سليمان بشير دياني
التجاني بولعوالي
أكاديمي في جامعة لوفان في بلجيكا
عندما تتأتى الإمكانات للعقول الحرة لأن تبحث عن الحرية بشكل لا مُتحيّز تتطور الفلسفة. والإسلام ليس استثناء في هذا الصدد؛ فقد سبق تاريخيا لمفكرين مثل ابن سينا وابن رشد والغزالي أن اشتغلوا بالمسائل الفلسفية. وقد كشفت أعمالهم عن أن الإسلام يتميز بمستوى عالٍ من الانفتاح، ويحضر ذلك بشكل مستمر في التراث العلمي والفلسفي الإسلامي. ولعل هذا جوهر المقاربة التي يقدمها الفيلسوف السينغالي الأصل، سليمان بشير دياني في كتابه "التفلسف في الإسلام"، حيث يتأمل انفتاح الإسلام على التحديات السياسية الراهنة والمستقبلية في عالمنا المعاصر، الذي تتزايد فيه الصراعات الإيديولوجية، وتمارس فيها المجموعات الكبرى هيمنتها القيمية والثقافية والسياسية، ولا سبيل إلى الخروج من ذلك إلا بالحوار العقلاني الذي يدعو إليه الكاتب بشدة من منطلقه الفلسفي.
وقد اقتضي الاشتغال بموضوع الفلسفة أو التفلسف في الإسلام أن يصوغ المؤلف مقدمة للفلسفة في العالم الإسلامي من خلال عدد من الموضوعات والشخصيات. وهذا يعني البحث عن العلاقة مع تراث غني من الدراسات في تاريخ الفلسفة الإسلامية، حيث يشكل "تاريخ الفلسفة الإسلامية" العنوان المركزي الذي تحمله العديد من الأعمال الاستقصائية الشهيرة.
وقد عمد سليمان بشير دياني إلى اختيار عيّنة دراسته من هذا التاريخ، أو بالأحرى اتخذ خياره هذا لتركيز الضوء على عدد من الموضوعات والأسئلة الإشكالية، وعلى المؤلفين الذين تعاملوا معها. وتتحدد هذه الأسئلة في: لماذا يحتاج الدين الإسلامي إلى الفلسفة؟ هل المنطق عالمي أم أن لكل لغة منطقها الخاص؟ ومن خضم هذا السؤال الأخير تتفرع أسئلة متنوعة: ما هي اللغة الفلسفية وكيف تصبح اللغة فلسفية؟ ماذا يعني تفسير قصة دينية فلسفيا؟ هل يمكن أن تتعايش العقيدة الدينية مع العقلانية الفلسفية؟ كيف يجب أن يُفهم موقف الإنسان ومسؤوليته تجاه الطبيعة؟ ما هي الفلسفة الإيكولوجية الموجودة في الإسلام؟ هل يتطلب الدين نوعا معينا من الدولة أم هل يستطيع المسلمون وينبغي لهم، في سياق الحداثة، التفكير في المؤسسات السياسية التي تسمح لهم بالعيش بحرية في مجتمعات مفتوحة وديمقراطية؟ وفي الأخير هل يحتوي الدين على إمكانية التعددية؟
النص القرآني والحثّ على التفلسف
يكفي أن نلقي نظرة على النص القرآني لندرك أن عددا من الآيات تهدف إلى استرعاء انتباه أولئك القادرين على التفكير. ثم إنه في غضون الخلافات السياسية المبكرة حول مسألة الخلافة بعد وفاة النبي محمد وحول من له الحق في التكلم باسم الله، كان لابد من التفكير في مثل هذه الأسئلة بطريقة فلسفية. لذلك يشدد الكاتب على أنه يجب أن نستمر في هذا التفكير في عصرنا الحالي وفي التعاطي مع مشاكلنا المعاصرة، أخذا بأن مسألة الحكم، أو بالأحرى من سوف يحكم بقيت مفتوحة ومن غير تعيين أو تقنين أثناء العهد النبوي. لذلك فالخلفاء الراشدون الأربعة انتخبوا وفق أربعة إجراءات مختلفة، فالأول عن طريق الإجماع الداخلي، والثاني بالتشاور بين الصحابة الكبار، والثالث من قبل "ناخبين" عينهم سلفه، وكاد الأخير أن يُجبر على قبول منصب الخليفة في أوقات العصيان والحرب الأهلية. ويمكن أن نستخلص من هذا أن المجتمعات المسلمة لها الحرية في تصميم دولها الخاصة وتعيين ممثليهم.
