مِشْيَةُ الإمبراطورية 

مشية الامبراطورية (3).jpg

دميتري فاسيليف

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

*أكاديمية ومستعربة روسية 

يمثل هذا الكتاب مقدمة شاملة وعميقة  للسياسة والدبلوماسية وتاريخ العمل العسكري والإدارة والتشريع الروسي في آسيا الوسطى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما يسلط الضوء على العديد من الجوانب الحضارية، ليس فقط للشعوب الشرقية الأصلية في هذه المنطقة، بل ولروسيا نفسها ونهجها الثقافي الذي لا يزال فاعلا، إلى جانب أساليبها في استيعاب محيطها والخصوصية التي تشكل مشروع "الأمة الروسية الكبيرة".

يؤكد المؤلف على أهمية الشرق بمعناه الواسع لروسيا، وبأن توسع روسيا شرقا هو درة تاج الإمبراطورية الروسية. ومنذ بداية بحثه الذي يربو على ستمائة صفحة، يكشف لنا المؤلف فكرته المحورية: "حين أتخيل الإمبراطورية الروسية يبزغ أمام عيني نوع من الخريطة التفاعلية لروسيا، فتومض في المقدمة المناطق التي غدت جزءًا منها في أوقات مختلفة، بعدها فقط ألحَظُ سانت بطرسبرغ الرائعة وموسكو القابضة على زمام السلطة الإمبراطورية. تندفع هذه الومضات، الكبيرة منها والصغيرة، إلى الشرق، وجزئيًّا فقط إلى الجنوب، بينما لا تبرق إلا قليلاً في مناطق منفردة صغيرة في الغرب (...) تسير الإمبراطورية إلى الشرق، تماما كما لو أن سدا يصدها عن المضي غربا. الأمر كذلك فعلا؛ فمنذ البدء، أخذ أمراء موسكو تقاليد السلطة من الشرق، من خانات القبيلة الذهبية (المغول) وتبنوا أساليبها في إدارة الدولة. وقد سمح لهم هذا التقليد بلمّ شمل الأراضي من حولهم. ويبدو أن التفاعل الوثيق مع الخانية الشرقية قد نقل إلى الروس فكرة الشمولية، مما دفعهم نحو شرقٍ مألوفٍ ومفهوم لهم، ليس شرطا أن يكون مندمجا حضاريا، ولكن مع رغبة في إفادة الشعوب المحلية بدمجهم في دولة مركزية قوية، مشعة روحيا، ولا تقهر" (ص: 3).

 

يقدم العمل صورة بانورامية لتواجد الإمبراطورية الروسية في آسيا الوسطى، محددا طبيعة الكتاب متعددة الأوجه. نبدأ مع مراجعة لأنشطة الهيئة المسماة "اللجنة الآسيوية" التي أنشئت في الربع الأول من القرن التاسع عشر، وهي هيئة تتبع وزارة الخارجية وتربط بين مختلف الإدارات لتطوير المسار السياسي للإمبراطورية الروسية في آسيا الوسطى. ويفتح الفصل الثاني نافذة تاريخية واسعة على سهوب كازاخستان وتركستان وترانسكاسبيا (تركمانستان اليوم). بينما يختتم الكتاب فصوله بالتأثير الثقافي للحضارة الأوروبية (الروسية) على الحياة اليومية للسكان الأصليين في آسيا الوسطى.

يجيب المؤلف على أسئلة تتعلق بمفهوم الهينمة وذلك من خلال مقارنة تحليلية بين أراضي آسيا الوسطى المنضوية تحت الراية الإمبراطورية الروسية وبين ممتلكات ما وراء البحار لإمبراطورية استعمارية كلاسيكية مثل بريطانيا العظمى. يجد الباحث سمات مشتركة في النظام القضائي في كلا الإقليمين، من أهمها أن اللوائح القضائية المحلية للمستعمرات ظلت دون أي تغييرات كبيرة بعد تدخل كلتا الإمبراطوريتين، فاحتفظت السلطات الجديدة بالقانون الأصلي العرفي بما يتعلق بالقضايا الجنائية بين السكان المحليين، أما القضايا المدنية فكانت تنقل إلى المحاكم العاملة بالنماذج الأوروبية المنشأة حديثًا.

