كيه أشرف
فيلابوراتو عبد الكبير
إن "ما بعد العلمانية" فكرة جديدة بالخرائط الفكرية لا تزال في طورها الابتدائي، وتعود بدايتها التأسيسية إلى ندوات بحثية انعقدت في العقد الأول من عام 2000. وفي عام 2009 انعقد مؤتمر في جامعة هارفرد تحت عنوان " استكشاف "المابعد علماني"، وبعد سنة واحدة في 2010 انعقد مؤتمر آخر في كلية العلوم الدينية في جامعة واشنطن سانت لويس تحت عنوان " النقاش حول العلمانية في عالم ما بعد علماني" شارك فيه عدد من المفكرين، وفي مقدمتهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ورفيقه الكندي تشارلز تايلور والعالم الأمريكي بيتر بيرغر والعالم الأنثروبولوجي من أصل أسباني خوسيه كازنوفا، حيث أبدوا فكرة انفتاحية على الدين والقضايا المتعلقة بها مشيرين إلى أن الدور العلماني في المجتمع وهيمنته على جميع مناحي الحياة قد أصبح على وشك الأفول. ويرون أن العلمانية ليست الحل الأمثل للمشكلات والأزمات التي يواجهها العالم الغربي. وتلت المؤتمرات المذكورة ندوة رابعة انعقدت في جامعة بولونيا بعنوان "السياسة والثقافة في المجتمع الما بعد علماني".
وقبل استعراض مضمون كتاب الدكتور أشرف يبدو أن من المستحسن إلقاء نظرة سريعة على خلفية نشوء الفكرة العلمانية في الغرب. العلمانية مصطلح لا يزال يلعب دورا هاما في بناء المجتمع الحديث بقبضة سلطوية قويّة على حياة الأشخاص. وهي تُعدّ من أبرز مكونات الحضارة الغربية يرفض أساسُها جميع ما يعتبر من المقدسات الدينية. تأبى العلمانية تداخل الأديان في المجالات الاجتماعية والسياسية الرئيسة في حياة الإنسان. يزعم العلمانيون أن عملية تحويل الديانة المسيحية إلى مجرد ممارسات دينية بلا دخل لها في الميادين الاجتماعية هو انتصار العلمانية وأنه بهذا السبب فقط أحرزت أوروبا التقدم والازدهار في جميع حقول الحياة. هذا هو جوهر العلمانية الذي يتمحور حوله الإنسان والذي ينكر دور التعليمات الدينية في حياته بتاتا. ولكن بالرغم من ذلك هناك من يزعم أن العلمانية ليست نظرية ذات طابع أحادي بل هناك علمانيات مختلفة. اللائكية الفرنسية التي تمنع التمظهر الديني ليس في الدوائر الحكومية فقط بل في المشهد العام أيضا تختلف عن العلمانية الأمريكية التي تسمح بالحجاب أو بالخمار في الحياة العامة.
ثمة للعلمانية قراءات متنوعة في العالم العربي. ومن نخبة العرب من قرأها قراءة تاريخية مثل المفكر المصري الراحل حسن حنفي الذي يرى أنها فكرة غربية نشأت للبحث عن الحل لمشاكل غربية مُلِحّة ناتجة من صميم التاريخ الأوربي المسيحي. يقول حنفي إن العلمانية إنما تم تصديرها الى العالم العربي من بوابة المسيحيين الشرقيين مثل سلامة موسى، وفرح أنطون، وشبلي شميل وغيرهم بهدف فصل الدين عن الدولة، وذلك لأغراض تتعلق بحماية الأقليات. وتسلُّل العلمانية إلى البلدان العربية المكتظة بالأغلبية المسلمة قد أدى إلى صراع بين العلمانية والشريعة الإسلامية. فكيف يمكن تحقيق العلمانية وتطبيق الشريعة في آن واحد؟ يجد حنفي الحل لهذه المشكلة في أن تحقيق الضروريات الخمس من مقاصد الشريعة من المحافظة على الدين والحياة والعقل والعرض والمال هي نفس المصالح العامة التي تستهدفها العلمانية. الإسلام في نظر حنفي ديني علماني في جوهره في آن واحد فلا يحتاج إلى علمانية زائدة مستمدة من حضارة أخرى. وأما حماية الأقليات فإن الأقليات الدينية المختلفة قد عاشوا قرونا في أمن وسلام تحت كنف الإسلام. ولكن المشكلة ليست جِدَّ بسيطة كما يراها حنفي؛ لأن النظرية العلمانية ذات التمركز الإنساني تختلف تماما وأساسا عن الشريعة الإسلامية ذات الطابع التمركزي اللاهوتي.
