ماركو غاطو
عزالدين عناية
تُهيمن على الكتاب الذي نعرضه رؤية تحليلية بارزة، ميّزت مختلف المحاور، وذلك من خلال انشغال صاحبه بمتابعة المدارس الفكرية والفلسفية التي أثّرت في تكوين المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد وفي صياغة أفكاره. وقد أولى الباحث ماركو غاطو في مؤلفه الأخير اهتمامًا بأعمال كاتب عربي أبرز من خلالها وجها مهمّا لمفهوم الالتزام بشتى أبعاده، وإن لم تكن لهذا المؤلف اهتمامات سابقة بالثقافة العربية. نشير إلى أن ماركو غاطو هو باحث إيطالي من جيل الباحثين الجدد الذين يطبع انشغالاتهم الانفتاح على القضايا العالمية والهاجس الإنساني، وهو من مواليد 1983.
ينتمي الباحث في تكوينه وفي عمله إلى قسم الدراسات الفيلولوجية في جامعة كالابريا الإيطالية. وعمله المعنون بـ "الإنسانوية الراديكالية والمسؤولية السياسية لدى إدوارد سعيد"، هو من الأعمال التحليلية النقدية التي تتابع أساسا فلسفة النظرية الفكرية لدى إدوارد سعيد وخلفياتها النضالية الإنسانوية. فقد مثّل إدوارد سعيد في الفكر الغربي محطة بارزة، سواء في المجال الفكري أو المجال السياسي، بنقده الجذري للأطروحات الاستشراقية، أو في مجال ربط المعرفة بالالتزام السياسي والنضال الحركي. وهما خاصيتان قلّما توفرتا لغيره من الكتّاب في الحقبة المعاصرة، مما بوّأه منزلة معتبرة على الساحة العالمية. فقد رحبت الأوساط الفكرية المنتقدة للخيارات الرأسمالية وللرؤى المركزية في الحضارة الغربية بكتاب "الاستشراق" لسعيد واحتفت به أيما احتفاء. وبلغ تأثير دراسات إدوارد سعيد في الاستشراق وفي الدراسات الغربية حول الآخر حدّ التأريخ لحقل الدراسات الشرقية، بما قبل إدوارد سعيد وما بعده، لما أسهم به من تجديد.
إذ الشيء اللافت في المسار الفكري لإدوارد سعيد، وهو ارتباط المعرفة لديه ببُعد عملي، وبهمّ نضالي. لذا يرصد الباحث مسار الالتزام بالشأن المدني لدى إدوارد سعيد، وهو التزام رافق مساره الفكري عموما وطبعه بطابع المسؤولية التي ظلت حاضرة في أعماله؛ فقد تميز انشغال سعيد بالشأن الأدبي والفكري والسياسي بطابع عملي مشرَّع على إنسانوية منفتحة، تتجاوز المجال الوطني والحيز القومي اللذين يتحدّر منهما. ولعلّ ذلك الاصطفاف الواضح جنب القضايا العادلة الذي ميز سعيد، والدفاع عن الحركات التقدمية والتحررية واستقلال الشعوب، والانفتاح الإنسانوي على فضاء رحب، هي العناصر البارزة التي يسّرت قبوله شرقا وغربا، باعتباره مفكرا كونيا ملتزما يشتغل على المادة الفكرية. يحلل ماركو غاطو أعمال إدوارد سعيد، ويسعى إلى استخلاص الجانب النضالي الإنساني منها، كما رشح من أعماله الأدبية أو الفكرية أو السياسية. فليس نص المفكر إدوارد سعيد، وفق المؤلَّف الذي نعرضه، نصا مفصولا عن توظيفاته الاجتماعية والسياسية، وإنما يأتي في قلب الخيارات.