مع ذلك فالاختلافات بين الحالتين كثيرة ولافتة للنظر. يلاحظ المؤلف أن الهنود (مثلا) كانوا ينخرطون كثيرا في إدارة بريطانيا لمستعمرتها الآسيوية، في حين أن روسيا وظّفت مواطنيها كأساس في الجهاز الإداري الجديد في تركستان (على سبيل المثال) ما يشير، حسب رأيه، إلى أن الحكومة الروسية كانت تأمل في أن يصبح موظفوها دعاة ومرشدي المواطنة الإمبراطورية، وبأن يساهموا في نشر عادات وتقاليد النظام الإداري الجديد. يقول الكاتب: "كان البريطانيون مهتمين بالهند أساسا باعتبارها نقطة انطلاق اقتصادي. لقد كانت مجرد وسيلة لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية محددة، وبالتالي كانت المهمة الرئيسية للإدارة الاستعمارية الحفاظ على أراضي ما وراء البحار وإلزامها بيت الطاعة. بالتالي يبدو منطقيا تمامًا إشراك السكان المحليين بنشاط ٍفي الهيكل الإداري، الذي تم تصميمه للتخفيف من الاضطهاد الاستعماري من جهة، ومن جهة أخرى، لتوفير الإنفاق العام" (ص: 360-361).

 

ليس من الغريب أن تكون نتائج العمل التبشيري في الهند وتركستان ضئيلة على نحو متساوٍ تقريبًا. حول هذه المسألة، يشير الكاتب إلى أن روسيا أحجمت عن القيام بنشاط تبشيري، مفضلةً تكتيكات "تجاهل" المسلمين في القضية الدينية، في حين دعمت بريطانيا العظمى رسميًّا المدارس الهندوسية والإسلامية ولم تعارض أنشطة المبشرين المسيحيين.

عند الخوض في تحليل أسباب هذه المقاربات المتباينة بين روسيا وبريطانيا تجاه أراضيهما الجديدة، يؤكد   المؤلف انتفاء القاعدة التي قد يمكن أن تجمع بينهما، مفسرا موقفه بالطبيعة الاقتصادية المختلفة ما بين بريطانيا العظمى وروسيا. فإن كان من الصواب تسمية الأولى بلدا رأسماليا مكتملا، يقف في الطور النهائي لتشكل الإمبريالية الاستعمارية، فإن الثانية قد أنجزت شبكة علاقاتها الرأسمالية لتوها فقط. لم يحدد هذا خصائص النظم الاقتصادية وحسب، بل ووضع نهجًا مختلفًا تجاه الأقاليم الخاضعة، الذي تسبب (بدوره) في اختلاف طرق وطبيعة ضمّ المناطق الجديدة؛ فإذا كان البريطانيون يقاتلون في الهند للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، فإنّ تمدد روسيا في آسيا الوسطى تمليه، في المقام الأول، أهداف السياسة الخارجية.

