ليديا بالس، ويندي ل. تيت وليزا م. إلرام
حامد عبد الرحيم عيد
أستاذ بكلية العلوم جامعة القاهرة، مصر
مقدمة ورؤية المترجم:
يعيش العالم حالياً على نموذج ما يسمى بـ"الاقتصاد الدائري" مع حالة من الشفافية وزيادة الثقة عبر سلاسل الإمداد العالمية والتي تحفز على التحكم بشكل أكبر في الموارد، كما أن هناك بعض الاقتصادات التي تتمتع بوجود سلاسل إمداد دائرية يتم عن طريقها اقتسام الأرباح بشكل عادل بين المجتمعات والمستهلكين وغيرهم. هناك أيضا الثورة الصناعية الرابعة التي تشكلت ملامحها في وسائل تكنولوجية مثل "بلوك شين" والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والنانوتكنولوجي، وأسهمت جميعها في انتعاش عدد من القطاعات مثل تتبع المعادن من المناجم إلى المستهلكين وتحليل البيانات لاستخدامها في إعادة التصنيع والتدوير. ويتوقع محللون بأن الاقتصاد الدائري، سيكون حالة اقتصادية عادية عام 2030 تهدف إلى تقليل الهدر وخفض استهلاك الطاقة والمواد الخام. وعند المقارنة بما كان عليه الحال عام 2010، فقد كان يتم استخراج مليارات الأطنان من المواد والمعادن سنوياً لتلبية الاحتياجات، لكن ربما يسهم الاقتصاد الدائري في ثورة من التدوير وإعادة الاستخدام.
ويسهم أيضاً في تعظيم الاستفادة من جميع المواد الخام والمعادن والطاقة والموارد بمختلف صورها، فضلاً عن إطلاق عمليات إعادة التدوير والاستخدام وإعادة التصنيع والتطوير، بدلاً من نمط الهدر وإلقاء النفايات. كما أنه يعيد تطوير الأنظمة الصحية والاستهلاكية والتعريف بقيمة الأشياء وأهمية الاستخدام الفعال وتقليل الآثار السلبية الناجمة عن الأنماط الاقتصادية التقليدية، كما أنه يسهم في خلق فرص اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات والمؤسسات، فضلاً على المزايا البيئية والاجتماعية؛ فالاقتصاد الدائري لم يعد مصطلحاً وليد السنوات الأخيرة، بل إنه يضرب بجذوره في العالم منذ عقود عند ابتكار مفهوم التدوير وإعادة الاستخدام، وظهر بشكل واضح في الدول الصناعية بعد الحرب العالمية الثانية عندما حاولت الحكومات استغلال التكنولوجيا والآلة في إعادة التصنيع.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تصديت ومازلت لنشر رسائل متنوعة عن الحياة الخضراء تعريفًا وتدريسًا وتوعية بها، ومنها مقالات حول التحدى البيئى، والربيع الصامت، وتخضير العقول والقلوب، والفلسفة الخضراء، ومن المهد إلى المهد، والعمارة الخضراء، ومستقبلنا المسروق، ونحو بيئة خضراء بالجامعة. أحسب أن الطريق مازال طويلًا إلا أنه ليس مستحيلًا، فقد شجع عليه اليوم الاتحاد الأوروبى ودول العالم المتقدم.
أما عن مبدأ «من المهد إلى المهد» فهو فكر جديد وضعه باحثان، هما وليم ماكدونو، مصمم معمارى أمريكى، والآخر مايكل برونجارت، أستاذ كيمياء ألمانى، كان لى شرف الحديث معهما «أون لاين» للحصول على حقوق الملكية الفكرية لترجمة كتابهما المهم جدًا، والذى نُشر عام 2002، والذى انتهيت من ترجمته إلى العربية، تحت عنوان «من المهد إلى المهد. إعادة صياغة الطريقة التى نصنع بها الأشياء»، وفيه يدعوان إلى فلسفة صناعية- بيئية جديدة، يحددان أطر ملامحها العامة القائمة أساسًا على تطوير أنماط التصنيع وإدارة منتجاتها.
