ابن سينا

ابن سينا.jpg

أولغا ليتسيني

عزالدين عناية*

يحوز أعلام الفلسفة الإسلامية، مثل الكندي والفارابي وابن رشد وابن باجة والغزالي وغيرهم، موضعًا معتبرًا في دراسة الفلسفة الكلاسيكية في الغرب لعدة اعتبارات. وهذا الكتاب الذي نعرضه وهو بعنوان "ابن سينا" أو كما يطلق عليه الغربيون "أَفيشان"، هو دراسة ضافية في حدود الخطة التي رسمتها المُؤلفة أولغا ليتسيني، بشأن فلسفة ابن سينا وبشأن أعماله الفلسفية. وهو مؤلف لكاتبة من جيل الدارسين الجُدد، متخصّصة في الفلسفة الإسلامية. وقد صدَر الكتاب عن دار نشر إيطالية مرموقة "منشورات كاروتشي"، ضمن سلسلة "مفكرون" التي تعنى بكبار الفلاسفة العالميين، القدماء منهم والمحدثون. وقد ضمّت السلسلة في قائمتها، منذ انطلاقتها (2010)، أربعة فلاسفة شرقيين وهم على التوالي: ابن ميمون، والقديس أوغسطين، وابن رشد، والشيخ الرئيس الذي يعنينا في هذا العرض. صيغ الكتاب وفق تقاليد البحث العلمي المتعارف عليها، من حيث ذكر المراجع والإحالات، وإن أتى بدون مُقدّمة أو استهلال أو خاتمة.

 

إذ تنطلق المؤلفة أولغا ليتسيني في معالجة المحاور الرئيسة لكتابها، من خلال التطرق إلى أربعة عناصر، تتناول فيها فلسفة ابن سينا ومفاهيمه الفلسفية ونظرته إلى العالم. في المحور الأول المعنون بـ "المنطق: المعرفة، الحقيقة"، تعالج المؤلفة هوية المنطق لدى ابن سينا، باعتباره آلة، والمنطق كعلم، والمنطق كصناعة، مع التعريج بشكل متواصل على منابع فلسفته، ومظاهر الإضافة والنقل أو التبني الوارد من غيره؛ إذ يرد العرض العام للبناء المعرفي الأولي لفلسفة ابن سينا بشكل جلي، لا سيما وأن الكاتبة في عرضها، تستحضر المفاهيم الأساسية لابن سينا بالعربية مكتوبة بالخط اللاتيني، وتردفها بشرح بالإيطالية وبيان لمقصد ابن سينا من ذلك. وهو منهج بيداغوجي ذكي اعتمدته الكاتبة في كامل المؤلف ييسّر على المتابع غير المتخصص.

لتنتقل ليتسيني لاحقا إلى محور ثان، تتحدّث فيه عن "الميتافيزيقا من منظور ابن سينا"؛ فتحاول استخلاص أصول فلسفة ابن سينا متتبّعةً مختلف مؤلفاته المتاحة في اللغات الغربية، وشرح تلك المفاهيم ونقدها وإرجاعها إلى مصادرها اليونانية إن بدا لها ذلك، ساعيةً إلى الإحاطة بمختلف عناصر المبحث الميتافيزيقي لدى ابن سينا، على غرار: الموجود بما هو موجود، والممكن الوجود، والواجب الوجود، معالجةً مسألتي الإلهيات والإشارات لديه. وليكتمل محور الميتافيزيقا مع محور ثالث بعنوان: "عالم ما تحت القمر"، تحاول الباحثة فيه أن تأتي على مجمل العناصر التي تناولها ابن سينا (المادة، والشكل، والأجسام، والحركة، والزمن، والطبيعة...). ثم في محور أخير من مؤلفها بعنوان "الإناسة الفلسفية"، تتناول الكاتبة الروح ومراتب الأرواح، والسعادة، وهي قضايا على صلة، كما ترى، بمحاور الفلسفة المعاصرة، ولذلك غالبا ما يحضر ابن سينا في المؤلفات المعنية بهذه المواضيع.