يرصد ماركو غاطو مصادر إنسانية عدة في خطاب إدوارد سعيد، تستند في جوهرها إلى نضال ذي طابع كوني ميّز صاحبها. وهي سمة كما يرصد الباحث من سمات كبار المفكرين والمناضلين الذين تبدو لهم البشرية جمعاء بمثابة العائلة الواحدة وإن كانت تتهددها مخاطر من الداخل، تتمثل في التفريق الطبقي والاستغلال الاقتصادي وما شابه ذلك. وعلى ما يرصد مؤلف الكتاب، فقد جاء إدوارد سعيد من ساحة النضال الكوني باتجاه قضية فلسطين، وباتجاه قضايا العالم الثالث عموما. ولم ينطلق من قضايا الذات والوطن والثقافة المحلية، بل جاء مما هو كوني إلى ما هو محلّي، وهو ما أضفى مصداقية على طروحاته وأفكاره. فلم تكن فلسطين، ولا العالم الثالث، ولا الفئات المستغَلّة، المنطلق لدى إدوارد سعيد؛ بل انضمت مختلف تلك العناصر إلى البؤرة التي تنصهر فيها المسؤولية السياسية والالتزام الفعلي، اللذان طبعا مسار إدوارد سعيد الفكري. وضمن هذا السياق الرحب والمنفتح الذي تحرك فيه سعيد، لم تمثّل فلسطين منطلَقا له في نضاله الإنسانوي، بل شكلت جانبا من خصومته مع عقل رأسمالي غربي مهيمِن، يسعى بإصرار إلى إخضاع العالم لمشيئته ودفع مساره نحو مصائر تتحكم بها قلّة.
فليست منتجات الأدب والفكر والفن، وفق إدوارد سعيد، عناصر بريئة، كما يبدو الأمر للوهلة الأولى، وإنما هي أدوات حاضرة في ساحة التأثير والانخراط ضمن توجّه محدد وغايات مقصودة، أي بما يعني في الخيارات الكبرى الاجتماعية والسياسية. وهو ما أفاض ماركو غاطو في شرحه والبرهنة عليه من خلال استدعاء جملة من النصوص، والمداخلات، والمواقف التي أدلى بها إدوارد سعيد وعبّر فيها عن هذه الفكرة الجوهرية لديه. لقد بذل المؤلف جهدا مقدّرا في شرح هذه الثيمة في فكر إدوارد سعيد، وذلك بمتابعة آثاره التي لم تهمل حواراته أو مقالاته، علاوة على التركيز على مؤلفاته الأكاديمية الواسعة الانتشار وبلغات متعددة.
ثمة وجه آخر يرصده غاطو في مؤلفه، فهو يعتبر إدوارد سعيد من رواد التفكيكية على مستوى كوني، بما سعى إليه من كشف للأساليب والأدوات التي تعتمدها القوى المهيمِنة في السيطرة على الفئات المستضعَفة وعلى الجماعات الهشة، وذلك من خلال تحليل الخطاب السائد في الفكر والأدب والفن، فضلا عما يسود في الإعلام المروَّج. وقد اعتلى سعيد تلك المنصة الشامخة بفضل العتاد النقدي الثري الذي وظّفه، وهو ما مثّل نقيضا فاعلا ضد مقولات صراع الحضارات أو التقابل الصدامي بين الشرق والغرب، ولعل هذا الرأي هو ما يلخّص مضمون كتاب ماركو غاطو. فليست المسألة بين الحضارات والثقافات، كما يرى إدوارد سعيد، وإنما هي بين أطراف مهيمِنة وجموع تبحث عن التحرر وتقرير المصير، بما يُخرج مدلول الصراع من مدلولاته الرأسمالية التوظيفية إلى مدلول إنساني أرحب.
الكتاب مميّز في موضوعه ولا سيما في تركيزه على جانب من جوانب اهتمامات إدوارد سعيد الفكرية. فإدوارد سعيد ابن مدرسة فكرية نضالية بامتياز تمتح من أنطونيو غرامشي وجورج لوكاش وآخرين وفق الكاتب. ولكن البين أنّ إدوارد سعيد وإن اعتمد النقد والتحليل في رؤاه، فقد كان دائما منفتحا على مختلف المدارس التحليلية دون انغلاق في رؤية حصرية. ولعل تجاوز الانخراط الإيديولوجي هي الميزة البارزة لإدوارد سعيد مقارنة بغيره من النقاد المنخرطين ضمن أنساق إيديولوجية.