هنا يمكننا أن نعتبر وبكل راحة ضمير أن كل منتج وسلعة تخرج من مصانعنا اليوم هي موجَّهة فى نهاية المطاف نحو مواقع النفايات. المستهلك ليس هو خاتمة السلسلة الإنتاجية التى تبدأ من المادة الخام مرورًا بالمصنع فالمتجر فالمشتري. هذا المشتري ليس سوى محطة (ترانزيت) مؤقتة للسلعة، التى ستواصل مشوارها فى نهاية المطاف نحو سلة المهملات. يستمد هذا الفكر الجديد الذى يتبناه الباحثان «التصميم من المهد إلى المهد» الإلهام من الطبيعة- حيث لا يوجد ما يُسمّى «نفايات» لأنّ النفايات تساوي الغذاء. لقد تمّت صياغة هذا المصطلح فى أواخر السبعينيات «تصحيحًا» لتعبير منتشر فى العالم، وهو «من المهد إلى اللحد»- بحسب أن دورة حياة المنتجات ليست دوريّة حقًا لأنّها مع نهاية استخدامها، تصل إلى مواقع النفايات بعيدًا عن العين والأنف، فتعبير «من المهد إلى اللحد» ليس بالضرورة نتيجة حتميّة للاستهلاك وللنشاط الاقتصادى، ولكن يمكن النظر إليه على أنه مشكلة أساسية فى التصميم والتخطيط؛ فمن شأن التخطيط السليم بموجب قوانين الطبيعة أن يجعل من أضرار الإنتاج والاستهلاك قوة حياتية؛ لأنه يهدف إلى الحفاظ على دورات العمل التقنية والبيولوجية التى لها تأثير إيجابى على صحة الإنسان والبيئة، فبناء نظم اقتصادية تستخدم مواد أمينة، صحيّة ومُغذية، أو موادّ قابلة للتدوير دائمًا، يمكنها أن تُثرى مختلف أشكال الحياة على الأرض.
لم يعد الاقتصاد الدائرى اليوم خيارًا، بل هو ضرورة حتمية، فى ظل تزايد النمو السكانى فى العالم وعدم محدودية نمو الموارد، ولقد ثبت علميًا وعمليًا أن نماذج الأعمال التى تنتهجها تُعد ناجحة ومربحة أكثر مقارنة بالنماذج الخطية، إذا أخذنا بعين الاعتبار التكاليف الخفية للمنتجات، كما أنها ستحفز الابتكار والتصنيع الصديق للبيئة وترشيد الاستهلاك وإعادة التدوير، وإصلاح السلع القديمة وصيانة المبانى والجسور وغيرها من منشآت البنية التحتية مثلما سيؤدى إلى المحافظة على رأس المال الطبيعى، ويخفض تكاليف الإنشاء والتطوير والاستثمار، ويساعد على الابتكار فى مجالات الاستدامة والحفاظ على الموارد.
أما عن كتاب اليوم:
فهو يتحدث عن سلاسل التوريد الاقتصادية الدائرية: من السلاسل إلى الأنظمة..! وشارك فى إعداده نخبة من أساتذة وخبراء الاقتصاد والبيئة ويغطي جميع أدوار المحاكاة الحيوية الأربعة: المنتجين والمستهلكين وجامعي القمامة والمحللين، ويقدم رؤى إضافية مثل البنية التحتية للمعلومات، لربط أنماط الاستخدام الخطي في سلاسل التوريد الحالية نحو الأنظمة الدائرية. في عالم الأعمال، يمكن تمثيل الناشطين من خلال شركات الخدمات اللوجستية العكسية وتجار التجزئة الذين يكدسون / ينقذون، والمحللات التي يمثلها القائمون على إعادة التدوير وشركات معالجة النفايات. على عكس النظم البيئية الطبيعية، تتميز النظم الاقتصادية الحالية بوفرة المنتجين والمستهلكين في نمط الاستخدام الخطي. بالنظر إلى التعميم باستخدام عدسة المحاكاة الحيوية في النظم البيئية الطبيعية، هناك توازن بين المنتجين والمستهلكين وجامعي القمامة والمحللين (بابيت، جاوستاد، فيشر، تشين، وليو، 2018 ؛ جينج وكوت، 2002). غالبًا ما تفتقر المنشورات الحالية عند تقاطع الاقتصاد الدائري وبحوث إدارة سلسلة التوريد إلى منظور منهجي.