 

اختارت الكاتبة في بناء مؤلّفها، أي في كل محور من المحاور المذكورة، ضمَّ وحداتٍ مفاهيمية واردة في أعمال ابن سينا، كما سعت إلى شرحها والتعليق عليها، وهو المنهج المتّبَع في الكتاب بدقة وبصرامة في مسعى للإحاطة بفلسفة ابن سينا. والمُلاحظ أن هناك تشابهاً في بنية المحاور الأربعة الكبرى الرئيسة للكتاب؛ لكن مع تغير في المواضيع مع كل محور جديد. وهو يخبر عن تمكّن الباحثة من موضوع بحثها وإلمامها به؛ إذ ضمن المحور الأول، على سبيل المثال، تتناول الوحدات التالية: مفهوم المنطق، وحقل تطبيقات المنطق، ومواضيع المنطق، ومسألة العلاقة بين اللغة والمنطق، إلخ.

غير أنّ ما يلفت نظر المتمعّن في الكتاب، وربما القارئ للكتاب قراءة نقدية، أنّ الكاتبة تتناول علمًا من أعلام الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، في غياب ربط الفيلسوف بالحاضنة الدينية والكلامية السائدة في عصره وقبله؛ إذ أتى جلّ تركيز الباحثة ليتسيني على الغوص في نص ابن سينا، من حيث تفكيكه، دون تنزيل الفيلسوف منزلته اللازمة في حاضنته الحضارية والدينية. وهو ما كان سيضيف للكتاب ثراء أوفر ومعلومات جمة، غير أن الباحثة اقتصرت على المنهج الذي رسمته لمؤلفها.

ولو تمعنّا في مختلف الإنتاجات المخصَّصة للفلاسفة المسلمين في اللسان الإيطالي في الحقبة المعاصرة، فإنّه يبقى ابن رشد الأوفر حظا في الإيطالية بين رواد الفلسفة الإسلامية، من حيث العناية به ترجمة ودراسة. وأما مجمل الفلاسفة الآخرين على غرار الفارابي، والغزالي، وابن طفيل، وابن سبعين، والرازي، وإخوان الصفا، والسهروردي، فالدراسات بشأنهم قليلة العدد. ولعل اختيار الباحثة التخصص في ابن سينا نابع من إدراكها، أو ربما لتنبّهها، لافتقار الساحة الإيطالية إلى أعمال تتناول هذا الفيلسوف المهمّ. وكما أشرنا فالمؤلفة هي من جيل الباحثين الجدد في إيطاليا (شارفت العقد الخامس)، وقد حصلت على شهادة الأستاذية في الفلسفة من جامعة روما سنة 1991، ثم شهادة الدكتوراه سنة 2000 من الجامعة نفسها بملاحظة "ممتازة". وعموما للباحثة شغف بالفلسفة الإسلامية الكلاسيكية ولا سيما ابن سينا. وفي ظل ندرة المؤلفات الإيطالية عن ابن سينا يُعتبر عمل أولغا ليتسيني متفردا من حيث التطرق الشامل لفلسفة ابن سينا.

 

يورد المؤلف الصادر عن وزارة الثروة والأنشطة الثقافية "الحضور العربي الإسلامي في المطبوعات الإيطالية" (2000)، أنّ الأعمال التي تتناول ابن سينا، سواء عبر الترجمة أو الدراسة والتعليق على فلسفته، لا تتجاوز عشرة أعمال بين دراسة منشورة في مجلة أو كتاب منشور على حدة؛ فقد تُرجِمت لابن سينا، إلى اللغة الإيطالية،  ثلاث رسائل عن التصوف من إعداد المستشرق باوزاني سنة 1962، وأُتبعت بـ "رسالة عن الآخرة" للوكيتا سنة 1969، إلى جانب مجموعة من الدراسات قام بها المستشرق ألفونسو نللينو نُشرت في دوريات علمية إيطالية. ولكن غالبا ما أتى الحديث عن ابن سينا مدرجا ضمن مؤلفات تناولت قضايا الفلسفة الإسلامية عامة، أو منقولا عن مؤلفات غربية مترجمة إلى اللغة الإيطالية.