إن الفلسفة تقتضي إعمال العقل، ولن يتحقق ذلك إلا في ظل الحرية. ولعل هذا ما تطرحه قصة الخلق القرآنية، حيث ملّك الله الخالق الإنسان المخلوق كنزا لا يستطيع سوى أن يعبر عنه، وهو كنز الحرية. وإذا كان الخطاب القرآني يكشف عن أن الملائكة تخشى الفوضى والعنف "البشري"، فإنه ينطوي أيضا على حقيقة أنه مع الإنسان الأول، آدم (وحواء) تنشأ القدرة على قول لا، وفعل شيء آخر. وهذا يعني أن حرية الإنسان سبقت وأعلنت القدرة على التمرد، وهذا ما أدركه الشيطان، فكان رد فعله رفض أمر الله بالسجود لآدم.
ثم يستنبط دياني أن الدفاع عن أركان الإيمان بالعقل يعني إعادة بنائها وفقا للعقل، ومن ثم ممارسة العقلانية، على الأقل في نظر أولئك الذين يعتقدون أن الإخلاص لا يمكن إلا أن يكون تكرارا لشيء واحد. وظل الخوف من أن العقل سائدا في التفسير التقليدي، من أن العقل سيتخذ من نفسه هدفه الخاص، فيتحول إلى فن الجدل. وقد تم التعبير عن ذلك بشكل جميل في حكاية عن مؤسس أحد أكثر مذاهب الفقه تأثيرا وتوسعا في الإسلام، وهو أبو حنيفة الذي منع ابنه من الانخراط في النقاشات الكلامية، فاندهش الابن من موقف والده، الذي منعه من السير في اتجاه كان هو نفسه (أي الوالد) متفوقا فيه ويمارسه، وقد برر أبو حنيفة موقفه المعارض لخوض الجدل، بدعوى أنه عندما كانوا يناظرون، كانوا يلتزمون الصمت خوفا من أن يخطئ المحاور، لكنهم اليوم (وهو يقصد ابنه وجماعته) يناظرون وهم يتمنون أن يقع محاورهم في الزلل وينطق بالكفر، وكل من يرغب في ذلك يقع في الفخ نفسه.
بين فلسفية اللغة العربية وإسلامية الفلسفة
تاريخيا نجح العرب في ترجمة الفلسفة والعلوم اليونانية، وكان للخليفة المأمون دور ريادي في ذلك، لا سيما من خلال مؤسسة بيت الحكمة التي شكلت منارة أكاديمية حضنت مترجمين وفلاسفة من مختلف المشارب اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها. وقد أثارت ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وهي لغة سامية، أسئلة وصعوبات مختلفة عن ترجمتها إلى اللاتينية، وهي لغة هندو-أوروبية مثل اليونانية. لهذا السبب توصل المترجمون إلى مصطلحات جديدة، لكن كان عليهم أيضًا "التعسف" بين الحين والآخر في نقل أنماط التعبير المعتادة. ويؤكد الكاتب أن نقل الفلسفة اليونانية أسهم في الرقي باللغة العربية التي أصبحت بدورها لغة فلسفية، يكتب بها الفلاسفة المسلمون، كابن سينا ، والفارابي، والغزالي، وابن رشد، وابن طفيل وآخرين، وأيضا الفلاسفة اليهود مثل سعدية غاون وابن ميمون.
وما يلفت النظر أن الفلسفة عندما دخلت العالم العربي احتفظت باسمها اليوناني الغريب: الفلسفة، فتم تعريبها لا ترجمتها بمعادل معنوي عربي، وصار ممارس الفلسفة يدعى فيلسوف، ويجمع على فلاسفة. ويشير هذا بوضوح إلى أن الأمر يتعلق بمجال جديد يقع خارج مجال العلوم الإسلامية أو العلوم الدينية . ويقع علم اللاهوت العقلاني على حدود تلك المنطقة، بساق واحدة وأخرى في الخارج. تُرى هل يجب أن نتحدث إذن عن الفلسفة الإسلامية؟ أو بشكل أعم: هل يمكن اعتبار البحث الفلسفي مؤهلا دون تناقض باعتباره يونانيا أو هنديا أو مسيحيا أو إسلاميا؟
في مناقشته لهذا السؤال يؤكد دياني أن "أسلمة" الفلسفة تحدُث. وبمعنى آخر، فالتفكير اليوناني مستوعب، وهو ليس مترجما فحسب، بل مدمج بالفعل. ودليل ذلك حلم الخليفة المأمون، حيث كانت صورة أرسطو كرجل أشقر بعيون زرقاء وسيلة لعقله اللاواعي ليخبره أنه غريب. لكن اللاوعي نفسه أخبره أيضًا أن يحوله إلى موحد صارم، بينما يتحدث في نفس الوقت عن علاقة الوحي بالعقل ويأمره بالاعتراف بإله واحد في نهاية المحادثة الثنائية في الرؤيا. وهذه الأسلمة تحضر في مختلف الأدبيات الفلسفية الإسلامية عبر قصص لا حصر لها لسقراط وأفلاطون. ثم إنه بصرف النظر عن اللون المحلي المُعطى للفكر والمفكرين اليونانيين، يمكن للمرء أن يتحدث عن الفلسفة الإسلامية، لأن القصص التأسيسية للدين الإسلامي تُقرأ وتُفهم في ضوء تعاليم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. وفي هذه القصص يتم توضيح معنى رحلة العقل البشري إلى الحقيقة. ومن الأمثلة الرائعة على ذلك إعادة بناء ابن سينا الفلسفي لواحد من أهم التقاليد في الإسلام، وهي قصة الإسراء والمعراج.
