ميشيل فوكو
سعيد بوكرامي
ما الإنسان؟ سؤال شغل ميشيل فوكو، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وكان جزءًا من مُحاضراته في جامعة ليل والمدرسة العُليا، حاول من خلالها فهم كيفية تقاطع هذا التساؤل مع الفلسفة وما يدور حولهما من أفكار ومفاهيم تعود إلى عصر الأنوار. تشكل هذه المحاضرات مخطوطة نادرة وهي النسخة الكاملة، التي نشرتها لأول مرة دار غاليمار ودار سوي ومنشورات المدرسة العليا في العلوم الاجتماعية بباريس، في إطار إحياء تراث عظماء فلاسفة القرن العشرين.
يكشف فوكو في الفصل الأول: لماذا ظلت الفلسفة الكلاسيكية مع (ديكارت، مالبرانش، ليبنيز) صامتة عن هذا السؤال، فمنعت فكرته اللامحدودة عن "طبيعة" الإنسان من إقامة علاقة مباشرة مع حقيقته وجوهره. أما الفصل الثاني، فيخصصه لما حدث بعد الانقلاب الكانطي، ولمفهوم الإنسان الذي صار نقطة جاذبية للفلسفة الحديثة، من فيورباخ إلى ديلثاي مروراً بهيغل وماركس، وبذلك أصبح هذا الإنسان الحقيقي ينشر عالماً من المعاني والممارسات ويكشف بفكره وممارساته عن جوهره الحقيقي. في الفصل الثالث، يصف فوكو انفجار الجهاز الأنثروبولوجي عند نيتشه – مستعرضا جوهر الفكر الديونيسي عن محو الإنسان الذي يعد بخبرات مأساوية عن الحقيقة. للمرة الأولى والأخيرة، نجد فوكو يقدم عرضًا طويلًا ودقيقًا وقويًّا عن فلسفة نيتشه.
في الصفحات الأولى من كتابه "الكلمات والأشياء" الصادر عام 1966، تساءل فوكو عن "هذا الشكل الغريب للمعرفة الذي يُدعى الإنسان؟" إذا كان السؤال يبدو مثيرا للاهتمام، فمن الواضح أنه موجود أيضًا في فكر فوكو منذ وقت مبكر جدًا. ويظهر في المنشور المعنون بـ "السؤال الانثربولوجي" المستند إلى المحاضرات التي قدمها فوكو في المدرسة العليا خلال العام الدراسي 1954-1955، و ألقاها أيضًا في جامعة ليل، وكلها تصب في دراسة الإنسان وطرق المُقاربات التي قامت بها للأشكال المختلفة للمعرفة.
يُبين السؤال الأنثروبولوجي أولاً وقبل كل شيء أن فوكو لم يؤسس مقدمات المنهج الأركيولوجي الذي سيكوّن أسس كتابه الهام "الكلمات والأشياء"، الذي اعتمد على البعد الاستطرادي للأرشيفات المختلفة. من جهة، إن تطبيق رؤية غائية على شخص أصر دائمًا على القطائع والحالات الطارئة لن يكون بلا إثارة للأسئلة والإشكالات. ومن جهة أخرى، تشكل هذه المحاضرات مادة مهمة لفهم الطريقة التي اشتغل بها فوكو فكرياً خلال الخمسينيات، حتى وإن لم نجد صراحة في السؤال الأنثروبولوجي علاقات القوة التي تحافظ على تماسك الأشكال المختلفة للمعرفة فيما بينها، فإن هذه المحاضرات حول الأنثروبولوجيا تطلعنا على الطريقة التي استخدم بها فوكو النصوص وعلّق عليها. إن دراسة فكر الفلاسفة بالنسبة لفوكو تجعل من الممكن تفسير ما كان أو ما لم يكن قابلاً للتفكير في فترة تاريخية معينة. من خلال البحث في مقولات أرسطو - كما نقلها بيير دوهيم في كتابه "نظام العالم". وفي "تاريخ العقائد الكونية من أفلاطون إلى كوبرنيك" عام (1913) - أو من خلال فلسفة ديكارت، وهنا يتساءل فوكو لماذا لم يكن التفكير بالإنسان مُمكنًا في العصور القديمة اليونانية أو في العصر الكلاسيكي؟