من جانب آخر تفتقر الساحة العربية إلى كتاب تحليلي من هذا الصنف، وإن تكن جملة من أعمال إدوارد سعيد مترجمة إلى اللسان العربي فإنّ الكثير من الأبحاث والدراسات التي تحلل فكره، والمنجزة بلغات غربية، تبقى غائبة في العربية. وهو ما يجعل مؤلف غاطو جديرا بالترجمة لمتابعته الدقيقة التي تتعلق بالالتزام السياسي والنظرية الفكرية لدى إدوارد سعيد؛ إذ أن مؤلف الكتاب غاطو يحرص على إبراز العنصر التفكيكي العميق الذي ميز فكر سعيد، في تعامله مع الثقافة عموما. فمن خلال تحليل الخلفيات التي تسكن أعمال إدوارد سعيد الفكرية يرنو الباحث إلى إعادة رسم دور الأدب ومهامه، باعتباره التزاما ومسؤولية أو لا يكون. فهناك روح نضالية محتدمة تخترق أعمال سعيد تطفح بها جلّ أعماله، يحاول المؤلف الإيطالي الإمساك بأبعادها ومتابعة تعرجاتها.
يستدعي ماركو غاطو للغرض، في مؤلفه، الأدوات السيميائية في رصد محاور الالتزام السياسي لدى إدوارد سعيد. إذ يعتبر سعيد الساحةَ العالمية ساحة صراع فكري وتدافع سياسي، بين مهيمِن ومهيمَن عليه، وبين أطراف متحكمة وأخرى يراد لها الاتباع والإذعان. وفي غمرة هذا التدافع المحموم بين ثقافتين وبين موقفين، فإنّ الرصيد الذي يدعم ثقافة الالتزام، الهمّ الإنساني والانفتاح على الكوني، يجعلها منطلقة من الإنسان وعائدة إليه. ومن خلال بيان عناصر تلك الثنائية تتوزع الأطاريح الفكرية التي حاول سعيد دحضها ونقيضتها التي حاول إثباتها. لكن هذا التقسيم الثنائي لا يبدو جامعا مانعا، وفق الكاتب ماركو غاطو، إذ تبدو ثقافة المهيمِن فاعلة ومؤثرة في ثقافة المهيمَن عليه ومؤثرة على خياراته ومساراته. لذا تعجز أدوات الطرف الأخير أمام وطأة الهجمة، والافتقار إلى القدرات اللازمة للوقوف أمام الآلة الثقافية الكاسحة للمهيمِن، وذلك في غياب الوعي البنيوي، ولهذا لطالما ألحّ سعيد على أنّ الثقافة المقاومة ما لم تعِ عناصر هذه اللعبة، وما لم تدرك موازين القوى السائدة في الساحة الثقافية، فإنها توشك أن تنحصر وتتراجع لتفسح المجال لغريمتها.
نشير إلى أن المؤلف ماركو غاطو لم يسبق له أن أصدر أعمالا تتناول الثقافة العربية أو تعنى بقضاياها، القديمة منها أو الحديثة، وإن سبق له إصدار مجموعة من الأعمال الأخرى نذكر من بينها: "الماركسية الجديدة لدى فريدريك جامسون.. الديالكتيك والنظرية الأدبية" (2008)؛ "غلين غولد والنغم المادي.. نحو علم جمال المقاومة" (2009)؛ "الماركسية الثقافية.. الجماليات والسياسة في الأدب الغربي" (2012)، وهي أعمال في مجملها تندرج ضمن تحليل الخطاب وتتبع المدارس الفكرية والأدبية. وقد يسّر له ذلك تخصصه في المسائل الفيلولوجية ذات الصلة بالواقع الاجتماعي والتحولات السياسية.