بين رفض الفلسفة وتبنّيها
يشير دياني إلى أنه من خلال الإفراط في التفكير يقع المرء في الكفر، كما يدعي أصحاب الموقف المنغلق. وهذا الموقف يحمل بين طياته رفضا موجها ضد الفلاسفة، الذين يهتمون بالتفسيرات العقلانية. لكن يمكن أن يستهدف هذا أيضًا علماء اللاهوت التأملي من المتكلمين، وقد شكل هذا رد فعل على تجاوزات التطرف الجدلي والعقلاني، والتي يبدو أنها استبدلت العقل بالله. وقد جاءت المدرسة الأشعرية لتقلب الموازين في اتجاه هادئ من أجل موازنة العقلانية. ومن هذه المدرسة جاءت أيضا أكثر الإدانات جذرية لـ "أخطاء" الفلاسفة، والتي تضمن بعضها اتهامات واضحة بالهرطقة والزندقة. وهو يقصد في هذا الصدد أبو حامد الغزالي الذي خص له كلاما طويلا تناول فيه موقفه من الفلسفة.
وعلى العكس من ذلك، جاء ابن رشد لينصر الفلسفة بشكل حكيم ومحكم، حتى إن اسمه ظل يرمز على مر الأحقاب وإلى عصرنا الحالي إلى العقلانية في الإسلام. وتجدر الإشارة هنا إلى الحروف المتقطعة التي تبدأ بها عدد من السور القرآنية، فهي تفسر على وجهين. أحدهما أن الله تعالى استأثر بعلمها وأن العقل الإنساني يعجز عن الإحاطة بسرها الرباني. والتفسير الآخر، أنه يمكن للمرء أن ينطلق من مبدأ أن هذه الكلمة تعبر عن نفسها بلغة أبناء آدم، فما الفائدة من إدخال إشارات في الرسالة الموجهة إليهم لا يستطيع أحد فهمها. لذلك ربما ينبغي أن تكون هذه العلامات بمثابة اختبار للتمييز بين أولئك الذين لديهم معرفة عميقة الجذور. ولا يمكن أن يكون هؤلاء إلا فلاسفة، كما يذهب ابن رشد.
وفي رده على الهجوم الممارس على الفلسفة باسم الدين، يقول ابن رشد أنه يوجد في الواقع انسجاما بين الاثنين: الدين والفلسفة. وقد أظهر هذا الانسجام بالدليل القاطع، ومن ثم فإن دراسة الفلسفة التزام قانوني. وكان ابن رشد أكثر ثقة ووثوقا في دحض الموقف الرافض، لا سيما الذي يمثله الغزالي، ويخلص إلى أن دراسة الفلسفة هي في النهاية واجب ديني، على الأقل بالنسبة لأولئك الذين لديهم استعداد عقلاني للقيام بذلك. وبعبارة أخرى، إن ابن رشد يطالب بحماية المجتمع بشكل عام من الفلسفة والفلاسفة من كراهية الجماهير للعقل. وهذا ما سوف يستحضره بعد قرون طويلة المصلح النهضوي جمال الدين الأفغاني، الذي قرر عدم إعادة ترجمة رده على الفيلسوف الفرنسي رينان إلى العربية لتوزيعه في العالم الإسلامي، حتى لا تصل مجادلاته العقلانية إلى عامة الناس.