في كتابها الحالي اعتمدت المؤلفة بشكل أساسي على أعمال ابن سينا المترجَمة إلى اللغات الغربية (في اللغات الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية)، بالإضافة إلى الأعمال الصادرة عن فلسفة ابن سينا في هذه اللغات. في حين من جانب الاطلاع على المصادر العربية والفارسية واللاتينية، فإنّ الباحثة أولغا ليتسيني تصرّح بمحدودية إلمامها بهذه اللغات، وهو ما لا يتعدى القراءة ومعرفة بعض المصطلحات والمفاهيم. ولربما نقيصة المستعرِبين الجدد وعلماء الإسلاميات في إيطاليا في الحقبة الراهنة، ألا وهو تدني إلمامهم بالعربية في المجمل؛ ففي جامعة "الأورينتالي" في نابولي، تُعَدّ الأستاذة كارميللا بافيوني مرجعًا في الفلسفة الإسلامية، وأفضل المتخصّصات في هذا الحقل في إيطاليا، في الحقبة الحالية، هي محدودة الإلمام جدا بالعربية؛ فلديّ معرفة عن قرب بها، إذ درّسنا سويا في الجامعة نفسها.

صحيح أن المؤلّفة أولغا ليتسيني ملمّة بما كُتب عن فلسفة ابن سينا في اللغات الغربية الثلاث المذكورة، غير أنّ نصوصها المرجعية هي نصوص مترجَمة. تفكك الباحثة من خلالها فلسفة ابن سينا وتعيد تركيبها، وهو ما يعرب عن تمكّن ينمّ عن قدرة في الإحاطة بمفاهيم ابن سينا. كما أن القارئ، وبوجه عام، لا يستشعر ثقل العرض أو الشرح، بل تُميز لغة الكاتبة الفلسفية سلاسة. وإن يكن الكتاب ينمّ عن متابعة دؤوبة لما كُتب عن ابن سينا، فإنّه لا يمكن القول إنه يأتي ضمن مشروع فكري أو فلسفي شامل لصاحبته. ولا أُقدّر أنّ الكتاب يمثّل إعادة قراءة جذرية لفلسفة ابن سينا، وإنما هو محاولة شرح للخطوط الكبرى لفلسفة الشيخ الرئيس. وربما الشيء المهمّ الذي يمكن أن يصادفه القارئ العربي في كتاب ليتسيني هو تنبيه الكاتبة إلى ما بلغته الدراسات النقدية لابن سينا في الأوساط الغربية. مع ذلك، يبقى البحث من الأبحاث المعتبرة والمهمة في إيطاليا؛ نظرا للنقص الجلي في مجال التعريف بفلسفة الشيخ الرئيس وبالفلسفة الإسلامية عامة.

وبالإضافة إلى هذا الكتاب الذي نعرضه نشرت الباحثة عملا ثانيا سبق هذا العمل، وهو بعنوان "الفيض: بحث حول أصول الميتافيزيقا والفيزياء لدى ابن سينا"، منشورات باجينا، إيطاليا 2011، وهو من حيث القيمة العلمية أقلّ من الكتاب الحالي. كما نشرت مجموعة من المقالات والدراسات والأبحاث حول فلسفة ابن سينا في مجلات متخصصة وشاركت في العديد من الملتقيات. بقي أن نشير إلى أنّ معرفتها بالعربية محدودة جدّا ولا تتعدى القراءة، أو معرفة المصطلحات الفلسفية التي اشتغلت عليها في كتابها. وفي تأثيث كتابها اعتمدت المؤلفة على مصادر ومراجع ذات أهمية عالية مدوّنة باللغات الأوروبية الحديثة (الفرنسية والإنجليزية والألمانية)، مع غياب تام لما كُتب عن ابن سينا في العربية أو في اللغات الشرقية عامة.

 

على مستوى آخر ثمة مصادَرة شائعة، في كون الفلسفة الإسلامية تستمدّ أصولها من فلسفة الإغريق. لم أعاين في ثنايا الكتاب تصويبا أو انتقادا لها، بل ترديدًا لها وتطبيقًا لها على فلسفة ابن سينا. ولا أقدّر أن الباحثة أولغا ليتسيني قادرة على الخروج من براثن ذلك الحكم الشائع، لسبب بسيط، ألا وهو استهلاكها للمنتوج الغربي عن الفلسفة الإسلامية، لكونها تعوزها قدرة الاطلاع المباشر على أمهات النصوص في لغاتها الأصلية.

