جيمس فوك
محمد السالمي
منذ الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨م، تصاعدت التوترات بين الولايات المتحدة والصين بسرعة. وقد ظهرت بشكل جلي عندما فرضت إدارة ترامب تعريفات كبيرة على الواردات الصينية. وعلى الرغم من الانتقال إلى الإدارة الجديدة في البيت الأبيض، لا يبدو أن ذوبان الجليد في العلاقة مطروح على المدى القريب. في كتاب "الحرب المالية الباردة: نظرة على العلاقات الصينية الأمريكية من الأسواق المالية"، يدرس جيمس فوك البعد الجيوسياسي في العلاقات الصينية الأمريكية من خلال عدسة الأسواق المالية. يتتبع الكتاب تاريخ تطور الأسواق المالية في كلا البلدين والنظام المالي العالمي الحالي القائم على الدولار الأمريكي، إلى جانب عرض التطورات الجيوسياسية والجيواقتصادية بين الصين والغرب من القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا. ويسلط فوك الضوء أيضاً على الدور الذي تلعبه هونغ كونغ كوسيط لتدفقات رأس المال بين الصين وبقية العالم. وختاما، يقدم الكتاب بعض الحلول المقترحة لمعالجة المكامن الرئيسية للصراع لتهدئة التوترات الجيوسياسية بين الصين والغرب.
وللتعريف بالمؤلف، فجيمس فوك له باع طويل في ميدان الأسواق المالية حيث شغل العديد من المناصب منها: مسؤول تنفيذي في بورصة هونغ كونغ والمقاصة (HKEX)، ويعمل مستشارا لبورصة لندن للمعادن. كما أنه عضو في المجلس التنفيذي للجمعية الدولية لخدمات الأوراق المالية (ISSA)، ويعمل في اللجنة التوجيهية للمنتدى المالي الآسيوي. تتمحور أعمال فوك حول قضايا هيكلة الأسواق المالية، وخاصة المُتعلقة بتدويل الأسواق المالية في الصين والأمن المالي الدولي، كما له العديد من المنشورات التجارية.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: أولاً، موجز للتاريخ المالي للولايات المتحدة والصين ابتداءً من أسرة مينغ إلى الوقت الحاضر. وفي الجزء الثاني يأتي الكتاب بعنوان "الرأسمالية ذات الخصائص الصينية"، ليناقش صعود الصين إلى مصاف الدول المتقدمة والخصائص التي قادتها لذلك. أما الجزء الثالث، فيعرض موجزا للعلاقات الصينية الأمريكية، والتفاوت في الإدارة المالية لكلا البلدين، إضافة إلى دور الأسواق في القرن الحادي والعشرين.
يجادل الكتاب بأن التوترات الصينية الأمريكية المعاصرة يمكن إرجاعها إلى جذور مالية واضحة. على الجانب الأمريكي، يستشهد المؤلف بـ"معضلة تريفين"، التي تزعم أن عملة بلد ما لا يمكن أن تكون بمثابة العملة الاحتياطية الافتراضية في العالم دون أن يتكبد ذلك البلد عجزا تجاريا، مدفوعا بتضخم سعر صرفه. وبالتالي، يجب على الولايات المتحدة أن تشجع باستمرار على استيعاب الدولار للحفاظ على انتشارها المالي العالمي، وهي بذلك تضحي بالقدرة التنافسية لصادراتها. وهناك عناصر أخرى للقصة الأمريكية، كما يشرح فوك، توضح كيف أن مركزية الدولار قد أفادت التجارة والاستثمار الدوليين، وقد أصبحت مصدرا للقوة الأمريكية؛ رغم أنها أدت أيضاً إلى اختلالات مالية وأسهمت في عدم الاستقرار الداخلي. مهدت السياسات المحلية، مثل الضرائب واختلالات نظام الإنفاق الحكومي الذي يستهدف الجيش في المقام الأول، بدلا من البنية التحتية الرئيسية، الطريقَ لنمط نمو غير متوازن إلى حد كبير. هذه الحجة تتوافق مع الكثير من الآراء وهي أن تخصيص الدولة للموارد لعب دورا محوريا في مكافأة الأثرياء بشكل غير متناسب، على حساب البقية.