إن منهج فوكو المذكور أعلاه يقنعنا بـأن هذه المحاضرات حول الأنثروبولوجيا تتأسس حول ثلاثة محاور هي: الانثروبولوجيا كانت مستحيلة في عصر الفلسفة الكلاسيكية. والانقلاب الكانطي وما تلاه، وأخيراً انفجار النظام الأنثروبولوجي بواسطة نيتشه. وقد نجد صدى هذه المحاور عند جيل دولوز حينما تحدث عن منهج فوكو في بداياته ووصفه بأنه عبارة عن "تشظٍّ فكري غير متجانس" لأننا لا نجد "ثلاثة فصول" أو "ثلاث لحظات" في هذه المحاضرات بل بالأحرى هي "لوازم" متكررة، وبتعبير آخر صاغه دولوز وغاتاري فهي "حلقة دائرية"، وحركة ذهاب وإياب تحدد منطقة الفكر. في العمل نفسه، يظهر كانط وفيورباخ في كل من الجزء الأول والجزءين التاليين. علاوة على ذلك، تناقش العديد من النقاط دفعة واحدة، مثل مسألة الكون اليوناني، والطبيعة أو الحقيقة أو الجوهر، في مقاطع مختلفة من نص فوكو.
في السؤال الأنثروبولوجي، نجد تأملات مثيرة للغاية حول تفسير النصوص التي وضعت في نهاية الكتاب، في القسم الفرعي المخصص لهايدغر. نشير إلى كيفية استخدام فوكو لوثائق فلسفية مختلفة للتفكير في الأنثروبولوجيا مستندا إلى المقدمة التي خصصها هايدغر لشعر هولدرلين، وفي السياق ذاته يوضح فوكو أن الغاية من التعليق أن نبرز القصيدة ونضعها "تحت ضوء ساطع" يتجسد بنور كلمات المعلق. ومع ذلك، يصرح فوكو أن تفسير القصيدة لا يتطابق تمامًا مع تفسير الفكر الفلسفي: "على عكس التعليق الشعري، لا يتم نطق ما قيل بصوت عالٍ بل تترك الكلمة الموجودة، وقول المسكوت عنه، لأن الفرق كله بين اللفظ والتعبير " (ص 208). وبالتالي، فإن التعليق الفلسفي لا يكتفي بتوضيح النص ولكنه يبحث عما لم يفكر فيه من قبل ويجب أن يُقال عن العمل الأدبي ما لم يقل من قبل.
هذا بالضبط ما يفعله فوكو في هذه المحاضرات من خلال التشكيك في شروط إمكانية وجود فكر بشري، كما تُبرز هذه المقاطع علاقة فوكو بهيدغر خلال تلك الفترة بالإضافة إلى طريقته في التلاعب بالاستعارات: عندما يقول "إنَّ التخلي الذي ينتمي إلى جوهر التعليق الفلسفي، يناقض النسيان والاقتلاع الذي يجتث ويلغي: فهو يتوقف على ترك الفكر في تربة نموه، مأخوذًا ومحتفظًا به في هذه التربة التي انغلقت على نسيانها الأساسي. ولا يجدر بنا نبش التربة لفحص جذور الفكر؛ ولكن يجب فحص هذه التربة المغلقة حيث انحبس جوهر فكر معتم.. إن التفسير الفلسفي للفكر ليس بحثا متخصصا في الأعشاب عن أسرار نموها، بل هو معركة فعَّالة مع التربة التي ولدت منها "(ص 210). لا يتعلق الأمر بممارسة تأويل النص والتأمل في معانيه الخفية المفترضة بقدر ما يتعلق الأمر بتحليل الخطابات كما أنشئت في فضاءاتها التاريخية المحددة وفهم الشروط التي سمحت بإنتاج فكر فلسفي عن الإنسان.