وعلى مستوى المادة لا يندرج الكتاب ضمن تاريخ الفلسفة، بل يعتمد بالأساس المنهج التفسيري التحليلي في بنائه، حيث تعيد المؤلفة تفكيك مقولات ابن سينا وتركيبها. وأما من حيث وفائها للعناصر الأربعة التي تناولت من خلالها فلسفة ابن سينا (المنطق: المعرفة، الحقيقة - الميتافيزيقا من منظور ابن سينا - عالم ما تحت القمر - الإناسة الفلسفية)، فهناك إحاطة وإلمام وتدقيق في الإحالة. وأقدّر أن الكاتبة على إلمام بأعمال ابن سينا وهو ما يسّر لها الوفاء بالمنهج المتبع. وعلى العموم، فهو يبقى كتابا فلسفيا مبسَّطا، يخلو من التجريد المنفر؛ ذلك أن إيطالية الكاتبة رشيقة وواضحة، وأقدّر أنّ أسلوبها الكتابي يجعل حتى القارئ غير المتخصّص في الفلسفة الإسلامية مدفوعا لمتابعتها؛ فقد حرصت الكاتبة طوال الأبواب الأربعة للكتاب على تضمين مفاهيم ومقولات ابن سينا بالعربية، مكتوبة بالحرف اللاتيني، وإردافها بالترجمة الإيطالية. وهو ما ييسِّر على القارئ المتابعة. وقد جاءت ترجمة المفاهيم والمقولات دقيقة، وهي ليست بالقليلة في الكتاب، وأرجّح أنها استعانت بمؤلفات في الشأن في لغات أخرى لإعدادها.

 

من جانب آخر تمّ نشر الكتاب من قِبل دار نشر جادة، وقد طُبع ضمن سلسلة "بنساتوري" (مفكرون) المتابَعة والمقروءة. وهو ما جعل الكتاب يلقى قبولا حسنا لدى المهتمين بالفلسفة الإسلامية. هذا وقد تم عرض الكتاب بمشاركة المؤلفة، عند صدوره، في بعض حلقات المهتمين بالفلسفة الإسلامية. كما ضمّ الكتاب بيبلوغرافيا ضافية شملت الفهارس البيبلوغرافية عن ابن سينا، ومعاجم مصطلحات ابن سينا، وترجمات ابن سينا في اللغات الغربية، والأعمال التي كُتبت عن ابن سينا. هذا إلى جانب فهرس للأعلام وقائمة بالمختصرات. وقد حوى الكتاب أيضا جردًا بأعمال ابن سينا وبالمحطات الهامة في حياته على مدى أربع صفحات ونصف.

لا شك أن الكتاب يسدّ نقيصة واضحة في إيطاليا متعلقة بالفلسفة الإسلامية. وهو ما جعله يلقى ترحيبا في أوساط المهتمين بالفلسفة الإسلامية، مع أنّ صاحبته ليست من كبار المتخصّصين المعروفين بالفلسفة الإسلامية، بل هي باحثة واعدة. لكن الملاحظ أنّ قلة نادرة في إيطاليا، في الراهن الحالي، ممن يعرفون الفلسفة الإسلامية من مصادرها المدونة بالعربية. وهم غالبا ما يستقون إلمامهم بهذه الفلسفة مما يرد من ترجمات وكتابات في لغات أوروبية أخرى، وجلّ المدرّسين والباحثين في هذا الحقل يعوزهم الإلمام بالعربية، ولعلّ ذلك أبرز نقيصة في إيطاليا. الأمر نفسه ينطبق على هذه الباحثة، برغم الجهد المبذول في إعداد نصها، فهو لا يرتقي إلى أن يكون مرجعا أكاديميا متفردا في مجال فلسفة ابن سينا، وإن غطى نقصا معتبرا.

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: ابن سينا

تأليف: أولغا ليتسيني.

الناشر: منشورات كاروتشي (روما – إيطاليا) 'باللغة الإيطالية'. 

سنة النشر: 2022.

عدد الصفحات: 339 ص.

أخبار ذات صلة