جاء الكتاب فى سبعة أجزاء وتسعة عشر فصلا بدأت بمقدمة مهمة تتحدث عن متطلبات الاقتصاد الدائري: بعنوان "جانب من سلاسل التوريد إلى أنظمة القيمة..!" وشملت تلك المقدمة حديثا عن التعايش الصناعي: شبكات التوريد الجديدة للاقتصاد الدائري، وتدفقات المعلومات، والتكيف والظهور في أنظمة التوريد الدائرية. والجزء الثاني جاء بعنوان "دور الإنتاج" وتضمن كيفية تشكيل الانتقال من الخطي إلى الدائري فى سلاسل التوريد وأعطى نماذج عن الاقتصادات الدائرية ونهج الشبكة لتعزيز التعميم والإبداع المشترك للقيمة من وجهة نظر المنتج. والجزء الثالث جاء بعنوان: "دور وأنواع اللوجستيات (العكسية)"، والفاعلون الرئيسيون فيها هم جامعو القمامة والفضلات وعن تأثيرات مواقع إعادة التدوير على الحلقة المغلقة في أداء سلسلة التوريد، ونظرية أصحاب المصلحة وسلاسل التوريد في الاقتصاد الدائري التى يمثلها المستهلكون. وركز الجزء الرابع على دور "المستهلكين" للمستخدم النهائي في تشكيل التعميم لادارة سلسلة الإمدادات بعنوانين: "من نهاية الطريق إلى العقدة الحرجة"، و"تمكين الاقتصاد الدائري". أما الجزء الخامس من الكتاب فقد تحدث عن دور المعلومات والتدفقات المالية من خلال استخدام تقنية البلوكتشين والمراجعة التحليلية لنماذج سلاسل التوريد الدائرية. وفى الجزء السادس تم التطرق إلى دور صناع السياسات، والمنظمات غير الحكومية و محددات الاقتصاد الدائري والمستدام و الحواجز التنظيمية. وينتهى الكتاب بجزء سابع يتحدث عن الدروس المستفادة في الانتقال إلى اقتصاد دائري وجاء فى 5 فصول غطت مجالات تطبيق الاقتصاد الدائري في قطاع الأغذية الزراعية، ومزرعة فطر حضرية، والسياحة الدائرية، والمشتريات العامة الدائرية من خلال دراسة حالة لإنتاج ملابس العمل وخدمات الغسيل مع إعطاء أمثلة على الاقتصاد الدائري المبتكر ونماذج الأعمال من صناعة الملابس والمنسوجات ودراسة حالة حول عقبات الاستدامة والأزياء الدائرية في البرازيل.
هذا ويتبنى الكتاب منظور الاقتصاد الدائري كمفهوم منهجي من المهد إلى المهد مفاده أن كل شيء مصمم لإعادة استخدامه لأطول فترة ممكنة، ثم يتم استعادته وإعادة توجيهه عندما تصبح إعادة الاستخدام غير ممكنة. يتطلب التصميم لنظام اقتصادي دائري وجهة نظر شاملة ومتكاملة، تغطي جميع جوانب التصميم والتطوير مع مراعاة العديد من الجهات الفاعلة في سلسلة التوريد، بما يتجاوز بكثير سلاسل التوريد التقليدية. كما يتبنى الكتاب نظرة حول المحاكاة الحيوية، مما يسلط الضوء على الحاجة إلى التدفقات عبر الصناعة والحاجة إلى جهات فاعلة مختلفة (بخلاف المنتجين والمستهلكين) في دورات القيمة الدائرية. وأيضا تم مناقشة عوامل التمكين مثل الحوافز والتشريعات.
وبينما توفر المحاكاة الحيوية هيكلًا لتنظيم هذا الكتاب، فإن الفصول الفردية تُبنى على عدسات ومفاهيم نظرية أخرى، مثل نظرية أصحاب المصلحة، وما إلى ذلك. والهدف من ذلك هو تجاوز وجهة نظر ثنائية (المشتري - المورد)، مع تبني رؤية شاملة للشبكة أو النظام البيئي، للنظر في منظور نظام عبر الصناعة، حيث يوجد تنوع من الجهات الفاعلة (التي تغطي أربع مجموعات هي: المنتجون والمستهلكون وجامعو القمامة والمحللون) اللازمة لنظام بيئي عامل. يقدم هذا الكتاب نظرة عامة شاملة على مكونات النظام والجهات الفاعلة، بما في ذلك كيفية إضافة الاقتصاد الدائري للقيمة، ودور المنتجين والمستهلكين، وطيف إمكانيات الاسترداد لإعادة المنتجات إلى سلسلة التوريد الاستهلاكية، والدور الأساسي لإدارة المعلومات .
بينما تقول معظم الشركات الأمريكية إنها تخطط للانتقال إلى اقتصاد دائري كما ذكر بيتيرز (Peters، 2019)، فإن هذا التحول يمثل تحديًا لعدة أسباب بما في ذلك المنتجات التي يصعب تفكيكها (Soufani & Loch، 2021). فالاقتصاد الدائري يعتمد على المبادئ الأساسية لتصميم النفايات والتلوث، والحفاظ على المنتجات والمواد قيد الاستخدام، وتجديد النظم الطبيعية (MacArthur Foundation، 2019). كما أن الاقتصاد الدائري هو وسيلة مستدامة ومرنة للنمو دون استنفاد المواد الأولية، بناءً على طول عمر المنتجات والخدمة (إسبوزيتو، تسي، وسوفاني، 2017). ويتم تقليل النفايات عن طريق إعادة التدوير وإعادة الاستخدام في الحلقة المغلقة، والمعروف أيضًا باسم نموذج "من المهد إلى المهد" (McDonough & Braungart، 2010). وهذا يتجاوز إعادة التدوير، والانتقال إلى طريقة جديدة للتفكير في النمو دون زيادة استهلاك الموارد بشكل كبير (إسبوزيتو وآخرون، 2017 ؛ المفوضية الأوروبية، 2018). إن الاستخدام النشط والفعال للموارد المحدودة يؤدي إلى تحسين الاستدامة ويتيح المزيد من خلق القيمة (De Angelis، Howard، & Miemczyk، 2018).