التعددية وحكمة الحب
يخلص دياني في خاتمة كتابه حول التفلسف في الإسلام إلى أن التفكير لصالح الانفتاح هو التفكير أيضا لصالح التعددية. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن نعود إلى حديث الفِرَقِ الثلاث والسبعين الذي استخدمه الغزالي، في كتابه "المنقذ من الضلال" لإظهار الحاجة الملحة لاختيار الفرقة الناجية من تلك الفرق، والتي وحدها تفوز بالخلاص. ثم يتساءل الكاتب: هل كان الغزالي بعد شكوكه الوجودية والمنهجية قادرا على أن يكتشف على أسس راسخة ماهية الفرقة الناجية ويستبعد كل الفرق الأخرى؟ وهل هذا حقا كل ما كان يحاول فعله؟
وإذا كانت الإجابة التي توصل إليها الغزالي في نهاية رحلته تدل على السؤال الذي كان يشغله حقا، فهو لم يكن يبحث فقط عن الفرقة الأرثوذكسية الناجية فقط، بل كان يبحث أيضا عن طمأنينة القلب الذي بدأ ينفصل عن كل المعتقدات الطائفية للتخلص منها. لذلك إذا قرأنا "المنقذ من الضلال"، مثل اعترافات من يقول أنا وليس نحن، فلربما ينبغي لنا أن نستخلص أن ما كان يبحث عنه كان يوجد ما وراء الفرق الثلاث والسبعين، أو نقول إنه كان موجودا في كل فرقة منها.
وهذا يدل على أن حقيقة حديث الفرقة الناجية ليست استبعادا، بل تعددية. وبعبارة أخرى، القدرة على الوصول إلى فهم غير طائفي للحقيقة والاهتمام بالطريقة التي يتصرفون بها في كل الفرق. وهكذا يمكن القول إنه من بين الفرق الثلاث والسبعين التي يذكرها، سيتم إنقاذ الفرقة الرابعة والسبعين، وهذه الفرقة تقع خارج جميع الفرق الأخرى؛ إن هذه الفرقة توجد فوق الفرق، ولا توجد إلا فعليا، تتكون من كل أولئك الذين، على الرغم من أنهم أعضاء في إحدى الفرق الثلاث والسبعين، فقد تمكنوا من الخروج من أنفسهم وخارج المفهوم المطلق والحصري للعضوية والانتماء إليها.
بعد هذا الارتحال التاريخي والحفر المعرفي في التراث الفلسفي واللاهوتي الإسلامي، ينتقل بنا الكاتب إلى أوائل الثلاثينيات، إلى مالي التي كانت ترزح تحت الحكم الاستعماري الفرنسي. وبالتحديد، مدينة باندياجارا الصغيرة، التي تأسست عام 1770 من قبل صيادي دوغون، والتي طورها ورثة الحاج عمر تال عندما جعلوها عاصمة إمبراطورية توكولور الإسلامية. وكان يعيش هناك عالم حكيم، وهو "بوكار بن صليف التل" ويسمى "تيرنو" التي تعني "السيد".
وقد سأل أحد الطلاب هذا العالم الحكيم عن التعددية الدينية، وهل من الصواب التحدث إلى أتباع الديانات الأخرى لتبادل الأفكار والتعرف على إلههم بشكل أفضل؟ ويجيب الحكيم تيرنو على هذا السؤال بدرس في التسامح الصوفي، حيث الميتافيزيقا تقوم على القناعة بأن الإيمان واحد، بغض النظر عن الدين الذي يعبر عنه. ربما يمكننا أن نتخيل أن الإيمان بالله، الذي غالبا ما يقسم الناس ويضعهم في مواجهة بعضهم البعض، يخلق أيضا نوعا من الرابطة بين المؤمنين، مهما كانت الأشكال التي يتخذها إيمانهم. ولكن هل يمكن للتعددية، التي تقوم على الاقتناع بأن الحقيقة هي نفسها، أن تتجلى في أشكال مختلفة، وتتسع لتشمل اللا دين؟ وبمعنى آخر، هل يحب الله غير المؤمن؟ كما يتساءل الطالب مرة أخرى، فيرد عليه بالإيجاب "نعم"، متجاهلا كل الفروق المقدسة التي يضعها أصحاب التفكير والتفسير الحرفي. وهذه الـ "نعم" الإيجابية هي بالضبط ما تُعلّمه الفلسفة: حكمة الحب، على حد تعبير الكاتب.
وفي الخلاصة، إن مقاربة الكاتب السينغالي الأصل سليمان بشير دياني لا تكتفي بمناقشة مسألة التفلسف في المنظور الإسلامي التقليدي فقط، بل تستحضر أيضا الأسئلة الفلسفية الجوهرية القديمة في سياقنا المعاصر لا سيما المتعلقة بالسياسة والتدين والعقلانية والتعددية من جهة، وتفتح آفاقا جديدة على الفلسفة الإفريقية والعالمية التي يجهلها القارئ العربي من جهة أخرى. ولعل هذا هو الجديد والأهم في هذا العمل النقدي الفلسفي.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: التفلسف في الإسلام
المؤلف: سليمان بشير دياني
عدد الصفحات: 160
تاريخ النشر: 2021
الناشر: منشورات فراي داخ أونفيرس بلجيكا
اللغة: الهولندية
