسية.

 

وبشأن الأعمال العربية ذات الطابع السريالي ثمّة كمٌّ من الأعمال لا بأس به، وأما بشأن الأعمال الدراسية ذات الطابع التحليلي والنقدي والتأريخي فهي قليلة، وفي مجملها دراسات ومقالات منشورة في مجلات. لكن نجد بعض الكتب في الشأن مثل كتاب سمير غريب "السريالية في مصر"، الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ وكتاب مصطفى الجوزو "مصطفى صادق الرافعي رائد الرمزية العربية المطلة على السوريالية"، دار الأندلس، بيروت؛ وكتاب أدونيس (علي أحمد سعيد) "الصوفية والسريالية" دار الساقي، بيروت؛ وبحث جورجي حليم سلهب "السوريالية الفرنسية ومجلة شعر"، رسالة دكتوراه جامعة القديس يوسف بيروت 1980؛ وكتاب هادي عبد الجواد "فرار بربري: الكتاب المغاربة والسوريالية"، منشورات "لي مان سيكرات: نيويورك تونس 1998 (بالفرنسية).

ولعلّ الإضافة المهمّة لكتاب أرتورو على المستوى الغربي، وهو إنجاز دراسة علمية حول موضوع قلّ التطرّق إليه في الدراسات الغربية بشأن الفكر العربي المعاصر، بما يغطّي نقصًا واضحًا في الدراسات الغربية، التي عادة ما تركّز على مواضيع حصرية. الكتاب يكشف عن قدرات لدى الباحث، وهو ما ينبئ بمولد باحث مقتدر في الدراسات العربية يتميز بنظرة شاملة ويمتلك أدوات مقدّرة للبحث العلمي. نشير إلى أنّ المؤلّف ينتمي إلى جيل المستعرِبين الإيطاليين الجدد (من مواليد 1988)، وهو باحث شغوف بالدراسات العربية الحديثة.

اعتمد الباحث في مؤلفه بشكل بارز على مرجعية عربية ثرية في الموضوع، ودُون اللجوء إلى الترجمات أو التعويل على مقول الآخرين في اللغات الأجنبية. وهو يفصح عن قدرة صاحب الكتاب في التحكم بمادة البحث. فقد شكلت المرجعية العربية القسم الغالب من مراجع الكتاب، وهي مرجعية أصلية تعود إلى رواد السريالية ومشايعيها في الفكر العربي. فقد حاول أرتورو موناكو متابعة ما كُتب في السريالية وما كتب عنها في اللسان العربي، وهي متابعة مزدوجة أثْرت البحث.

حاول الكاتب مراجعة الأعمال المدونة بالعربية وبغير العربية (الفرنسية على سبيل المثال) لمجمل الكتّاب المعتمَدين في الرسالة، وعوّل على إمكانياته في العربية في المجال. وأمّا المراجع المعتمَدة في الكتاب والمدوَّنة باللغات الأوروبية فقد جاءت ثانوية، لغرض الشرح والتوضيح أو الإضافة. وتناهز المصادر العربية المعتمَدة في بناء نص أرتورو موناكو الثلثيْن.

 

لم أقف لدى الكاتب في نصّه على نزعة مركزية، ولم أرصد لديه تمركزا حول الحضارة الغربية أو نزعة استعلائية، سواء كان ذلك بشأن الفكر العربي أو في ما تعلق بالثقافة العربية بوجه عام. وقد اعتمد في دراسة الموضوع منهجا تاريخيا تحليليا بالأساس. حاول الإتيان على مختلف العوامل السياسية والاجتماعية التي صنعت الظاهرة السريالية في الثقافة العربية، ولكن تلك المقاربة التاريخية لم تكن الناظم الرئيس للبحث، بل أردفها المؤلف بمنهج تحليلي للنصوص والوقائع. فقد كان غالبا ما يورد النصوص العربية ويشفعها بترجمة إيطالية ثم يشتغل على تفكيك تلك النصوص والغوص في أبعادها ومعانيها. ويمكن القول إنّ الباحث قد وفّق عموما في المنهج المعتمَد، حيث لم يغرق في الإسقاطات، ولم يتقوّل على الكتّاب والمفكرين الذين أدرجهم ضمن تيار السريالية. إذ عوّل موناكو في بناء نصّه على استعراض السِّير الذاتية للكتّاب العرب المعتمَدين وللمؤثرات العائلية والتكوينية والمحيط الدراسي، ثم أردف ذلك بتحليل مختارات النصوص.