وأما المفكر المغربي محمد عابد الجابري فيعتبر مسألة العلمانية في العالم العربي مزيفة حيث لا تتطابق مع حاجات الدمقراطية التي تحترم الحقوق الإنسانية التي هي روح العلمانية الغربية، ويذهب إلى أن العلمانية نشأت في الغرب من أجل فصل الدولة عن الكهنوت المسيحي، وهي تجربة لم يعشها العالم الإسلامي، وبالتالي لا حاجة له بالعلمانية. وفي رأي المفكر الفرانكوفوني محمد أركون فإن العلمانية لا يمكن اختزالها في عملية الفصل بين الديني والسياسي، فهي أبعد وأعمق من ذلك؛ لأنها ترتبط بالبحث عن الحقيقة، مما يجعلها نظرية في المعرفة تناضل من أجل امتلاك الحقيقة، وهي بالتالي مسألة تخص المعرفة. ولكنه يرفض تحويلها إلى أيديولوجيا تحد من حرية التفكير كما في صيغتها اللائكية الفرنسية. ومن الذين اتخذوا العلمانية نظرية فلسفية عادل ضاهر. وهو يُفرِّق بين العلمانية اللينة والعلمانية الصلبة. ووفقا لهذه الرؤية يكون الإنسان إما متدينا أو عَلمانيا، ولا وجود لنمط ثالث يجمع بين الاثنين. مثل عادل ضاهر تماما يُقسِّم الراحل عبد الوهاب المسيري أيضا العلمانية إلى قسمين، علمانية جزئية وعلمانية شاملة، أولاهما تعني فصل الدين عن الدولة بينما لا تعني العلمانية الشاملة فصل الدين عن الدولة فحسب، بل تتجاوز ذلك بفصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، لا عن الدولة فقط، بل عن الطبيعة وعن حياة الإنسان أيضا. وهذه العلمانية الشاملة تختص في نظر المسيري بالمجتمعات الغربية وغير قابلة للتطبيق على المجتمعات الإسلامية. أما العلمانية الجزئية في رأيه فهي موجودة في كل المجتمعات طوال القرون، لأنها تقوم على تمايز بين الديني والسياسي بدون معاداة للدين.
ومن الانتقادات التي تعرضت لها العلمانية أنها قد تحولت إلى أيديولوجيا تُلهم الدولة والمجتمع أو ديانة أخرى كما وصفتها صباح أحمد عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة وتلميذة طلال أسد (إبن محمد أسد النمساوي صاحب "الطريق إلى مكة"). تحولت العلمنة إلى سلطة لاهوتية قهرية تصدر أحكامها بلا هوادة، فلم تستطيع أن تبقى راسخة الجذور أمام النقد اللاذع الذي زعزع يقينها بعدما زرعت الشك في كل شيء. وعلى خلفية هذه الأزمات البنيوية للعلمنة نفسها انطلق مفهوم "ما بعد العلمانية" الجديد.
إن كتاب "ما بعد العلمانية" للباحث كيه أشرف هو باكورة أعمال في هذا الموضوع باللغة المالايالامية. يتناول فيه المؤلف المسار الخطِّيّ الذي تتصوره العلمانية الحديثة، وحدود مفهوم العلمانية، والظواهر الاجتماعية والسياسية التي برزت متحدية ذلك التصور الخّطيّ، والانتقادات التي تعرضت لها العلمانية فيما بعد، والشرائح المتنوعة لهذه الانتقادات التي تطورت تحت ظروف مختلفة. إنما يحاول فيه أن يفحص مسألة علاقات السلطة بين الدين والعلمانية أكثر من أن يثبت أن أحدهما أفضل من الآخر. يبحث من خلاله عن ظروف يتمكن فيها من الترابط بين الثنائيات مثل الدين\ والعلمانية دون أن تسيطر إحداهما على الأخرى بل أن تكون متكاملة بعضها مع بعض. الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية التقليدية في كيرالا تنظر عموما إلى العلمانية كبقرة مقدسة. قلّما نجد من ينظر فيها بعين النقد. بل لا يعرف أكثرهم ما يجري من دراسات نقدية في هذا المجال في محافل المعرفة على المستوى الدولي. وهذا يزيد أهمية هذه الدراسة. يقول المؤلف إن هذا الكتاب إنما تَشكَّل لتجاوز هذه القيود الموجودة في كيرالا في نقد العلمانية ولتعريف ما يجري في المحافل الأكادمية العالمية من الدراسات الجادة التي تعيد النظر من جديد في مفهوم العلمانية.
ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول. وفي الفصل الأول يبحث المؤلف الظروف السياسية التي تطورت فيها دراسات ما بعد العلمانية، ومنهج النقد الذي تتبناه والموضوعات التي تتناولها هذه الدراسات. إن تشارلز تايلور وطلال أسد هما مفكران بارزان درسا تاريخ وحاضر علاقات السلطة بين الدين والعلمانية بعمقهما. ويبدأ الفصل الثاني بأفكارهما في هذا المجال. ولهذا الفصل ثلاثة أجزاء: في الجزء الأول يشرح الكاتب وجهات نظر تايلور في ما بعد العلمانية. لا يعدُّ تايلور العلمانية مجرد غياب للدين حيث يقول إنها مسألة فكرية سياسية يجب أن تُفهم كبناء تاريخي، وبالتالي ليس الدين والعلمانية توجهاتٍ متنافسة، بل أنواع مختلفة من الخبرة الحيوية التي تتعلق بشكل وثيق بفهم الحياة بطريقة أو بأخرى. ويبحث في الجزء الثاني بعض ميزات مناهج أسد في مقارباته نحو ما بعد العلمانية. ويُعدّ طلال أسد من أبرز الأكادميين الذين حاولوا أن يجعلوا للإسلام مكانا في هذه المنقاشات. يكتشف أسد "جينولوجيا" العلمانية في أوربا المسيحية في العصور الوسطى. وفي الجزء الثالث يشير الكاتب إلى الفروق الموجودة في مناهج فكر تايلور وأسد. ومن خلال هذا التحليل يمكن القارئ أن يفهم الطبيعة العالمية التي تحتويها النقاشات الجارية في حقول هذه الدراسات وأن يعرف عموما تنوعها الداخلي.
وفي الجزء الثالث يقدم الكاتب أكاديميين أمثال وائل حلاق وسلمان سعيد وشيرمان جاكسون وعويمر أنجم الذين حملوا على أكتافهم مهمة تطوير فكرة أسد في إطار واسع. وهؤلاء الكُتاب يبحثون عمّا يكون للإسلام من مكانة في عالم ما بعد العلمانية. وبالمقابل ثمة مفكرون آخرون أمثال عبد الله نعيم وعقيل بلجرامي وحامد عنايت الذين ناقشوا مسائل إسلام ما بعد العلمانية وأكدوا على إمكانية إسلام علماني. وينضم إلى هؤلاء الفئة العالم الاجتماعي والمؤرخ الفرنسي "جان بوبيرو فيري" الذي يُفضّل أن يرى العلمانية علمانيات عديدة متنوعة بدلا من علمانية واحدة، يتناسب كل منها مع اختلاف الظروف والعوامل الاجتماعية في مجتمعها. وهو لا يستثني حتى إمكانية علمانية إسلامية. إن جوهر العلمانية في رأيه ليس إلا مجرد حياد السلطة السياسية. ومن مستلزمات هذا الحياد أن لا تمنع التعبيرات الثقافية والدينية وتمظهرها في الحياة العامة.
ونجد في الفصل الرابع قراءات جديدة جرت حول النقاشات العلمانية على مستوى الجندر والديانة والطبقات الاجتماعية، وذلك في الظروف الهندية. وتحاول هذه القراءات أن تُبرِز كيف أن العلمانية استُخدِمت كلغة لتهريب معاداة وكراهية الأقلية المسلمة وطبقة المنبوذين والجندر. وفي الجزء الأول من هذا الفصل المنقسم إلى ثلاثة أجزاء يُعرِّف المؤلف إسهامات "آشيش ناندي" و"لاتا ماني" و"تي أن مادانان" و"سوميت ساركار" في مجال انتقاد العلمانية. بينما يرفض "أشيش ناندي" العلمانية بتاتا يرى ساركار أن التخطي إلى الأمام بسد نواقصها هو الأفضل. وتليه تفاصيل المواقف من العلمانية التي يتخذها ظهير بابار و"أدتيا نيجام" و"راجيف بهارغهافا" وعقيل بلجرامي و"وروميلا تهابار" وغيرهم من النخبة الهنود. وفي الجزء الأخير من هذا الفصل تأتي ملاحظات "بارتها تشاتارجي" و"فيفيك دهاريشوفار" وشبنم تيجاني و"ام أس أس باندهيا" وعرفان أحمد وسلمان سعيد الذين قاموا بترميم بناء نقد العلمانية من جديد بَعيدين عن اتخاذ موقف يوافقها أو يخالفها.
