جوليا كريست
محمد الشيخ
يحكى عن سيدة سياسية فرنسية تدعى السيدة مانون أدانتها محاكم الثورة الفرنسية بتهمة التآمر على الثورة وحكم عليها بالإعدام ونفذ الحكم يوم 8 نوفمبر 1793 أنها أدارت وجهها وهي بحضرة المقصلة نحو تمثال الحرية المنصوب بساحة الثورة وخاطبته قائلة: "أيتها الحرية، كم من الجرائم ارتكبت باسمك!". فكذلك يخاطب اليوم خصوم مبدأ "الكونية" الذي تولدت عنه أهم مبادئ الحداثة ـ من عقلانية وحرية وكرامة وسائر حقوق الإنسان ـ هذا المبدأ قائلين: "أيها الكوني، كم من الجرائم ارتكبت باسمك!". لكن حينها ترد الفيلسوفة المعاصرة جوليا كريست بأن تقول: "مهلا عليكم، ما كل ما مورس باسم الكونية احترم مبدأ الكونية الحق، وإنما الكونية مفترى عليها بهذا الشأن!"
وصاحبة الكتاب فيلسوفة مكلفة بالبحث في المعهد القومي للبحث العلمي بباريس. تمرست على الفلسفة الاجتماعية وهي آنذاك أستاذة مساعدة للفيلسوف الألماني ذائع الصيت محيي الفلسفة الاجتماعية وصاحب نظرية الاعتراف ـ أكسيل هونيث ـ في كرسي الفلسفة الاجتماعية بجامعة جوته بفرانكفورت بألمانيا. وبعد إنجازها أطروحة عن التعالق بين الفلسفة وعلم الاجتماع ـ وهو التعالق الذي لا يزال أثره باديا في هذا الكتاب حيث لا تجد الباحثة حرجا في المزاوجة أثناء النظر في التفكير الكوني بين آراء فلاسفة زماننا هذا وعلماء اجتماعه ـ في فكر الفيلسوف الألماني أدورنو وآثار المعرفة الاجتماعية على مفهوم "النقد"؛ ثم واصلت بحثها بالتنقيب في الأصول الدينية للنقد الحديث الدنيوي المسعى ولا تزال تفعل.
ومن أهم الأعمال التي أشرفت عليها أو ساهمت فيها أو أصدرتها بمفردها: كتابها المفرد عن الفلسفة الاجتماعية عند أدورنو (2017)، وكتابها المشترك مع أكسل هونيث:"الطبيعة الثانية: أعمال مؤتمر هيجل المقام بشتوتغارت" (1917)، والكتاب الجماعي: "مناقشة النظرية الاجتماعية. مطارحات مع أكسيل هونيث" (2019)؛ وأخيرا كتاب: "نسيان الكوني. هيجل ناقدا لليبرالية" (2021). وها هي إذن تتناول اليوم، بالاستناد إلى هيجل وإلى الفكر الاجتماعي (إميل دوركهايم، مارسيل ماوس، روبير هرتز، نوربرت إلياس)، المفهوم الأساسي في الفكر النقدي الحديث؛ أي مفهوم "الكوني" ـ المشترك بين بني البشر أو ما يفترض فيه أنه كذلك ـ لكي تُظهر أن هذا المفهوم تبقى تشوبه عوالق مسيحية، رغم نزعة الحداثة الدنيوية المعارضة في الظاهر لكل نزعة لاهوتية مسيحية، كما تكشف من جهة أخرى أن النقد المعاصر لهذا المفهوم يبقى بدوره، في صميم عمقه، رهين تصور ليبرالي ـ مسيحي.