ثمة ملاحظة مثيرة للفضول ساقها المؤلف لهذا الموضوع تتمثل في اقتباس للشاعر والناشط السياسي الروسي فاسيلي فيايتشكو الذي عاش مطلع القرن العشرين وعاصر الأحداث في المستعمرات الأوروبية جنبا إلى جنب مع التوسّع الروسي في آسيا الوسطى. يؤكد الشاعر على اختلاف جوهري بين هاتين الظاهرتين بحجة أن "السمة الغالبة للاستعمار هي الرغبة في مضاعفة المداخيل، وبالتالي فإن الخصائص المحلية  لا تخضع لتغيير جاد، لدرجة إبقاء الحكام الأصليين في أماكنهم شريطة تنفيذ الأوامر. الأمر مختلف لدينا، فغزواتنا، وهي امتداد لحدود الإمبراطورية، تنحو للتقارب الثقافي مع المناطق المضمومة وربطها بالمركز القيادي، وبالتالي تغدو الحكومة المركزية مصدرا وحيدا للسلطة، بحيث لا يُسمح للزعماء المحليين بإنشاء أية علاقات فرعية إلا بشكل مؤقت، وباعتبارها أثرا من الماضي المندثر"(ص: 364).

لم يترك المؤلف سياسة الإمبراطورية الروسية تجاه الإسلام بلا نظر. يثبت أن الدين الإسلامي في العقدين الأولين من الهيمنة الروسية في آسيا الوسطى لم يتعرض عملياً لأي اضطهاد، ناهيك عن أنه كان محميًّا من ادعاءات بعض الإداريين والعسكريين "القوميين" المتطرفين. يكتب معتمدا على وثائق إرشيفية: "في كانون الثاني من سنة 1868 صاغ كوفمان، وهو أول حاكم لمنطقة تركستان، وكان يتحدث إلى ممثلي رجال الدين المسلمين، المبدأ الأساسي لسياسته الدينية. يقوم هذا المبدأ على عدم تدخل الإدارة الروسية في الحياة الدينية للسكان المحليين مقابل إخلاص رجال الدين للحكومة الجديدة. هذه السياسة، التي عرّفها الحاكم نفسه بأنها "تجاهل للإسلام"، تجلت في الحد من انتشار الأرثوذكسية في المنطقة، والحفاظ على المؤسسات التعليمية المحلية، والانغماس الكبير من قبل الإدارة في بناء المساجد الجديدة، وتخصيص الأموال لحماية التراث الإسلامي المعماري على الأراضي المدارة، وترميم آثار الثقافة الإسلامية. ولكن، من ناحية أخرى، نفذت الحكومة الروسية في المنطقة علمنة لأراضي الأوقاف وحظرت رسمياً توصيات الأوقاف الجديدة، كما منعت إنشاء هيئة إفتاء مستقلة في تُرْكِستان حيث ظلت منضوية في هيئة إفتاء روسية داخلية" (ص: 350-351).

 

خُصص جزء كبير من الكتاب للتأثير الثقافي للحضارة الأوروبية (الروسية) على الآسيويين. لقد وقف الباحثون في الماضي إزاء هذا التأثير على طرفي نقيض، فهو محاط بنظرة إيجابية عند هذا الفريق، وسلبية عند فريق آخر؛ وغالبا ما يعود السبب إلى تباين معتقداتهم السياسية. اليوم يمكن معالجة هذه المسألة من زاوية موضوعية، وهو ما سعى الباحث لتحقيقه قدر المستطاع. فعند الحديث عن تثاقف الكازاخستانيين، يرفض المؤلف اعتبار العملية بمستوى واتجاه واحد. وبعكس النظرة الأحادية القائلة إن الروس قاموا بنشر مبادئ الحضارة الأوروبية في البيئة الكازاخستانية، يضيف إليها المؤلف قائلا: "هناك اتجاه ثان في تفاعل الروس الوثيق مع الكازاخيين وهو التأثير الذي تركته الثقافة البدوية على الروس. وعلى الرغم من أن هذا التأثير لم يكن عميقاً، إلا أنه حدث بفضل سحر البساطة وصدق الشخصية البدوية" (ص: 503).