وفي التوجهات العالمية للمستقبل، فقد أنشأ الاتحاد الأوروبي فى عام 2017 منصة دعم لتمويل الاقتصاد الدائري توضح الاحتمالات المختلفة لتمويل مشاريع الاقتصاد الدائري حتى عام 2027 (المفوضية الأوروبية، 2021). حيث تم توجيه حوالي 9.6 مليار يورو لمشاريع الاقتصاد الدائري (المفوضية الأوروبية، 2019). وتشير التقديرات إلى أن هناك حاجة إلى ما مجموعه حوالي 320 مليار يورو من الآن وحتى عام 2025 لتنفيذ المشاريع التي تضع الاقتصاد الأوروبي على طريق التحول من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري (MacArthur Foundation، 2017). ففي الاقتصاد الدائري، تتحول ملكية المنتج إلى شراء خدمة، ويتحول النموذج المالي إلى التأجير بدلاً من الملكية (De Angelis et al.، 2018) مما يتيح لوجستيات عكسية فعالة وإعادة التصنيع (إسبوزيتو وآخرون، 2017). هذه الخصائص تجعل التعاون ضمن حدود الإطار الدائري مهمًّا (De Angelis et al.، 2018). على الرغم من أن التأجير والوصول يشيران في المقام الأول إلى المنتجات غير البيولوجية (مثل السجاد أو الأجهزة الإلكترونية)، فمن المهم ملاحظة أن كل التدفقات - للمواد التقنية والكتلة البيولوجية - جزء من مفهوم "من المهد إلى المهد" (McDonough & Braungart، 2010 ) وكذلك في نطاق هذا الكتاب.
يقترح باحثو البيئة الصناعية أنه يمكن تصميم شبكات الصناعات على غرار الشبكات الغذائية للوصول إلى حالة مستدامة وفعالة (على سبيل المثال، Frosch، 1992 ؛ Frosch & Gallopoulos، 1989)، مما يتيح تكون "الحلقات المغلقة" (Korhonen، 2001 أ، 2001 ب).
إلا أن البحث الحالي يفتقر إلى المنظور الأوسع الضروري للتحقيق في نظام القيم الدائري. تعتبر النظرة الشاملة على هؤلاء الفاعلين ضرورية لتحقيق إدارة متكاملة لتدفقات المواد والمعلومات كعمود فقري مركزي لتحقيق اقتصاد دائري بدورات قيمة دائرية (Tate، Bals، Bals، & Foerstl، 2019). وتسلط عدسة المحاكاة الحيوية الضوء على الحاجة إلى مثل هذه التدفقات عبر الصناعة وإلى جهات فاعلة إضافية (بخلاف المنتجين والمستهلكين) في دورات القيمة الدائرية (Tate et al.، 2019). ويمكن تمكين تلك التدفقات عبر الصناعات، على سبيل المثال، من خلال قاعدة بيانات المواد التي تسمح بتتبع المواد على مدار دورة حياتها بالكامل، مع إنشاء سوق حيث يمكن للشركات عبر الصناعات أن تكون مصدر مدخلاتها. في هذا الكتاب وبشكل أعم، العوامل التمكينية مثل الحوافز والتشريعات ذات أهمية أيضًا.
لقد كان الهدف من هذا الكتاب هو جذب الأفكار المقدمة في جميع أجزائه، لتحقيق نظرة عامة شاملة وتغطية واسعة للجهات الفاعلة والشروط المسبقة للاقتصاد الدائري. فلم يكن من الضروري أن تركز الفصول على التقليد الحيوي ؛ إذ اعتبرت علاقة الفصول بمجموعة الجهات الفاعلة المعنية (المنتجون، إلخ) أو البنية التحتية للمعلومات المطلوبة في سياق اقتصاد دائري كافية. وهنا تكمن الأصالة والجدة في الجمع بين هذه الأفكار في الوقت المناسب في إطار منهجي مستوحى من الطبيعة.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: سلاسل التوريد الاقتصادية الدائرية: من السلاسل إلى الأنظمة
تحرير : ليديا بالس، ويندي ل. تيت وليزا م. إلرام
الناشر: Emerald Publishing Limited شركة اميرالد المحدودة للنشر
سنة النشر: 2022