في مستفتح كتابها، تعلن جوليا كريست أن كتابها هذا إنما يجد منطلقا له من واقعة معيشة معينة: ذلك أن "الكوني"، الذي كان يشكل عنوان مجد الغرب لعقود خلت، إنما بات اليوم محل أنواع من النقد كثيرة تبدي، إِنْ ضمنا أو علنا، نزعة إلى السيطرة. والأنكى من ذلك، أن الذين لا يزالون يدافعون عن الكونية لا يحسنون الدفاع عنها، ولا عن توابعها ـ الدنونة، العقلنة، الحرية ـ وإنما يدافعون عنها إما بدفاع يثير السخرية أو يمتح من العقدية المقيتة. وبالمثل، الذين يهاجمون الكونية إنما يبالغون حد اللعب مع الخطر. ثم ثمة الذين هم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فلا يختارون معسكر هؤلاء ولا معسكر أولئك، وإنما يذهبون إلى أن النقاش بين "أنصار الكونية" و"نقاد الكونية" نقاش زائف تخوض فيه نخبة مثقفة انطلاقا من برجها العاجي؛ أي هؤلاء المذبذبون، لا ينتبهون إلى الآثار السياسية الفعلية لهذا النقاش على تنظيم العيش المشترك.
ويتمثل مسعى صاحبة الكتاب في تصحيح المفاهيم أولا، وذلك بناء على سؤال أساس: فيم يختلف القوم؟ إن قلنا في "الشأن الكوني"، فإن المؤلفة تدعونا إلى التنبه إلى حدس أساسي تدير عليه الكتاب برمته: إنما هذا "الكوني" الذي يُحارب وذاك "الكوني" الذي يُدافع عنه ما كان هو هو؛ أو هو "كوني خصوصي بالأحرى" إن ساغ هذا التعبير الذي في باديه يحمل تناقضا في الحدود وفي خفيّه لا. هو شأن ظاهره كوني، وباطنه خصوصي. وبالتالي؛ فإن ذلك الذي يهاجم "الكوني" إنما يهاجم "شأنا خصوصيا" خُيِّل إليه أنه "كوني" ـ هو الشأن الليبرالي القائم ـ وهذا الذي يدافع عن "الكوني" إنما يتخذ "الخصوصي" ـ الليبرالي ـ على أنه هو "الكوني" عينه. وإنما الكوني الحق ـ الذي تؤمن به المؤلفة ـ شأن آخر، هو شأن منسي من لدن هؤلاء وأولئك؛ إذ من شأن الكوني أن يكون "ماكرا"؛ فهو يمكر بمن يدافع عنه وبمن يهاجمه معا. هي ذي الفرضية التي مدار الكتاب عليها.
ولكي تبرهن جوليا كريست على صدق حدسها هذا ـ الذي جعلته في بادئة الكتاب ـ فإنِّه لَئِنْ كان قد رُفع الشعار مع الفيلسوف السياسي الأمريكي المعاصر جيسون برينان حين نقده للديمقراطية المعاصرة ـ "فلنعد إلى أفلاطون!" ـ نسترشد به في تولية الأمور إلى "أهل الدراية" لا إلى "أهل الولاية"، فإن جوليا كريست في نقدها للكوني الزائف ولنقاده سواء بسواء ترفع الشعار ـ "فلنؤب إلى هيجل !" ـ تسترشد به في تحقيق معقول مقولة "الكوني" من مرذولها. لكن أي وجه من وجوه هيجل تعود إليه؟ إنه ذاك الوجه الذي يكاد يكون نسيا منسيا من فكر هيجل الاجتماعي: وجه هيجل الناقد لليبرالية.