تتضح جدية الدراسة من خلال المواد التي بحث فيها المؤلف، إذ لم تقتصر على الوثائق الحكومية، فأضاف إليها مذكرات رجال الدولة في أوائل القرن العشرين، وهي أعمال متعددة الأوجه، تجمع بين المواقف البيروقراطية والشخصية، متضمنة تقييمات وآراء أصحابها باعتبارهم موظفين مدنيين أو شخصيات تمتلك تصوراتها الخاصة. وتتميز المواد التي يستشهد بها الكاتب كثيرًا في الكتاب بامتلاكها بصمة قوية لفهم ممثلي الحضارة الأوروبية الجمعي عن الشرق، ويلاحظ أن هذه المواد كتبت بحبرٍ أوروبي - إن صحّ التعبير - وبأنها موّجهة لقارئ ينتمي إلى الحضارة الأوروبية، انتماء لا لبس فيه. إن هذا التصور الذي أخذ زخمه البحثي الأوسع بُعيد صدور كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، ترك بصمته ليس على موقف السلطات الإمبريالية تجاه الشرق وحسب، بل وكذلك على تشكيل السياسة الشرقية للإمبراطورية الروسية برمتها.

فلنأخذ الأمير فاسيلتشيكوف (مثلا) وهو يشير إلى الطابع الفريد لمدن تركستان على النحو التالي: "مدينة طشقند، مثل جميع مدن تركستان ذات الأهمية، تتكون من مدينتين - روسية وتقليدية، فالروس تركوا مدن الناس بلا مساس وبنوا مدنهم بجوارها. أما طشقند الروسية فتترك لدى المرء انطباعا أكثر إمتاعًا: شوارع واسعة تصطف الأشجار على جنباتها، وبمحاذاة هذه الأشجار، تجري قنوات الري، ما وفر الكثير من المساحات الخضراء. يوجد في الشوارع الرئيسية متاجر جيدة والعديد من الفنادق والمطاعم الصغيرة اللائقة. لقد كان بالإمكان اعتبارها مدينة روسية جنوبية جميلة، لولا السكان الأصليين الذين يرتدون أردية ملونة بينما نساؤهم في أردية أحادية اللون، معظمها سوداء، ولا يمكنك حتى رؤية عيونهن خلف شبكة كثيفة من شعر الخيل. وللمدينة الأصلية طابع مختلف، فهي كبيرة، يفوق عدد سكانها مائة ألف شخص. ومثل كل المدن في تركستان فهي كتلة مزدحمة من المنازل المنخفضة المبنية من الطوب واللبِن، مع جدران تحيط بالفناءات. الشوارع ضيقة للغاية بحيث يصعب مرور عربتين فيها. وبالقرب من ساحة السوق المركزي يُفتح في كل منزل متجر أو ورشة حرفية، حيث يتم إجراء جميع المهن أمام أعين المارة. يباع في بعضها كل أنواع المنتجات والفواكه المحلية، والبعض الآخر مليء بالسلع الروسية الرخيصة. هناك العديد من الأكشاك حيث يتم غلي الأطعمة المحلية وقليها على مرأى الناس، وهناك المقاهي المحلية، المكان المفضل للسكان الأصليين، يجلسون فيها لساعات طويلة على منصة عالية مفروشة بالسجاد ومجهزة بالوسائد ويشربون الشاي من أكواب بدون مقابض ويناقشون أخبار السوق" (ص: 606-607).

 

وبلغة شعرية يضع المؤلف تلخيصًا لسياسة بلاده في الشرق فيقول: "لقد تمددت الإمبراطورية الروسية شرقًا على مدى أزمنة طويلة، مقطوعة بفترات صمت تطول وتقصر، وكانت خطوات تقدمها متفاوتة. في فترة ما ترتعد الأرض من تحتها وترتعد معها المفاهيم، وفي فترة أخرى، تتجمد الخطوات أو تتربص لتنفيذ قفزة حاسمة أخرى".

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: مِشْيَةُ الإمبراطورية.

المؤلف: دميتري فاسيليف.

نيسور-إستوريا/سانت بطرسبورغ/2022

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 637                                                                                    

أخبار ذات صلة