أما على الجانب الصيني، فقد كانت الدولة المستفيدَ الرئيسي من إصلاحات تحرير السوق التي تديرها الدولة والتي قام بها قادة مثل دنغ شياو بينغ، وجيانغ زيمين وغيرهم. ومع ذلك، فإن مثل هذه التغيرات الثورية فضلت أيضًا بشكل غير متناسب الصناعات والشركات التي كان لديها أكبر قدر من المكاسب من تراكم رأس المال والسيولة. أدّى الانتقاء الحكومي المتقن وخطط التمويل متعدد الجنسيات إلى اتساع فجوة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. ويؤكد فوك أنه على الرغم من النمو الاقتصادي السريع وتقييد التحرير المالي محليا، فقد نتج عن ذلك اختلالات هيكلية وغير مستدامة.
يفترض فوك أن عدم المساواة داخل الصين وأمريكا أفضى إلى تحول رجعي نحو القومية الشعبوية. كما ترك الاختلال المالي الهائل العديد من صانعي السياسات في بكين وواشنطن غير مرتاحين بشأن الوضع الراهن؛ فقد ترك الأول عرضة للسياسات النقدية الأمريكية، في حين أن الأخير لم يتمكن من خفض قيمة عملته بسهولة لدعم الصادرات وتقليل الديون.
ويمكن القول إن السياسات المالية والصناعية والنقدية فشلت في كلا البلدين في كبح جماح التفاوت المفرط في الدخل والثروة. ومع هذا التفاوت، فإنه يغذي البعد القومي والشعبوي مرورا بالاستقطاب السياسي، مثل الحرب التجارية التي شنتها رئاسة ترامب، والتوترات الجيوسياسية بين الدولتين. وأخيرًا، يؤكد فوك أن الحرب الجيواقتصادية المتفاقمة ستكون مكلفة لكلا الجانبين. ونظرا لترابطهما الاقتصادي، فإن كلا من الولايات المتحدة والصين لديهما مصلحة قوية في معالجة تلك المجالات من النظام المالي والنقدي العالمي التي تحتاج إلى إصلاح. ولكن من المفارقات أن هذا الاعتماد المتبادل هو بالضبط الذي أسهم في تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في المقام الأول.
ومن خلال القيود والفرص التي تخلقها الأسواق المالية للسياسة الخارجية والاقتصادية للولايات المتحدة والصين، يحدد الكتاب ثلاثة مسارات ممكنة للإصلاح تتمثل في إنشاء عملة احتياطية عالمية جديدة، وإعادة توازن الحيازات الاحتياطية للحد من دور الدولار الأمريكي؛ والاحتواء التدريجي للعجز المالي الأمريكي.
ولتفسير هذه المسارات، يؤكد الكاتب أن هناك طلبا مستمرا على الدولار لأنه العملة المهيمنة للتجارة؛ وهذا يبقي قيمتها مرتفعة مقارنة بالعملات الأخرى. وهذه القيمة المرتفعة تقلل من القدرة التنافسية للولايات المتحدة. ويؤدي فقدان الوظائف الناتج عن ذلك إلى تغذية التوتر السياسي. بالإضافة إلى ذلك، يتعين على الولايات المتحدة، باعتبارها الشركة المصنعة الاحتكارية للدولارات، أن تزود العالم بما يكفي منها لدعم الأسواق؛ مما يعني إصدار الكثير من الديون. فإذا نما الاقتصاد الأمريكي بسرعة كافية، قد لا تكون خدمة هذا الدين مشكلة؛ ولكن عندما يتباطأ النمو، كما حدث مؤخرا، فإن عبء الديون قد يصبح ساحقا.
يمكن الإشارة إلى أنه في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية كان من الممكن إدارة المخطط؛ لأنَّ الأسواق العالمية كانت أصغر بكثير مقارنة بحجم الاقتصاد الأمريكي. والآن، مع وجود روابط أعمق بكثير بين الأسواق، فإنَّ التكاليف التي تتحملها الولايات المتحدة من النظام القائم على الدولار اليوم تتجاوز فوائده. كما لا ننسى أن الصين زادت بشكل مطرد من تطورها المالي مع التركيز على زيادة أهمية عملتها.
بناء على ذلك، يرى فوك أنه بدلا من الانخراط في سباق تسلح جيواقتصادي بين البلدين، يمكن اللجوء لسياسة "التدمير المالي المتبادل" حيث ستنطوي بدورها على تعميق الاعتماد المتبادل بطريقة تجعل من غير المتصور أن تمارس الولايات المتحدة أو الصين ترسانتيهما الماليتين ضد بعضهما البعض في أسواق المال، وبالتالي تعزيز السلامة لكليهما.