عموما بدأت السريالية العربية صدى لتيار غربي، وربما لم يفطن فيه مشايِعو هذا التيار إلى الروافد الشرقية لجذور تلك المدرسة العميقة. والكاتب أرتورو موناكو نفسه اعتبر السريالية نتاجا غربيا ولم يكلّف نفسه عناء البحث في أصول تلك المدرسة، ولعل ذلك التناول المنقوص لو أُدرِج لأضفى على الكتاب رونقا آخر. وبوجه عام يبدو الكاتب ملمًّا بالنصوص المعتمَدة، ولا ينقصه بناء خلاصة عامة ضمن مسار الفكر العربي المعاصر. وربما من المآخذ التي نسجلها على الكتاب وهي محاولة المؤلف حشر أصناف متباعدة من النصوص تحت مسمى السريالية.

بحوزة المؤلف إلمام جيد باللغتين الإيطالية والعربية، وهو ما يسّر له بناء بحث علمي متكامل من حيث المضمون والمنهج ومتابعة للنصوص المتصلة بالموضوع. إذ يكشف النص عن قدرة صاحبه في الإلمام بالمصطلح الفكري العربي، ناهيك عن إلمامه الجيد بموضوع السريالية ضمن السياق الغربي. وهو ما خوّل له ترجمة العديد من النصوص سواء ما أُدرج منها حرفيا في متن الكتاب أو ما استوحى منها الكاتب الدعم لأطروحته ترجمة جيدة. كما أن الكتاب موزَّع بشكل واضح من حيث الإطار الزماني والمكاني للموضوع، ونقدّر أن المؤلف قد أوفى البحث حقه من خلال الالتزام بالعنصرين المذكورين. وبوجه عام لغة الكاتب الإيطالية هي لغة باحث واثق من قدراته المعرفية واللغوية.

من جانب آخر شمل الكتاب ثلاثة فهارس لا غير: فهرس عام بيّن فيه مواد الكتاب، تلاه فهرس ضمّ بيبليوغرافيا علمية شملت مراجع عامة ومتخصصة تعلقت بالثقافة العربية، أتت بالعربية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية؛ فقد أسعفت الباحث القدرة على الاطلاع على النصوص مباشرة في الإحاطة بموضوع بحث ومادة علمية متناثر أغلبها بين المجلات وفي ثنايا المقالات. كما ضمّ الكتاب فهرسا للأعلام أردفه بفهرس بديل إضافي ألحقه بالكتاب نظرًا لتسرّب أخطاء للفهرس الأصلي. وربما ما منع الكاتب من إضافة فهرس للمصطلحات الواردة في الكاتب، اعتماده إيراد المصطلحات وشرحها سواء ضمن النصوص المترجمة في متن النص أو في الهوامش التي أضافها لكتابه.

 

عادة ما تلقى الكتب الصادرة عن "معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" في روما صدى طيبا، وهو ما حظي به كتاب أرتورو موناكو. فقد لقي الكتاب صدى إيجابيا في الأوساط المعنية بالثقافة العربية في إيطاليا، حيث تم عرضه في المعهد المذكور وغيره من المؤسسات، كما تولته بعض المجلات بالعرض والمناقشة.

استطاع المؤلف أن يلمّ بمسارات الكتابة السريالية في الزمان والمكان المحدّدين. وعمله هو بالواقع دراسة رصينة ومعمَّقة حول موضوع في الفكر العربي غالبا ما جرى التطرق إليه بشكل جزئي، ولم يصدر عملٌ بهذا الشمول يتناول الظاهرة السريالية.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: السريالية في الفكر العربي.

تأليف: أرتورو موناكو.

الناشر: منشورات "معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" (روما) 'باللغة الإيطالية'.

سنة النشر: 2021.

عدد الصفحات: 306 ص.

*أكاديمي تونسي مقيم في إيطاليا

أخبار ذات صلة