والفصل الخامس يحتوي بعض الاتجاهات الموجودة في دراسات ما بعد العلمانية في الولايات المتحدة وأوربا. ويُذكر فيه الحوار المحورِيَّ الذي جرى بين "يورغن هايبارماس" و"ويليام كورنالي"، والذي يكشف عن التنوع الموجود داخل فكر مابعد العلمانية. يستفيد الكاتب هنا لذلك من قراءة "ليوكا مافيلي"(Luca Mavelli). الحاكمية كانت دائمة مسألة مهمة في فكر ما بعد العلمانية. وفي الجزء الثالث من هذا الفصل يُقدِّم الكاتب الخلاصة من إعادة القراءة التي قام بها مشيل فوكو وكارل شميت في هذا المجال. وفي الجزء الرابع يلقي الضوء على محاولات "سول نيومان" لقراءة جديدة سياسية لاهوتية حول التحليلات النفسية التي قام بها "سيجماند فرويد" و"جاك لاكان" في نقد العلمانية. وفي الجزء الخامس يذكر المؤلف ميزات مقاربات "سلافوي جيجك" و"تيري إيغلتون" تجاه العقيدة والدين والماركسية والمسائل اللاهوتية، وذلك خلال مشاركتهما في نقاشات جرت حول مفهوم مابعد العلمانية. فضلا عن هذا يحاول جيجك وإيغلتون إعادة قراءة مساهمات المفكرين المسيحيين طوماس أكويناس والقديس أغسطينوس في العصور الوسطى. جيجك الذي يهتم بالماركسية والتحليل النفسي يجد في المسيحية أساسا للإلحاد ويؤكد أن هذا هو الطريق الوحيد لحل المشاكل والتحرر من الأزمات.
والفصل السادس يحتوي ثلاثة أجزاء مرتكزا البحث على دراسة العلمانية من خلال منظور "ديكولوني". نقرأ هنا مناقشات "ولتار مينيلو" و"أنيبال كويانو" و"أنتاكيه ديوسال" و"سيلفيانا فينتار" و"فرانز فانون" و"طوماس ماستناك" و"سوفيا أرجانا" من أبرز المساهمين في مجال الدراسات الديكولونية. حين نمر على قراءات هؤلاء الأكادميين في العلمانية نستطيع أن نرى كيف أن دراساتهم التفكيكية تفتح أفاقا جديدة من النقاشات في شأن الإسلام والمسيحية وكيف أن مقارنة هذه القراءات مع القراءات اللاتينية تقود إلى تطوّر نظرات جديدة في الدين والعلمانية تُنتجها فكرة ما بعد العلمانية.
الفصل السابع ينقسم إلى خمسة أجزاء. الجزء الأول يبحث الخلافات التي كانت موجودة في تعريف الدين في العالم القديم والجديد. وفي الجزء الثاني نقرأ عن ديانة "ماني" وملاحظات يوحنا الدمشقي عن الإسلام والمسيحية. والفصل الثالث يناقش فيه المؤلف القضايا المتعلقة بمفهوم الأديان العالمية. يقول هنا إن مفهوم الأديان العالمية هي ذاتها تخفي في طياتها طموحا إلى السلطة. ومن خلال قراءة هذه الأجزاء نفهم كيف أن القوى الاستعمارية استغلت الدين للدفاع عن مصالحها الذاتية. استخدمتها بريطانيا في الهند للمُصالحة مع الطبقات العليا ضد الطبقات السفلى في سلم الطبقات الاجتماعية من الهندوس. والحال في الولايات المتحدة واليابان أيضا لا يختلف عنه كثيرا. ويبحث في الجزء الأخير الطريق السليم لحل المعوقات والمنغصات أمام مسار الدين كما يناقش هنا بعض المقترحات المنهجية العملية التي تقدمها فكرة ما بعد العلمانية في الدراسات الدينية والعلمانية. ويؤكد المؤلف أن كتابه هذا لم يقصد به إلّا أن يكون مدخلا لدراسة مابعد العلمانية ولم يُرِد إصدار أي حكم في أي جانب من جوانب الموضوع ولو أن له رؤى خاصة فيه.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: ما بعد العلمانية
المؤلف: الدكتور كيه أشرف
اللغة: مالايالام
عدد الصفحات: 310
سنة النشر: 2022
الناشر: دار النشر الإسلامي، كوزيكود