إن منهج فوكو أثار اهتمام علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين، الذين رأوا فيه طريقة للتعامل مع النصوص على أنها ممارسات. إن كتابة ميشيل فوكو، رحلة فلسفية، وقد أشاد هوبير دريفوس وبول رابينوف بقدرة كتابات فوكو الأولى أن تستكشف "التغيرات المذهلة" ضمن "التصنيفات الثقافية". وهذا ما طبقه فوكو في "السؤال الأنثروبولوجي" من خلال التساؤل أولاً وقبل كل شيء عن الطريقة التي وضع بها فكر "الطبيعة" في القرن السابع عشر حداً للفكرة الأرسطية عن "العالم"، دون إتاحة الفرصة لميلاد الأنثروبولوجيا. يمكن أن تنشأ الأنثروبولوجيا فقط من اللحظة التي تحدد فيها الطبيعة نفسها ليس في إطار التعالي الإلهي ولكن كطبيعة بشرية. "لقد عملت فلسفة التنوير بالفعل على تقديم موضوع أساسي: لا يمكن لحقيقة الإنسان أن تخرج للضوء إلا في إطار التناهي. بدءًا على الأقل من المحتويات الملموسة التي تحدد من خلالها الطبيعة، كطبيعة بشرية" ( ص 52). لأن الإنسان في جوهره المحدود قادر على التفكير بشكل مستقل.
إن المفهوم الفلسفي للأنثروبولوجيا أصبح ممكنًا منذ القرن الثامن عشر. واستنادا إلى الجامعية أريانا سفورزيني المتخصصة في فلسفة فوكو وجامعة ومعدة الكتاب، فإن هذه النقطة المهمة بدأت حينما: "أفسح كانط مكانًا - جنبًا إلى جنب مع الكون كموضوع متجاوز - للعالم باعتباره مجالا للتجربة حيث يبني الإنسان حقائقه العملية" (ص 244). ويبرز ذلك من خلال قراءته لتجريبية هيوم، يؤكد فوكو أن كانط كان يمكنه بالفعل التفكير في معرفة جوهرية عن الإنسان من خلال طرح الأسئلة الثلاثة - ما الذي يمكنني معرفته، وماذا علي أن أفعل، وما الأمل المرجو من ذلك؟ لكن فوكو يقول إن سؤالا رابعا جوهريا أغفله كانط وهو: ما الإنسان؟
يُلاحظ فوكو في الجزء الثاني من أنثروبولوجيا كانط السمة الرئيسية للأنثروبولوجيا. إنها مسألة تحديد مجموعة من خصائص الفرد، ولا سيما "الجنس" و"العرق". والتعارض بين "العالم"، الذي يُفهم على أنه امتداد للإدراك العقلي، و"الطبيعة"، التي يتعرَّف من خلالها على أنها فضاء خيالي، يختفي لصالح تمييز جديد بين "الكون" اللامتناهي و"مجال الخبرة"، من خلالهما يعطي الفرد معنى للطبيعة؛ لأن الإنسان ليس عنصرًا من عناصر الكون فحسب، بل هو أيضًا صاحب منفعة في العالم الذي يتطور فيه والذي يمكن أن ينتج فيه وعنه المعرفة من خلال الاستخدام المستقل لعقله.
يمكننا القول إن الأنثروبولوجيا بالنسبة لفوكو هي نوع من المعرفة: " المعرفة ليست شكلا للمعرفة أو روحا أو حقبة؛ بل هي مجموعة من العلاقات التي يمكن اكتشافها، في فترة معينة، بين العلوم عندما يتم تحليلها على مستوى الانتظام الخطابي. كانت الأنثروبولوجيا بمثابة تحقيق للخطاب النقدي، وتحويل "الميتافيزيقا البشرية" إلى وجود فلسفي للإنسان المفكر في جوهره (ص 156). إن هذا الشكل من أشكال المعرفة يقع تاريخيّا بين عصر التنوير ونهاية القرن التاسع عشر.