اعتمد المؤلف أدوات تحليل الخطاب الأدبي في نصّه بقصد الإلمام بأبعاد مقول إدوارد سعيد. وهي أدوات تذهب إلى غور الإلمام بالرموز والدلالات والاستراتيجيات المتحكمة بصنع الخطاب. وأقدّر أن الكاتب قد وفّق في الإحاطة بموضوع بحثه الذي حدّده. غير أنّ الرؤية الإيديولوجية لصاحب الكتاب التي تبدو بارزة، قد فوّتت عليه أحيانا الإلمام بالحسّ النقدي المشرّع الذي سكن إدوارد سعيد حتى في تعاطيه مع القضايا الإنسانية. وبرغم هذه النقائص في الكتاب بدت لغة الكاتب متينة، وهي تكشف عن مقدرة في الإحاطة بالعالم الفكري لإدوارد سعيد، وعن متابعة مدققة للقضايا التي شكلت الهاجس الدائم لسعيد. فالكاتب يبدو على إلمام واسع بأدوات المدارس الأدبية المتنوعة، لا سيما منها التي تشكلت في الغرب، غير أنّ نظرته الإيديولوجية أحيانا منعته من التفطن إلى ضيق الرؤى اليسارية في تناول شخصية مركبة مثل شخصية إدوارد سعيد؛ إذ كان سعيد توظيفيا للأدوات والمدارس دون موالاة عمياء للتوجهات الإيديولوجية.
أما على مستوى توزيع الكتاب وتبويبه، وعلى مستوى الفهرسة المعتمدة، فقد تضمّن البحث فهرسا للأعلام، فضلا عن جرد بالمصادر الغربية في لغات عدة مع غياب كلي للمصادر العربية. ونظرا إلى أن الكتاب ينشغل تحديدا بعالم الأفكار والنقد، فقد غابت الرسوم والجداول والخرائط من البحث، وهي كما نرى لا تمثل نقيصة في بنية النص. من جانب آخر نشير إلى أن الكتاب قد لقي متابعة متواضعة في الأوساط الإعلامية، ولا سيما منها المهتمة بإرث إدوارد سعيد، حيث احتفت به مجموعة من الصحف والمجلات الأدبية في إيطاليا نظرا لدقة الموضوع وعمقه. ونشير كذلك إلى أن الكتاب على أهميته، فهو لم يترجم بعد إلى العربية، وإن بلغني أنه مرشّح للترجمة إلى لغات غربية أخرى.
ووفق تقييمنا العام لهذا المنجز الفكري الجاد، يحوز مؤلف "الإنسانوية الراديكالية والمسؤولية السياسية لدى إدوارد سعيد" مكانة بارزة في سلسلة الأعمال المنجزة حول فكر سعيد. ويبدو الكاتب قد التزم خطة بحث واضحة أوفى في الإحاطة بها، وهو ما يجعل كتابه مرجعا متميزا في تناول أحد الجوانب المهمة في دراسة فكر إدوارد سعيد. معتمدا في ذلك على الأعمال الصادرة بالألسن الغربية، ومتّبعا التقاليد العلمية المعهودة في الكتابة الأكاديمية؛ فالخلفية النقدية للمؤلف جعلت نصه محلِّلا للمركزية الغربية في شتى أوجهها ومظاهرها؛ إذ يُبرز الكاتب الوجه الإنساني لإدوارد سعيد بعيدا عن الاتهامات التي لحقته من بعض الأطراف اليمينية أو الصهيونية التي انتقدت خياراته وتوجهاته. وبرغم بعض النقائص التي تخلّلت الكتاب، جراء منزعه الإيديولوجي الواضح، فإن المتانة العلمية التي صاغ بها هذا المؤلف الشاب نصه، والجودة العالية التي ميزت موضوعه، تنمّان عن قدرة وتمكّن من الأدوات المعرفية في النقد، وتكشفان عن متابعة واستنطاق للآثار الأدبية التي خلّفها الراحل إدوارد سعيد.
تفاصيل الكتاب:
الكتاب: الإنسانوية الراديكالية والمسؤولية السياسية لدى إدوارد سعيد
تأليف: ماركو غاطو.
الناشر: دار ميمزيس (ميلانو) 'باللغة الإيطالية'.
سنة النشر: 2022.
عدد الصفحات: 194ص.