ذلك أنه تعددت الانتقادات الموجهة إلى "الكوني" سواء باسم "خصوصية معتدلة" أو باسم "خصوصية جذرية"، ولكنّ النزعتين سواء أجمعتا على أنه باسم مبدأ "الكونية" تمت السيطرة السياسية والاجتماعية على من يفترض أنهم شركاء لا فرقاء في الكونية، على أن هاتين النزعتين ـ وهذا صلب نقد المؤلفة لنقاد الكونية ـ إنما انتقدتا، من حيث تعلمان أو لا تعلمان، "الكوني" باسم "الفردي"؛ ومن ثمة سقطتا هما من حيث لا تعلمان في ما كانتا تحاربانه: التصور الليبرالي والمسيحي للفرد. ومن هنا تتساءل المؤلفة: هل من المستحيل حقا نقد "الكوني" المسيطر من دون تبني التصور المسيحي أو التفكير في المجتمع انطلاقا من الطراز الفردي الليبرالي؟ أم أن ثمة إمكانا للجوء إلى تصور آخر للكوني بغاية نقد هذا "الكوني" المسيطر والذي هو في الحقيقة "خصوصي" تَقَنَّعَ وتدثر فكان أن صيّر نفسه كونيا وما هو بكوني بل شُبِّه لأصحابه؟
هي ذي البغية من هذا الكتاب: إنقاذ الكوني، لا محبة في الكوني نفسه، أو محبة في الفلسفة التي لا يمكنها أن تستغني عن هذا المفهوم، وإنما لأن النقد المعاصر للكوني قد بات في مأزق منذ سنين.
ولكي لا يبقى كلام جوليا كريست كلاما مجردا أو مجرد كلام لجأت إلى تعيينه بمثال جوهري: العدالة من حيث هي مفهوم "كوني"؛ أي ما يتفق عليه سائر البشر ويطمحون إلى تحقيقه، حتى وإن اختلفوا في مضمونه. ذلك أنه ما دام البشر ينزعون هذا المنزع، فإن هذا الأمر يشهد بإمكان قيام "الكوني"، في صورته السياسية العينية هذه؛ أي ذاك "القانون المشترك" الذي يعكس صلة بين الأفراد لا تكون صلة سيطرة وإخضاع واستتباع؛ وذلك على خلاف بعض مذاهب الغرب في العدالة. وهنا تعود المؤلفة إلى هيجل.
وقد كان هيجل ـ باعتباره أول مُنَظِّرٍ للحداثة وناقد لها في الآن نفسه ـ قد نبه على بعض مشاكل الحداثة المتعلقة بمسألة "الكوني" والليبرالية هذه. أولها؛ مشكلة الفقر. ذلك أن تطور المجتمع المدني ـ القائم على تدافع الأنانيات الخاصة وتمانعها وليس على كونية مصلحة الفرد والجماعة معا؛ ومن ثمة نقد هيجل للمجتمع المدني بوفق هذا المعنى الذي يعطيه له، ونقده بالتالي لليبرالية التي تقوم عليه ـ إنما تولدت عنه ظاهرة "تفقير" فئات عريضة من الناس؛ وقد انكفأ بعض أثرياء المجتمع المدني على أنانياتهم وفردانياتهم القصية. ولذلك أنشأ هيجل يقول في كتابه عن فلسفة الحق: "أما السؤال العام حول كيفية يمكن التغلب على الفقر، فهو يمثل واحدة من أكثر المشكلات إزعاجا للمجتمع الحديث". وثانيها؛ مشكلة اعتماد دول ـ محسوبة على الحداثة ـ على مبادئ غير حداثة؛ من عسف وتسلط، بل وطغيان. إلا أن هيجل يرى أن هذه الحالات، التي يقر بأن الواقع يشهد على وقوعها، حالات "غير معقولة" حتى وإن كانت "واقعية"؛ وذلك تبعا لمبدأ هيجل القائل بأن ما كل واقعي معقول؛ فاليد الشلاء، مثلا، موجودة في الواقعة ـ واقعية ـ لكنها لا تؤدي وظيفتها ـ وبالتالي فهي غير معقولة. وثالثها؛ التعارض الموجود داخل الديمقراطية بين ما تتطلبه حكامة إيالة الدولة من عدم الاعتداد بالعدد (الاقتراع العام) ومن تعويل على أهل الدراية (الروية) وإن كانوا أقلية؛ مما قد يسفر عن لعبة عبثية تجعل الدولة رهينة العدد. وقد أعلن هيجل: "ههنا أصل الخلاف وموطن الصدام. هنا المشكلة التي بلغها تطور التاريخ والتي عليه أن يحلها في ما يستقبل من الزمان". فكان هيجل بهذا ناقدا لليبرالية أتى قبل أوانه؛ وبالتالي ناقدا للمفهوم الفاسد للكوني من حيث هو الفردي المنكفئ على أنانيته المعادي لما هو اجتماعي؛ أي لما هو "جوهري" أو "روحي" بوفق لغة هيجل.