بناءً على فلسفة نيتشه، يتساءل فوكو عما إذا كان من الممكن بناء "معرفة حيّة للحياة" قادرة على القطع مع البحث عن "معرفة مطلقة للحياة". إنها مسألة وضع معرفة تحرر الإنسان من أساطير المعرفة وتوجيهها نحو الحرية. حينها يصبح النقد على عاتق الإنسان والقيم الأخلاقية والعالم، ويدل على نهاية الأنثروبولوجيا. لم يعد المهم هو "الإنسان" بل "الحياة" و"الحرية" هي الأهم، وهما الرهان الأكبر لتحرير فكره، وبذلك ستكون إرادة الحياة هي تحويل فلسفة الحقيقة إلى ميتافيزيقا الإرادة، والتي لن تكون في حد ذاتها سوى نوع من علم الكون الساحر للحياة "(ص 188).
يستعيد فوكو في أحد أجمل فقرات الكتاب أسطورة ثيسيوس التي علّق عليها نيتشه في أحد كتبه. في ظلام المتاهة، لا يبحث ثيسيوس عن الحقيقة، بل يبحث عن أريان، المرأة التي يحبها ويرغب في إنقاذها من براثن مينوتور. وفي خضم تيهه اللامتناهي في المتاهة، يخسر نفسه ويضيّع أريان: لم يعد رجلاً؛ بل أصبح ليلا. يُبين فوكو أن "ضياع الإنسان" هو قبل كل شيء مشروع يقوم به الإنسان نفسه، الذي يضيّع نفسه في البحث عن الحقيقة، لكنه ينقذ نفسه بواسطة الهذيان الديونيسي. إن موت الإنسان والأنثروبولوجيا الفلسفية هي نتيجة طبيعية للتحرر من إرادة السلطة، أي ممارسة القوة، القادرة على خلق قيم جديدة تعيد للإنسان سحر الحياة. (ص 191 ؛ انظر أيضًا ص 200 وص 215).
يُبرز فوكو أن الفكر النيتشوي يقوم بقلب وجود الحقيقة في الظواهر، وفي المظاهر، لكي يمنحها معنى جديدًا: "سيكون تفسيرًا للوجود من خلال الحياة، شكلًا مؤلفًا من أشكال الوجود الحي" (ص 195). يبدو أن "الإنسان" يفسح المجال لـ "الكائن"، الذي يجسد الحياة. لم تعد المعرفة الفلسفية للأنثروبولوجيا هي التي يجب التفكير فيها بل التفكير في وجود الإنسان، بمعنى آخر يجب التفكير في إمكانات الحياة التي يحملها في داخله، والتي أضحى من الآن فصاعدا مطالبا بإنتاجها، وإعادة اختراعها.
وكما تشير أريانا سفورزيني في خاتمة الكتاب، فإن نشر محاضرات فوكو حول السؤال الأنثروبولوجي يوضح كيف نشأت الظروف التي جعلت من الممكن وجود تفكير حول الإنسان:" تحدد الأنثروبولوجيا، بالمعنى الأدنى، إغراء إدراج جوهر الإنسان في خطاب الحقيقة، أو حتى مشروع وصف الإنسان الحقيقي" ( ص 247) . يملك هذا الإنسان علاقات وثيقة مع العالم والطبيعة والحقيقة، لكن وجوده في مجال المعرفة سيكون مؤقتًا فقط. من الأشياء المثيرة في هذه الإرهاصات الفكرية عن السؤال الأنثروبولوجي، أننا لا نجد من جهة، أي إشارة للأعمال القادمة لفوكو، ولا سيما عمله العظيم "الكلمات والأشياء" أو غيرها وكأن المحاضرات فصلت تفصيلا لإثارة سؤال الأنثروبولوجيا. من جهة أخرى، يعرض الكتاب قوة فكرية على نبش الأفكار الجديدة من أشلاء أفكار قديمة، هذا البناء الفكري المتنامي الذي تميز به فوكو والذي يذكرنا دائما أن الحياة الفكرية هي انبثاق من حياة الإنسان، وأن البعد الإنساني، أغلى من أي معرفة أو حقيقة.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: السؤال الانثروبولوجي
المؤلف: ميشيل فوكو
الناشر: دار سوي، ودار غاليمار، ومنشورات ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية
سنة النشر: 2022
عدد الصفحات: 304 ص
اللغة: الفرنسية