على سبيل المثال، يمكن للأسواق الغربية قبول السندات الحكومية الصينية كضمان للقروض. وهذا من شأنه أن يخفف من ضغط الديون على الولايات المتحدة؛ لأنها لن تحتاج إلى إصدار عدد أكبر من السندات لتليين أو تسييل الأسواق العالمية. في المقابل، ستستفيد الصين من خلال خلق الطلب على اقتراضها الخاص، حيث أن ارتفاعه سيسهم لتلبية متطلبات الرعاية الاجتماعية لمجتمع سريع الشيخوخة. وسيتم الاحتفاظ بالسندات في حسابات إيداع في هونج كونج، وهي سوق تحكمها قواعد يفهمها الغرب، ولكنها أيضا جزء من الصين.
ومع ذلك، يكمن التحدي الأكبر في تآكل الحماية؛ فالصين نفسها تشعر بأنها عرضة لهذا الضبط في الوقت الحالي كما هو حال العقوبات الأمريكية على روسيا. إن تعريض المستثمرين الغربيين لمخاطر مماثلة هو النظير غير المريح لجعل السياسة المقترحة ناجحة.
أما الاقتراح الآخر لدى فوك، فهو أن الصين يمكنها أن تسمح لمواطنيها بالاستثمار في الخارج إذا كانت هذه الأوراق المالية محتجزة في هونغ كونغ. وهذا من شأنه أن يساعد المدخرين الصينيين على كسب عوائد أفضل، كما ستتمكن الشركات الغربية من الوصول إلى رأس مال العديد من صغار المدخرين الصينيين، وهو مصدر عوائد تتجاوز الاستثمار المباشر في الشركات المملوكة للدولة؛ حيث يشكل نقل التكنولوجيا مصدر قلق حقيقي.
يجادل النقاد بأن محاولة فوك لضم النقاط بين الاختلالات المالية، وتراجع القدرة التنافسية للصادرات في أمريكا، والتقسيم غير المتكافئ للغنائم على جانبي المحيط الهادئ، والتحول نحو النزعة العسكرية والقومية، هي محاولة خيالية ومثيرة للإعجاب على حد سواء. لاريب أن تتبع صُنّاع السياسات وممارساتهم ومعاييرهم مفيد للغاية في تسليط الضوء على التاريخ الذي يسترشد به اللاعبون الرئيسيون في عملية صنع القرار. ومع ذلك، فإن هذا الطموح المفاهيمي يشكل نقطة ضعف أساسية في منهجية فوك. ولعل عجز الكتاب يكمن في توفير قدر من الاختبارات الإحصائية والتحقق من الفرضيات السببية المعروضة. إن إلقاء اللوم على "معضلة تريفين" والتطور التاريخي لنظام بريتون وودز في أوجه عدم المساواة التي تعاني منها أمريكا اليوم، ربما يتطلب المزيد من الأدلة والبراهين في تفسير أين يتم تقييد الحلول البديلة لعدم المساواة بشكل منهجي، وكيف أن الجهات الفاعلة المتواطئة التي تثير عدم المساواة قد استفادت من الوضع المهيمن للدولار الأمريكي في الخارج.
في الختام، هناك العديد من الناس يعرفون جيدا التاريخ الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، ولكن بالنسبة لأي شخص مهتم بالتاريخ المالي والمستقبل بين هاتين القوتين العظمتين، يجب أن يضع هذا الكتاب ضمن قائمته. يسلط كتاب جيمس فوك الضوء على العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة والصين اليوم. وكذلك التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي في العصر الحديث. استخدم جيمس فوك وجهة نظره الفريدة لتحليل التقاطع بين التمويل الدولي والاقتصاد الصيني لتقديم رؤى للبعد الجيواقتصادي الجديد. صُنِّفَ هذا الكتاب في قائمة الفايننشال تايمز لأفضل الكتب الاقتصادية لعام ٢٠٢٢م.
تفاصيل الكتاب:
عنوان الكتاب: الحرب المالية الباردة: نظرة على العلاقات الصينية الأمريكية من الأسواق المالية
المؤلف: جيمس فوك
الناشر: Wiley
سنة النشر: ٢٠٢١
عدد الصفحات: ٥١٢
اللغة: الإنجليزية