والذي تكتشفه المؤلفة لدى هيجل أنه كان مدركا تمام الإدراك للمخاطر المتولدة عن تصور مشوَّه للكوني، نابع من تمثل معيب للفرد باعتباره الفرد الحر، والذي يمكنه بعد تحقيقه حلم الفردية أن ينصب نفسه المشرع الوحيد دون سواه؛ وذلك عندما يدفعه نازعه نحو "الكوني" ـ يقول لسانه: "أنا الكوني" بينما هذا على التحقيق مبدأ "الأنانة"؛ أي قولي: أنا أنا، على نحو ما نجده عند من سماهم هيجل أصحاب مذهب الذاتية المتطرف (كانط، فيشته، اليعقوبي ....) ـ إلى أن يغفل عن وساطة الأغيار. والحال أن هذا الفرد نفسه ليس يكون فردا حقا اللهم إلا وسط أفراد. فإِنْ هو استتبعهم أو هو استلحقهم ما عادوا هم أفرادا، وإنما باتوا إِمَّعة (يكونون دائما "مع"، فلا يستقلون برأي) وإِمَّرة (دائما يكونون تحت "إمرة" غيرهم يأتمرون به). هو ذا درس هيجل.
ولَئِنْ نحن أفدنا من هذا الدرس، في نقد "الكوني" (المتشابه) باسم "الكوني" نفسه (المحكم)، فإننا نصير آنها مقتدرين على نقد "الكوني" الزائف الذي تدعو إليه بعض النزعات الليبرالية المتطرفة التي تحلل دواعي الفاعلين الاجتماعيين وفق اصطلاحات المصالح الفردية الأنانية؛ علما أن "الفردية" ما كانت هي "الأنانية". وإذ يفترض حامل لواء أدلجة الليبرالية هذا التصور المعوز للكوني، فإنه يفترض أن ما يؤسس الحداثة إنما هو الفرد الحر بحرية "طبيعية"، ثم بعد ذلك وبعده فقط يمسي هو كائنا اجتماعيا وتستحيل حريته حرية اجتماعية.
أما الذي عند هيجل، فهو أن من شأن أفراد عهد الحداثة، كما ينشؤون ويعاد إنشاؤوهم عن طريق التعالق المتزايد بين الأفراد، أن يكونوا لا مصالح لهم، بالمعنى الضيق الخاص، وإنما هم يملكون قناعات متبادلة خاصة بخير الجماعة وبخير الفرد. وهنا ترى مؤلفة الكتاب أنه إذا ما نحن عاينا نقاشات اليوم الدائرة على هذا الأمر، فإننا لا بد أن نترحم على هيجل لعمق تحليله؛ إذ نادرون هم من يسوّغون رغبتهم في تغيير قواعد سير المجتمع بمسوغ المصالح الشخصية. وكلهم يتحدثون من حيث يعون أو لا يعون عن عدالة مشتركة؛ أي عن عدالة كونية. هو ذا الكوني الحق.
تختم المؤلفة جوليا كريست مؤلفها بما بدأته به: تذكيرنا أن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ما كان مخطئًا حين نبهنا إلى مكر هيجل بنا؛ ذلك أن ما من محاولة للانفلات من قبضة هيجل إلا ويخشى منها أن تكون مجرد خديعة يخفي نفسه بها عنا لكي نجده ينتظرنا في المنعطف قائما هناك منتصب القامة ينتظرنا، وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى "الكوني" و"الكونية".
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: نسيان الكوني: هيجل ناقدا لليبرالية
اسم المؤلفة: جوليا كريست
دار النشر: بيف
سنة النشر: 2021
لغة النشر: الفرنسية
